حوار في مسائل اقتصادية

156

يعتبر الدكتور نجاة الله صديقي مزيجا ً متفردا ً حيث يجمع إلى اختصاصه بالاقتصاد فهما ً شرعيا ً أصيلا ً يجعله قادرا ً على الاتصال بالتراث والأخذ عنه بتمكن الخبير بما يجري في عالم الاقتصاد …وهو يشغل الآن منصب أستاذ الاقتصاد في مركز البحوث الإسلامية الاقتصادية في جامعة الملك عبد العزيز. بجدة … وهو مؤلف لعدد من الكتب ، وله العديد من البحوث تُبرز موضوع الاقتصاد من وجهة نظر إسلامية … ونال جائزة الملك فيصل العالمية للبحوث الإسلامية سنة 1993 ، وحصل على جائزة بيت المال الأمريكي … وقد أجرى مندوب شركة الإعلام الإسلامي (Sound Vision) حوارا ً مفيدا ً مع الدكتور صديقي على هامش ندوة التمويل الإسلامي في لوس أنجلوس… وقد استأذنّا الدكتور صديقي بنشر ترجمة هذه المقابلة فأذن ، جزاه الله خيراً.

س ــ يتكرر ذكر الربا في البحوث الدراسات الاقتصادية الإسلامية ونحن نعلم أن الربا ممنوع (حرام) فهل لكم أن توضحوا لنا سبب هذا المنع وسبب اعتبار الربا ضررا بما يساعد الرجل العادي على فهم هذه القضية ؟

ج ــ لابد من الإقرار أن هناك شيء من الخلط والاضطراب في فهم هذا الأمـر وخصـوصـا في بلد مثل ( الولايات المتحدة ) حـيث يســــتعمل مصـطلح (interest) الفائدة للدلالة على معان متعددة مختلفة بينما تتحدد الفائدة المحرمة في الإسلام بنوع واحد من صور زيادة المال. فأولا تقتصر الفائدة المحرمة على الإقراض ، وأنا لا أتحدث عن الزيادة في عمليات المقايضة والتي أصبحت غير واقعية ومن غير المفيد عمليا الحديث عنها .

فإذا أقرض شخص مالا ووعد المقترض أن يدفع أكثر مما أخذ فهناك زيادة نتحدث عنها ، وليست كل زيادة حراما ممنوعا فإذا عمل الإنسان في تجارة أو اشترى عقارا وأجره وارتفع ثمن العقار وحقق ربحا فهذه صور من الاستثمار الذي يدر زيادة حلالا وليست متعلقة بالزيادة الربوية . وكثيرا ما تختلط في هذا العصر صور الاستثمار المشروع بالربا الممنوع . ولا بد من التأكيد على أن الربا يتعلق حصرا بالاقتراض حيث تأتي الزيادة على رأس المال.

أما لماذا حرم الربا .. فأظن أن الحكمة واضحة في هذا . فطبيعي أن المرء لا يقترض المال ليحتفظ به بعض الوقت، ولكن الناس عادة تقترض لتغطية تكاليف الحاجات الاستهلاكية أو تكاليف أعمالهم التجارية. فإذا كان الاقتراض من أجل الحاجات الاستهلاكية فموقف الإسلام واضح في أن من معه فضل من المال وكان أخوه بحاجة فعلى صاحب الفضل أن يعطي المال لصاحب الحاجة الذي يجب أن يعمل أقصى جهده لإرجاع المال في موعده المتفق عليه، فيجب أن لا تكون هذه الحاجة موضع استغلال.  ففي الوقت الذي لا ينفق المرء فوق طاقته فليس هناك من يجبر الناس على الاقتراض فإذا أقرض المرء أخاه لتغطية حاجاته الاستهلاكية فهذا عمل من أعمال الخير وليس عمل لجلب الربح . والسؤال المطروح الآن والذي يحير البعض هو حالة الاقتراض للتجارة فلماذا يمنع من يحقق الربح من المال المقترض أن يدفع أكثر مما أخذ أو لماذا يمنع المقرض من أخذ الزيادة .

فليست الزيادة هي الممنوعة ولكن إذا أراد المقرض ضمان الربح بدون مخاطرة أو مشاركة في أخطار التجارة فهنا يأتي المنع . فالمعالجة العادلة لقروض التجارة هي في اقتسام عوائد التجارة فإذا حققت التجارة أي مكسب وإذا تعرضت التجارة لخسارة ساهم المقترض في تحمل الخسارة.  وفي هذه النقطة نفترق عن الرأسمالية التي تتحيز لصاحب المال وتجحف بحق المقاولين والتجار الذين يلتزمون بالعقود بكل مخاطرها . فالإسلام يحرم الربا ولو كان القرض للتجارة لتأمين العلاقة العادلة بين الدائن والمدين أي بين المستثمر وأصحاب الأعمال الذين يقومون بالاستثمار والتجارة . وأعود لأؤكد أن الممنوع في هذه العملية ليست الزيادة وإنما هو ضمان العائد في ظروف لا تضمن دائما زيادة رأس المال . وإذا نظرنا في أحوال الحياة فإننا نجد أنها مبنية على قسط كبير من الاحتمال وعدم اليقين مما ندعوه مخاطرة . فالإسلام يتصور علاقة مشاركة بين رأس المال والحس التجاري أو خبرة الإنجاز حيث يحصل كل منهما على قسط من زيادة القيمة الحاصلة من عملية رابحة مولها رأس المال وفي حالة الخسارة يتحمل رأس المال نصيبه ويخسر العامل الحصول على أي تعويض لجهوده.

س ــ كثيراً ما نسمع من عدد من العلماء أن التأمين الإسلامي هو نوع من جمع المتناقضات ، بمعنى أنه لا مـكان في الإسـلام لما يسـمونه التأمين (insurance). فهل لك أن تلقي بعض الأضواء على هذه القضية ؟

ج ــ  لا علم لي أن أحدا في العالم الإسلامي يقول أنه لا مكان للتأمين في الإسلام ــ بهذا الإطلاق والتعميم ــ فهناك تفريق بين التأمين على الحياة (life insurance) وتأمين السيارات والتأمين ضد الحريق ومهما يكن المنطق الكامن وراء فكرة التأمين أو الآليات المقترحة فإن معظم العلماء الآن بما في ذلك علماء في السعودية و الهند وباكستان والولايات المتحدة يسمحون بالتأمين ولكنهم يتمسكون بتحفظاتهم أو رفضهم للتأمين على الحياة ، فلا بد من التفريق ولا بد من تجنب التعميمات عند مطالعة وجهات النظر الدينية المعاصرة . فعند الناس تصور سلبي للتأمين ويمكنني القول إن أكثر هذا التصور مبني على جهل بطبيعة عقد التأمين والغفلة عن تغير الظروف و الأحوال عما كانت عليه قبل ألف سنة من الزمان . وما أريد أن أقوله أن أكثر الفقه التقليدي يركز على العلاقة الجزئية بين فردين أو شخصين ، أما الآن فقد أصبحت العلاقات أكثر تعقيدا . فليست العلاقة مجرد عقد بين شخص يدفع أقساط التأمين وشركة تضمن دفع مبلغ ما إذا حدث أمر من الكوارث  أو الأضرار .

إن هناك ما يسمى بقانون الأعداد الكبيرة أو قانون ( المتوسطات ) وهناك فكرة التجميع الكبير الذي يدخل في العملية ، وهناك الصورة الكلية الإجمالية الشاملة إذا لم تستحضر فعند ذلك يرد السؤال: كيف يحصل المرء على مبلغ كبير وهو قد دفع مبلغا بسيطا . بينما يستمر شخص آخر في دفع أقساط التامين لفترات طويلة دون أن يحصل على شيء بالمقابل ؟. فمثل هذه الأسباب جعلت عقد التأمين عرضة لسوء الفهم . فهذا هو ما أفهمه عن هذا الموضوع وقد وجدت أن الأوضاع قد تغيرت كثيرا عما كانت عليه منذ ثلاثين سنة . وقد اصبح من الممكن أن نرى بعض الكتابات والتي كانت متحفظة جدا بدأت تميز وتفرق بين التأمين المباح و التأمين الممنوع وبدأت بعض الكتابات تقدم وتقترح بعض الحلول المبنية على فكرة التكافل أو التبرع أو ما شابه ذلك . وإني أرى أنه مهما تكن صياغة العقد ومهما يكن أساس أو منطق الحل فإن الفكرة الأساسية تبقى واحدة وهي الفكرة القائمة على حساب الاحتمالات . فعندما نتعامل مع أعداد هائلة فإن ما كان أمرا غير متيقن وغير مؤكد في حالة فرد معين يصبح أمرا ممكن الحساب بدقة عالية لفرد ما في مجموعة كبيرة .

وعلى سبيل المثال فإذا كان هناك مليون محل تجاري فإن واحدا من هؤلاء لا يمكن أن يعلم ما إذا كان محله سيحترق نتيجة تماس كهربائي أو غيره . فإذا نظرنا إلى إحصائيات ربع قرن ونظرنا إلى حوادث الحريق في مثل ذلك السوق فإن شركة التأمين يمكن أن تقدر بدقة كبيرة عدد المحلات التي يمكن أن يصيبها الحريق في عام واحد . وبمثل هذه الطريقة بنيت جداول حساب الاحتمالات وبهذه الطريقة تعمل هذه الصناعة، وهذا أمر على درجة من التعقيد ليس من السهولة فهمه وخاصة لأؤلئك الذين لا يقرؤون خارج إنتاج لغة واحدة ومعينة . ومن المعلوم أنه لا يوجد كتب كثيرة في لغات الشعوب الإسلامية والتي تشرح ــ مجرد شرح ــ كيف تتم عملية التأمين . فإذا ما استشير أحد العلماء فإنه يدلي برأيه بناء على اطلاعه ومعلوماته وكثيرا ما تكون المعلومات الموفرة غير كافية وغير كاملة وتكون النتيجة أن الرأي المقرر لا يقوم على أساس متين وتصور صحيح . ومن هنا لا يمكن اعتبار الأعراف شيئا مقدسا وهي دائما عرضة التغيير والتبديل .

س ــ ذكرتم في معرض حديثكم بعض المصطلحات مثل التكافل والتبرع والتي يمكن أن يكون لها علاقة بصور التأمين الموجودة في الغرب.  هل لكم أن توضحوا كيف يمكن لنظام تأمين إسلامي أن يستفيد من المبادئ الأساسية لخدمة المتعامل العادي ، وكيف يمكن لرجل يعيش في السعودية مثلا أن يقوم بتأمين بيته أو تجارته ضد بعض أشكال الحوادث أو الأضرار ؟

ج ــ كما ذكرت من قبل فإن قانون الأعداد الكبيرة أو قانون حساب المتوسطات يمكننا من حساب احتمال حدوث بعض الأضرار بدقة عالية . ويمكن استعمال هذه الفكرة المحورية بدعوة أولئك الذين يريدون المشاركة لدفع مبلغ ما لكل فرد لإنشاء صندوق تتجمع فيه هذه الدفعات ويجري التعويض على المتضررين وضحايا الحوادث من هذا الصندوق لتستمر حياتهم بعد ذلك بسلام واستقرار كما كانت عليه قبل الحوادث وما وقع من حريق أو غيره . وينسى بعض الناس الفرق الكبير بين التأمين والأمور الأخرى . فالتامين لا يجعل الإنسان أكثر غنى وثروة ولكن التأمين يعيد حياة المصاب إلى ما كانت عليه قبل الحادث أو قبل الحريق .

والآن كيف ينشأ هذا الصندوق وكيف يدار وكيف تستثمر أمواله؟ هناك إمكانيات مختلفة . وفي حالة التأمين الإسلامي هناك أمر واضح وهو أن المال المتجمع يجب أن يستثمر إسلاميا عن طريق أشكال الاستثمارات التي تؤمنها المصارف الإسلامية أو صناديق الاستثمار . والأمر الآخر هل تعمل شركات التأمين لتحقيق الربح أو أنها تعمل بشكل تعاوني بحيث توزع فوائض الأموال على المشتركين. فهذا أمر سياسة وإدارة . والتاريخ يثبت أن الشكل التجاري هو الأكثر فعالية عندما يتوزع عدد كبير من الناس على مناطق واسعة . ولهذا السبب فإن كثيرا من التعاونيات أخذت في تغيير شكل تنظيمها إلى شركات تجارية مساهمة . وعلى كل حال يجب قبول واعتبار ما تثبت فائدته للمجتمع، ويمكن للأقساط أن تكون مختلفة من قطر لآخر . ويمكن توحيد أقساط تأمين السيارات أو غير ذلك كل هذا أمر مفتوح وليس هناك مانع من تنظيم هذا الأمر بشكل أو آخر . وقد أقرت الآراء الدينية المعاصرة فكرة التأمين بالتكافل باعتبار الأقساط تبرع أو هبة . وعلى هذا تعتبر الأقساط المدفوعة لصندوق التأمين هبة لا يراد منها المعاوضة أو المبادلة باتفاق جميع المتبرعين، وتدفع من هذا الصندوق تعويضات لضحايا الحوادث . أما أنا فلا يعجبني هذا الطريق من التفكير لأن هذا التبرع مشروط فأنا أدفع وأقول أني لا أنتظر شيئا بالمقابل والحقيقة أني أدفع وأتوقع أن أحصل على تعويض إذا ما أصابني شيء . فالأفضل أن نتقبل الحقيقة أننا ننظم هذا الأمر بناء على قانون الأعداد وبناء على استعمال اكتشاف جديد ، اكتشاف رياضي وهو أمر يفيدنا ولا أرى في الشريعة ما يمنع من استعماله . وقد نشرت كتابي في هذا الموضوع عام 1974 باللغة الأوردية ونشر بالإنجليزية عام 1983. ورغم أنه ما زال هناك من يرفض فكرة التأمين التجاري فإن هناك على امتداد العالم الإسلامي شركات تأمين قامت بموافقة علماء وتقوم بتأمين البيوت والسيارات وليس التأمين على الحياة إلى الآن.

س ــ سبق أن أشرتم إلى ما ينشر بلغات العالم الإسلامي وأود أن أسأل فيما يخص موضوع الاقتصاد والدراسات الإسلامية بشكل عام ، ما هو رأيك في حال المتوفر من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي في عالم اليوم ؟

ج ــ تكمن المشكلة في أن المعارف قد تقدمت بشكل كبير وواسع ونحن نعاني من نقص الإمكانيات التي يمكن تخصيصها لاكتساب المعرفة مما أدى إلى تخلفنا . فإذا أردنا أن نجد شيئا في لغة الأوردو أو العربية عما يجري في الأسواق المالية المعاصرة ليتمكن العالم بالشريعة معرفة ما يجري وفهم حقيقة المصطلحات وأنواع المبادلات فإننا لا نجد شيئا من ذلك . ومن جهة أخرى ليس هناك عدد كاف يستطيع فهم هذه المبادلات الجديدة بما كتب بلغاتها الأصلية فماذا نفعل؟ .. هذه هي المشكلة . وليس هناك مخصصات كافية ليتمكن العلماء من مجاراة هذه الأمور ومعرفتها حتى يتحدثوا عنها . فإذا تحدثنا عن الاقتصاد الإسلامي فإن جل ما ينشر هو بالعربية والإنكليزية، ويعتبر المنشور بالإنكليزية ذا نوعية أعلى نظرا للكفاءة العلمية العالية التي يتمتع بها من يملك التواصل باللغات الغربية . فالكتابات باللغة الإنكليزية في الاقتصاد الإسلامي هي أكثر تقدما وأعمق تحليلا. والكتابات المتوفرة بلغات العالم الإسلامي قد تكون كثيرة ومتنوعة ولكن النوعية متردية جدا .

س ــ أشرتم في حديثكم إلى ضرورة اطلاع علماء الشريعة على ما استجد في عالم الاقتصاد أو علم الأحياء أو غيرها ليتمكنوا من جمع المعرفة الشرعية إلى المعرفة العلمية في أي حقل من الحقول. ويبدو أن هناك حاجة لترتيب الأولويات ووضع جدول أعمال للبحث العلمي فما رأيكم بهذا الأمر ؟

ج ــ إن هذا الذي تتحدث عنه هو حاجة يبق أن شعر بها المعنيون بالأمر منذ خمسين سنة أو قل منذ قرن كامل . وللأسف فإن المطلوب بإلحاح لم يتم حتى بعد أن حصلت الدول الإسلامية على استقلالها وأدارت جامعاتها وحتى بعد أن صبت عائدات النفط في خزينتها ورصدت الإمكانيات لإنتاج علماء يعلمون الحياة الجديدة المعاصرة بمعاينة ومعايشة كافية وملاحظة للواقع واطلاع على ما ينشر بما يوضح ما يجري في الواقع . فإن مثل هؤلاء العلماء يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة . فالعلماء المتمكنون من العربية والإنكليزية والمتعمقون بالدراسات الإسلامية في الاقتصاد والتمويل هم قلة نادرة .

والآن ما العمل ؟.. إنه لا بد من توفر المخصصات ولا بد من توفر المؤسسات التي تجمع علماء الشريعة وعلماء المعارف العملية المعاصرة تحت سقف واحد ليتمكنوا من الحوار والمدارسة والتواصل . فهل حدث شيء من هذا في أي بقعة من العالم ؟. إن هناك بعض الأمكنة والتي تسمع فيها عن مراكز لبحوث الاقتصاد الإسلامي أو جامعات إسلامية عالمية، فإذا ذهبت هناك وأمعنت النظر فستجد أن الإمكانيات المتوفرة لا علاقة لها بمتطلبات الوقت والعصر، ولهذا تجد أنه بعد ما يزيد على ربع قرن من تأسيس مثل هذه المراكز أننا لا نجد قدرا من الإنجاز يتناسب مع ما نتوقعه وما نؤمله منها . إن الأمر ليس على قد من السهولة . خذ قضايا الاقتصاد وقضايا التمويل ، إن علينا أن نجد الخبراء في حقل مخصوص من الاقتصاد أو التمويل لأنه لا وجود لخبير في جميع قضايا الاقتصاد أو جميع قضايا التمويل . فليس الأمر أن نستدعي ونجمع عددا من الأشخاص لنؤسس مركزاً للدراسات الاقتصادية الإسلامية أو مركزا للبحوث والتدريب كما هو الحال في بنك التنمية الإسلامي IDB  أو عدداً من الأشخاص في إسلام آباد أو كوالالامبور ونتوقع أن نكون قادرين على التصدي لتحديات القرن الواحد والعشرين إن الأمر أكبر من هذا بكثير .

س ــ ما الذي تود أن ترى تحقيقه في هذا الأمر وما هي توصياتك التي ترى أن بإمكانها رفع مستوى دراسات الاقتصاد الإسلامي لتواكب وتساير واقع عالم الاقتصاد اليوم ؟

ج ــ أعتقد أن هناك أمل في بلد مثل الولايات المتحدة أكثر من أي بلد آخر . وبالطبع فإننا ما زلنا نأمل في بلاد مثل باكستان أو إيران أو ماليزيا أو دول الخليج والذين يلتزمون بتنظيم القطاع المالي بطريقة إسلامية أن يخصصوا بعض الموارد للبحوث الأساسية . ولكن النظر إلى ربع القرن الأخير والذي شهد مولد العديد من البنوك الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية فإن جزءا من واحد بالمائة من أرباح هذه المؤسسات لم يخصص للدراسات والبحوث ولهذا ليس لدى كبير أمل .

إني أحث وأشجع دعوة هؤلاء المعنيين لعمل ما يجب عمله فإذا شعروا وأدركوا الحاجة وقاموا بحملة بين رجال الأعمال ورجال المال فسيعملون على إقامة هيكل علاقة لدعوة علماء واقتصاديين وماليين وخبراء للعمل في مشاريع محددة ولبدأ على الأقل بوصف واضح مفصل للعقود الجديدة ثم تعرض وجهات النظر المختلفة وتناقش بصراحة وحرية .

ولكن المشكلة في هذا القسم من العالم -أعني دول الخليج وشبه القارة الهندية- فإن المرء إذ تبنى أو عرض وجهة نظر حول أي قضية مالية وكانت لا تتطابق مع التصور العام أو بعض الفتاوى .. فإنه لن يلقى ترحيبا لعرض آرائه وسيجد أن الظروف والأوضاع لم تعد مواتية لأي تواصل لاحق .

علينا أن ننهي هذا الوضع .. ولهذا ليس هناك مكان أفضل للمناقشة والحوار الحر والتساؤل والبحث والتحقيق بشكل عميق مما تؤمنه الولايات المتحدة . وأرى من الصعب أن نحدد مكان البداية ولا أدري كيف تكون البداية ولكني أعلم بشكل كاف أن النتائج المرجوة من باكستان أو السعودية أو ماليزيا لم تظهر، فلا بد من عمل مختلف وربما لا بد من البداية في مكان مختلف .

س ــ تمتلكون بحمد الله مزيجا متفردا من العلوم الإسلامية وفهم المنظومة الاقتصادية الحديثة وكذلك أنجزتم الكثير في علمكم بفضل الله، فما الذي تود إنجازه في مهنتك الآن هل يكمن في مقاربة جديدة للاقتصاد الإسلامي أو روح البحث والتحقيق أم أن هناك تحد معين تريد أن تتبنى مجابهته؟

ج ــ عندما نبدأ حياتنا المهنية كباحثين أو اقتصاديين مسلمين غالبا ما تتركز جهودنا ونيتنا على أنفسنا ، أعني على أمة الإسلام ، وخاصة تلك البلاد التي تتبنى أسلمة نظامها المالي مثل باكستان وإيران والسودان وغيرها . وقد حاولنا أن نكتب في هذا الموضوع بما يعين هذه البلدان للتعرف على القطاع الملي والفعاليات الاقتصادية من منظور إسلامي . ولهذا كان اهتمامنا على المصارف بدون ربا أو تأمين إسلامي والمشاركة وما إلى ذلك .

وعند النظر إلى ما حدث في هذه البلاد وكيف أن هذه الأفكار استخدمت أو أسيء استخدامها للوصول إلى أغراض سياسية ولم تطبق هذه الأفكار بشكل مخلص وأمين أو بشكل فعال على الأقل ، فقد أخذت أنظر إلى الموضوع بطريقة أخرى. ولكن المرء لا يستطيع أن يترك بيته فوضى بدون ترتيب ويتوقع أن يأتي آخرون إلى ما ندعو إليه من طرق للتعامل والإنجاز . ولكن في نفس الوقت لا بد أن نقدم أنفسنا إلى الإنسانية بشكل عام وذلك لسببين مهمين:

أولهما يأتي من وضع الإنسانية الآن فكل شيء ليس على ما يرام في القطاع المالي وكذلك ليس الأمر بأحسن حالا في الاقتصاد ، فالغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا مع كل ما يأتي مع هذا الطرح من زيادة الجرائم وزيادة التوتر التهديد للسلام والأمن .

وثاني الأسباب أن وجود المسلمين خارج دائرة العالم الإسلامي التقليدي يزداد يوما بعد يوم ، وهنا تكمن فرصة عملية ، فما لم نصل بالمواطن العادي في أمريكا أو أي بلد آخر مثل الهند على طريقة الثقة لاقناع الناس والوصول بهم إلى معرفة وتذوق وحتى دعم طريقتنا في إدارة العمل التجاري والمصارف والتأمين وترتيب الاقتصاد ، فإننا نخسر الفرصة لنرتب حياتنا نحن على الطريقة الإسلامية ، وإنني متفائل وأظن أننا عندنا ما نقدمه للإنسانية ولكن هناك صعوبة في تحديده بدقة .

وأما عن سؤالك فيما أنوي عمله في المستقبل فأرجو أن أوفق في بيان أهمية ومكانة القيم الأخلاقية والقيم السلوكية في الحياة الاقتصادية: لقد مرت الإنسانية عبر طور ضاقت خلاله بشرور الرأسمالية والاقتصاد الحر ، وحاولت أن تجرب نوعاً من الاقتصاد المنضبط ، وبعد أكثر من سبعين سنة من تجارب الاشتراكية والشيوعية أدركت الإنسانية أن هذه التجارب لن تقودها إلا إلى ما هو أسوأ، فليس هناك طريقة لحياة إنسانية كريمة بدون حرية . والآن كيف نعيش بحرية ونتجنب شرور الرأسمالية . إن هناك شيئا واحدا افتقدته الإنسانية عبر القرون الثلاثة الماضية والذي يكمن في مساهمة القيم الأخلاقية والتي تأتي طوعا من ضمير الإنسان ، وهذا أمر لا يختص بالاقتصاد وقد يكون أكثر مناسبة للحياة العائلية والعلاقات الاجتماعية ، فأنا أريد أن أسبر هذا المجال وأرى كيف يساهم الالتزام الأخلاقي وكيف يساهم تأكيد وتعميق الأجواء الأخلاقية في المجتمع بتحسين الاقتصاد وتدعيم الأسرة وبناء مجتمع أفضل .

وأرجو أن يفهم من ذلك أني أنوي كتابة شيء ليشرح كيف يمكن تطوير الاقتصاد بالأخلاق . لا بالطبع . فالدولة موجودة ويجب أن تكون هناك لحماية الضعيف وتأمين حد أدنى من الالتزام بالأعراف الاجتماعية . وحرية العمل والتجارة يجب تأمينها وحمايتها لفسح المجال للإبداع والتطوير . فهناك حرية العمل وحماية الملكية ومراقبة وتوجيه الدولة من جهة ، وهناك دور القيم الأخلاقية والسلوكية من جهة أخرى فإن العلاقة بينهما لم تدرس بما فيه الكفاية لأسباب تاريخية لا مجال لذكرها الآن .

فهذا ما أريد أن أركز عليه في المستقبل وكما قلت في البداية إن مثل هذا الأمر يهم الجميع وإذا ما أنجز هذا الأمر كما أتصوره فإنه لن يعالج مشكلات المجتمعات والدول الإسلامية فحسب بل سيعالج المجتمعات الإنسانية بشكل عام، فنحن جزء من المجتمع الإنساني الواسع الذي أصبح فعلا مجتمعا واحدا وهذا ما جعل هذا الموضوع على رأس اهتماماتي . فليس من الممكن أن تجري الأمور في ركن من العالم بطريقة ما وتجري الأمور بطريقة معاكسة في باقي الأرجاء. لابد من إقناع الآخرين فليس بإمكان أحد أن يعيش كما يريد ما لم يقنع الآخرين بوجاهة طريقته على الأقل، فإذا لم يتبنوها فلا أقل من أن يظهروا الاحترام ، احترام الحق في أن يعيش أحد بهذه الطريقة .

إن هذا الحق مسلم به في المجال الفردي وقانون الأحوال الشخصية والأسرة ولكن من الصعوبة بمكان أن نفصل الأمور الاقتصادية والمالية بنفس الطريقة التي نفصل الأمور الفردية، فلا بد من وجود تعاون وتفهم وتعاطف أكبر من كل من حولنا حتى نتمكن من أن نشتري بيوتنا أو نجري عقود التأمين أو أن نجري معاملات المصارف بشكل إسلامي أو نتداول السلع والعقود بشكل إسلامي، فأنا أود أن أركز على هذه الرسالة لتتفهم الإنسانية بشكل عام أساسيات التفكير والمعالجة للاقتصاد الإسلامي.

س ــ جزاك الله خيرا عن كل ما تفضلتم به ، هل لك أن تودعنا بكلمة أو توصية أخيرة ؟

ج ــ أشكركم لهذه الفرصة التي أتحتموها لي ، وإن ما أريد أن أقوله لإخوتنا المسلمين والمستمعين والقراء: يلزمنا الكثير من الصبر فأنا أرى الكثير من الناس يقفزون للحكم على الأشياء والأشخاص والمواقف والآراء . إن علينا أن نحترم حق كل إنسان في التفكير وحقه في التعبير عن آرائه ونعطيه الاهتمام بتواضع ، فإذا بدأنا من الموقف أن أحدا من الناس يعلم كل الأجوبة عن كل التساؤلات فعندها لا فائدة ولا إمكان لأي حوار . إنه لا بد من التواضع ولا بد من الاعتراف والإدراك أننا لا نملك الأجوبة النهائية المتعلقة بالأمور الجديدة فما نبدأ بهذا التواضع وبدرجة أعلى من التسامح وسعة الصدر لوجهة نظر الآخرين فالوضع لن يتقدم ولن يتحسن وأدعو الله تعالى أن نصل إلى هذا الأمر وتلك البداية، وشكرا جزيلا…

شوال 1423 هـ / 12-2002 م