سيّد قطب والثورة العربيّة

218

تنعت الأدبيات الغربية سيّد قطب بأنه “فيلسوف الإرهاب”، ويستشهدون لذلك بنتفٍ من كتاباته… ومنذ بضعة سنوات كتب معتز الخطيب بحثاً عن مدارس فهم سيّد، بين تلك التي تجمع بين طروحاته وتلك التي تعتبر أن فكره تطوّر نحو الراديكالية. وفي هذه المقالة سوف أناقش مسألة فهم تراث سيّد وكمونه المستقبلي.

وابتداء أشير إلى أنّ في صياغات سيد إشكالاً واضحاً لا يخفى، متركز تحديداً في ثنائيات مفاهيمية صلبة (مجتمع جاهلي/مسلم، المفاصلة)، إضافة إلى ما يبدو إسفافاً في استعمال مصطلح الحاكمية وإقحاماً له في سياقات شتى.

الذي يفوت كثير من الناس أن فكر سيّد عاش يتيماً إلى حدٍ كبير، فلم يجرِ حقيقةً تبنّيه في أرض الكنانة ولا من جماعتها الكبرى، ولا اضطلعت بمقتضياته جماعة أخرى إلا على ضفاف حركتها، فاقتصر تأثيره على تعديل بعض المواقف وتلقيح الأفكار. أما الحركات الجهادية التي يجري الادعاء بأنها التزمت فكره فإنه كان لها منطق حركةٍ ومرجعيةٍ فكرية بعيدة جداً عن منطق سيّد ومدخله، ولا يعدو التشابه ظاهرَ الجرأة في قول الحق والوقوف في وجه الباطل.

وإذ يصعب الادعاء أنه كان لفكر سيّد دور في الربيع العربي، لكن احتمال أن يشكّل فكرُه مرجعيةً لهذا الربيع في المستقبل القريب احتمال وارد، ولن يكون داعياً للعنف العبثيّ بل ضابطاً له متحلّياً بنزعة قراءةٍ موضوعية للواقع. وسأعود إلى هذه النقطة بعد مناقشة الأسباب الداعية للتطرّف ثم تقليب النظر في طبيعة فكر سيّد.

حلقة في أدبيات التطرّف؟
ثمة طرح رائج مفاده أن الإرهاب سببه فكرٌ متطرف قديم، جذوره في الخوارج ثم ابن تيمية ثم يمرّ بالطرح الوهابي وأخيراً استقرّ في فكر سيد الذي تمثّلته الحركات العنفية من القاعدة إلى داعش. هذا الطرح متهافت من ناحيتين، من ناحية تفسير ظاهرة التطرّف ومن ناحية التسلسل الفكري.

أولاً، أما عن سبب ظهور الجماعات المتطرفة فلا خلاف في العلوم الاجتماعية أنها وليدة ظروف موضوعية. وفي حين أنه يمكن تفسير حركة التاريخ من خلال تحليل الطروح الفلسفية والدينية، إلا أن الطروح الإيديولوجية لا تعدو أن تكون استجابة للواقع. أي أن الظروف الموضوعية تدفع نحو ردّ فعل ما، فيتأبّط ردُّ الفعل هذا إيديولوجيةً ما متوافرة في البيئة المحيطة، فيبدو للناس أن الإيديولوجية هي السبب المطلق المنتج للتطرّف. نعم، بعدما تنغرس الإيديولوجية في تربة مناسبة وتسقيها ظروفٌ موضوعية، تكتسب هذه الإيديولوجية حياةً ذاتيةً وتصبح مولِّدة ولو بعد تخلّف الأسباب التي دعت إلى ظهورها أو إلى تبنّيها.

فمثلاً إذا أخذنا حالة التوتر في واقع بلادنا المسلمة، فهل تفسيره بالعسف الثقافي الذي تعيشه شعوبنا تفسير بعيد أو متكلّف؟ وهل ذكر سياسات الاستعمار ومخلفاته والهيكلية المولّدة للمشاكل التي زرعها تفسير تآمري؟ نسق التفسير هذا اعتذاري فقط عندما يبرّئ النفس من مسؤوليتها، وعندما يأبى أن يعالج جذور المشاكل وما استحالت إليه الثقافة بوهنٍ من عند أنفسنا وما آلت إليه السياسة والشأن العام بحبلٍ من الناس.

أما فيما يتعلق بالغلوّ وجماعاته، فهل يمكن لباحثٍ تجاهل تمزيق النسيج الاجتماعي، من أرض الشيشان إلى أفغانستان إلى العراق إلى سورية، وفي كل من تلك الحالات اقترن التمزيق مع طرح ديني طائفي يهين المخيال المقدس لدى الشعوب. وهل من عاقلٍ يشك في أن التنكيل الفظيع اليوم في سورية سوف يُنتج عنفاً –ولو في شريحة صغيرة– لأجيالٍ قادمة؟

ثانياً: أما دعوى التسلسل في فكر التطرف فهي متهافتة بالتمام. فلا فكر سيد فيه ذرة من الطرح الوهابي ولا الطرح الوهابي فيه ذرة من فكر ابن تيمية ولا فكر ابن تيمية فيه ذرة من الطرح الخارجي.

وننبّه أنه ليس في حركة الخوارج أو في الحركة الوهابية فكر بمعناه الكامل، بل غلوّ انغلاقٍ ورفض للعقل. فبالنسبة للخوارج لم يكن الأمر يتجاوز فكرة رفضٍ سياسيٍ تمحورت حوله مجموعة خرجت على المجتمع واستحلّت قتل من يخالفها أدنى مخالفة مبررة ذلك بالوقوف على رؤوس النصوص وفهمها فهماً عجيباً في زمنٍ ما زال يحفل بأجيالٍ مرجعية قريبة جداً من تربية الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث ينفي عن الخوارج أي صفة في أحقية الاجتهاد ويضعها في مربع المروق.

الحركة الوهابية حركة إيديولوجية ولّدتها ظروف موضوعية لأرضٍ قريبة من مهد الإسلام انحدر واقعها الاجتماعي إلى مدارك مخزية. وكان للحركة في نشأتها بُعد إصلاحي هدفه تطهير المجتمع من آثامه السلوكية، فعمدت إلى معالجتها بأدواتٍ متوافرة في البيئة القبلية هناك. ولكنها بعدما انطلقت، ولا سيما حين تجاوزت حيزها المجتمعي الصغير الذي قامت ارتكاساً له، انغمست في العنف وطاب لها محاولة تغيير سلوك الناس من خلاله. وسرعان ما ابتلع السياسيُ الثقافيَ، فانقسمت الحركة إلى قسمين تجاه الملكية والتشارك معها.

المشترك بين الخارجية والوهابية أن كلتيهما استندت إلى نزعة فقهية وطريقة في فهم النصوص، وهي نزعة شديدة الحرفية رافضة للآخر بطبيعة فهمها علاوة على موضعها الاجتماعي: الفرقي الذي يعاني الاغتراب في الأولى والقبلي في الثانية.

أما عند الحديث عن ابن تيمية و سيّد، فالأمر مختلف لأننا حينها يمكن أن نتكلم عن فكر وفلسفة. وطيف الذين نهلوا من ابن تيمية بشكل أو آخر طيف واسع. ونحتاج هنا أن نحرّر ابن تيمية وفكره من الاستحواذ الذي وقع فيه من قِبَل الـ “نيو-وهّابية” التي حدّدت مضامينها جملةٌ من التناقضات البيئية الحادّة: رغد متسارع يحاذي نمط حياة تقليدي، منظومة رأسمالية تحاذي ثقافة زَكَوية في فعل الخير، انغلاق مجتمعي يحاذي انفتاح خدمي، أصالة يقتضيها التاريخ تحاذي تأقلم يفرضه الدور المزمع، إلى جانب تصادم عروبة مع طائفية يولّدها الموقع. فإذا انتقلنا إلى فكر سيد فإن أثره سوف يظهر بعد زوال حجاب المعاصرة، أي بعد رحيل الجيل الذي تشابكت فيه الظروف السياسية والخلافات التنظيمية فغطّت الأفكار بطبقات إيديولوجية تحرم من الغوص في كنه الأفكار اصطفافاً حزبياً لا أكثر.

الحلقة الأخيرة في السلسلة المزعومة هو ما يُطلق عليه وصف الجماعات الجهادية. ولكن المضمون الإيديولوجي لهذه الجماعات مضمون فقهي وليس فكرياً، ومنهجيتهم مناقضة بالتمام لمنهجية سيد. فمنهج سيّد الظلال هو السباحة في فضاء النصوص ومنهج تلك الجماعات هو الوقوف على رؤوسها. ثم إن كلاً من الأشعريين والسلفيين يرون أن في سيّد نزعة اعتزال بسبب طبيعة وصفه للقرآن، وهو موجب التكفير عند البعض. وفي فكر سيّد ماتريدية في مسألة نجاة المرء بعمله، كما يمكن أن نجد في ثنايا طرحه إرجائية أيضاً. وعلى كل حال، تلك الجماعات لا تستشهد بسيّد عادة، و”الجماعة الإسلامية” في مصر إن ادعت يوماً أنها تتبع فكر سيّد فإنها تحمل وزر (فقهنة) سيّد وقراءة فكره من ثقبٍ ضيقٍ للجهاد بمعنى القتال لا يحتمله فكر سيّد نفسه.

نعم، في إسهام سيّد كل عناصر الثورية والمفاصلة والجذرية، لكن لا تجد فيه نبرة الكره والتبرير الثوري للاأخلاقية. وحتى قصيدته “أخي أنت حر وراء السدود” لا تسمع فيها جرس الانتقام والعنف، بل نبرة التسليم والرضا مع العزة والإباء. وفي مناسبة تفتيقات الجماعات الجهادية، لا ننسى أن سيّد على المستوى الشخصي لم يكن ملتحياً.

إنّ ادعاء التسلسل التوارثي لا يصح علمياً إلا إذا كان هناك تتابع من خلال مدرسة لها أعلامها ومؤلفاتها. فمثلاً حين نتحدث عن المذهب الشافعي فهذا جائز –إلى حدٍّ– برغم التنوع الداخلي في المذهب لأنه فعلاً تشكلت مدرسة لها رموزها وحِلق تعليمها وطوّرت لنفسها منهجية من خلال كتب أعلامها وطرق الاستدلال والاجتهاد.

القراءة الفقهية الكلاسيكية لفكر سيّد تجد فيه عنفاً، سواء أكانت سلفية جهادية أو دعوية تربوية، والفرق بينهما هو أن واحداً منهما يعتبر هذا الأمر جيداً بينما يراه الثاني مذموماً. ومرجع ذلك المنهجية الكَلِمية في الفهم مكان تحليل الخطاب. والمفارقة أن الكتب المرجعية عند الفريقين الذين ينتقدون فكر سيّد فيها عبارات تكفيرية إشكالية. وبالمناسبة، الخطاب الاستشراقي لا يفتأ أن يطلب منّا نحن المسلمين امتلاك الجرأة والاعتراف بأن القرآن نفسه فيه دعوة للعنف وأن نكمل الرحلة بمراجعة تراثنا (كذا) وتنقيحه وتأويله كما فعلت المسيحية!

ما هو خطاب سيد؟
هل خطاب سيد قطب هو أفراح الروح أم التصوير الفني في القرآن أم السلام العالمي للإسلام أم العدالة الاجتماعية أم خصائص التصور أم هذا الدين أم المعالم أم الظلال؟ هل هذه محطات فكرية أم شجرات في بستان؟ هل قراءة سيد من خلال الجمع بين كتاباته هي الأقوم، أم أن المفكّر يغيّر فكره وينمو مع اعتراكه مع الأحداث؟ وهل هذا النمو تغييرٌ ناسخٌ لما قبله أم معدِّلٌ له مستدركٌ، أو أنه يخصّصه في مجالٍ معيّنٍ في سياقٍ محدّد؟

ويبدو أن الذين يرون أن سيّد غيّر أفكاره متأثرون بدراستهم لتطور الأقوال الفقهية حيث يجدون للإمام قولاً قديماً وآخر جديداً يعتبرونه ناسخاً للذي قبله. ولكنك لا تجد عند الغالبية العظمى من كبار المفكّرين في التراث البشري تغيّراً جذرياً في منهجيتهم، وإنما تعديلات لا أكثر أو تطبيقاً للمنهجية في مجال جديد قد يبدو وكأنه تغيّر في الفكر وما هو بأكثر من تجلٍّ له لون مختلف بسبب اختلاف موضع التطبيق.

إذا كان ثمة فصل وانتقال في فكر سيد فهو ذاك بين الفترة القومية وفترته الإسلامية التي كتب فيها كتاباته المختَلف في أثرها. وإن المتأمل في نتاج سيد ليجد تواصلاً في الروح خلف السطور، وإن كان هناك توسيع أو ميل أو تركيز في اتجاه ما. فإذا أخذنا أي زوجين من كتاباته المذكورة أعلاه لصعب أن نرى تعارضاً أساسياً بينها أو تنافراً، وإن كانت تشير بشكل واضح إلى تبلور وزيادة في الإفصاح.

كتاب “معالم في الطريق” لسيّد هو الذي يجري فيه كلامٌ كثير، وفيه يُختزل فكره، وهو الذي يعتبره النقّاد انحرافاً في فكر سيّد، وأنّ هذا الطرح كان وراء العنف أو أنه برّره. ويكفي هنا أن نذكّر بأن سيّد قطب تبرّأ من جماعات العنف في مرافعاته في المحاكم المصرية. وفي سياق فترة ما بعد الاستعمار وصعود حكمٍ رئاسي بطرحٍ قومي، فإن شذوذ سلوك “التنظيم الخاص” هو كذا مشكلة تنظيمية تعكس حالة الارتباك الاستراتيجي للجماعة، وتصحيح الهضيبي في “دعاة لا قضاة” هو استدراك فكري مطلوب لظاهرة ولّدها الواقع. وباعتبار الفترة القصيرة التي توالت فيها تلك الأحداث (والتي فيها خلاف ولغط عن المسؤول أو عن الاختراق الخارجي)، يمكن الإشارة أولاً إلى الرخاوة التنظيمية التي تُلام عليها الشخصيات القيادية في عجزها عن ضبط (جنود الصف) في لحظة تاريخية متفجّرة. وموضوع المعالم أصلاً هو ضرب من الاستراتيجية التي ينبغي أن تُفهم صياغتها ضمن موضوعها، كما لا يخرج أسلوب هذا الكتاب عن نسق الكتابات لذاك الزمان.

وعلم النفس الاجتماعي يؤكد أنّ الموقع الثقافي/الاجتماعي المضطرب الحافل بالتناقضات هو أكبر عاملٍ في الانجذاب إلى مجموعات التطرّف. والخرائط الذهنية المعتلّة تحوّر الأفكار التي تلتقفها، وأصحابها مهتمّون بتصيّد إيديولوجياتٍ تبرّر أفعالهم وغير مهتمين حقاً بفلسفةٍ وفكرٍ معاصرٍ مثل فكر سيّد. ولا غرابة إذاً أن ثمّة جموع قرأت سيّد وتمثّلت مقولاته، ولم تجد في مصطلحه “المجتمع الجاهلي” تكفيراً للناس بل موضع دعوة، ولا في “المفاصلة” رفضاً للتعايش مع المجتمع بل تعالياً عن الآثام، ولا في مركزية “الجهاد” رغبة لازبة في القتال بل بذلاً لغاية الوسع.

وربما ينفرد مصطلح “الحاكمية” كأكثر مصطلحات سيّد إشكالاً. ولكن لا أدلّ على عدم صواب التعلّق بهذا المفهوم كمبرّرٍ لتبنّي العنف من أنّ مفهوم الحاكمية اختلف معناه اختلافاً كبيراً بين من لهم خلفية إسلامية ونشاط حركيّ، فقد اعتُبر في طرح الغلاة مبرراً للتكفير في حين أنه اعتُبر في طرح الوسطية تقديساً للسياسة والدولة. ومعظم الخلل في كلا التفسيرين يأتي من عدم التفريق بين مستويات الطرح، وفي إنزال السياسيّ أو حتى الإجرائي محلّ التصوريّ؛ بمعنى أن الحاكمية لا يمكن أن تختزل في المسألة السياسية وفي السلطة والحكم بمفهومه الرائج اليوم.

وإذ لا نُبرّئ نبرة سيّد وتكراره للمصطلح من حفز هذا الاختلاط، فإننا نذكّر بأن طروحات سيّد –خلاف المفكرين المتخصّصين– غطّت مستوياتٍ تحليليةٍ مختلفة، والخلط بين المستويات هو الذي يقف وراء فهومٍ متضادة لفكر سيّد. ولذا فإن المدخل السليم لفهم فكر سيّد هو المنهج التكاملي الذي يُسكّن كل فكرة في موضعها المناسب في مجمل فلسفة سيّد. وللتأكيد على هذا لا يفوتنا هنا التذكير بأن من هم من خلفية يسارية حسبوا أن طرح سيّد هو طرح ماركسّي.

وإذا اعتبرنا أن (في ظلال القرآن) هو لؤلؤة العقد في إنتاج سيّد، وهو الذي ما زال يلقى قبولاً واسعاً، فإن فيه أفراح الروح وفيه السلام العالمي وفيه مواجهات المعالم ومفاصلته أيضاً. أما (هذا الدين) و (خصائص التصور الإسلامي) فكتابات ترفع مستوى الخطاب إلى مراقٍ تجريدية عالية. وكما نبّه بعض المراقبين، تكمن المشكلة فيمن قرأ معالم سيد من غير أن يقرأ كتبه الأخرى، أو بمناهج تدريس فكره التي لم تبدأ بخصائص التصور أولاً ولم تشفع المعالم بجرعة كافية من الظلال.

الثورة العربية
أعتقد أن الثورة العربية سوف تجد (وربما بدأت تجد) ملاذها في فكر سيد. الثورة العربية كمونٌ مضمر يتجاوز حتى فاعليه الثائرين الذين يبذلون الغالي والرخيص. ولذلك قد تقصُر الوسائل بالسائرين في تلك الحركة التغيرية، ولقد قصرت بهم فعلاً إلى درجة يتململ فيها الثائر من إيديولوجية ثورته ويصبح أكثر انفتاحاً لبدائل بدت ناجزة من جهة وفاعلة من جهة ثانية وأصيلة من جهة ثالثة. فلننظر في البدائل الإيديولوجية المطروحة:

الدعوات عن تغيير مخملي عبر مظاهراتٍ وحشود شعبية لم يولِّ زمنها فحسب، بل فهم المتحركون–على نحوٍ فطري أكثر من نظري– أن تلك الوسائل تنفع بقدرٍ محدودٍ ولا يمكن أن تحدث تغييراً في حالات الاستبداد الطاغوتي، ولا سيما إذا اتخذ صفة طائفية داخلياً وتمتّع بالدعم الدولي خارجياً.

الخطاب الديني الرسمي كان فاقداً للشرعية من قبل الربيع العربي، وساهم هذا الربيع في كشف درجات الدرك التي يمكن للمعمّم أن يهبط إليها عندما يرهن نفسه وعلمه للسلطة.

– الخطاب الصوفي هائم في جنبات القلوب لا يعنيه كثيراً ما يجري في الواقع ما سلم مسلكُ طريقته، وربما بادر بالوعظ بضرورة المهادنة لأن الله هو الأعلم بحقيقة النوايا وهو المنتقم الجبار.
الخطاب الفقهي المذهبي المتميّز بالثبات، خَبِرته الثورة فوجدته محنّطاً، عنده أدوات ومفاهيم التعامل مع تراثنا التاريخي أكثر من واقعنا الحاضر، تحدّثه نفسه بضرورة التجديد ولكن لا يدرك أنه مسجون في قفصٍ بديع يخنق التجديد.
الخطاب الفقهي الحرفي (الذي يحسب نفسه سلفياً) الواثق بصفائه وجد نفسه يتمرّغ في جنبات الواقع الذي لا تصلح معه الثنائيات الصلبة، فبدا للثورة بازديادٍ أنه اعتباطي متقلّب، يدرك أن عليه أن يتغيّر لكن التغيّر المنضبط يعيده إلى ساحة أصول الفقه التي يشجبها.
الخطاب الإخواني بدا أنه ودّع المنابذة واعتمد المداهنة، ولا يحتفل بسيّد في ذكرى استشهاده إلا مفاخرة تنظيميةً أو تكفيراً نفسياً عن تأثّمٍ من نسقِ تحرّكٍ مهادنٍ لم يُرده ولكن أدمن عليه.

كل من النقاط أعلاه –أو خيبات الأمل إن شئت– تصبّ في اتجاه واحد يتلخّص في التالي:
1. الشك في المرجعيات التقليدية والتاريخية.
2. شعور امتلاك الحق في الإبداع وعدم اتباع طريقة الآباء.
3. توتّر شديد تحدوه الثقة بالهوية الحضارية ورغبة في التجديد.
4. إدراك أن عالم السياسة له طبيعته الخاصة التي تستلزم المسايرة، مع العجز عن وضع ضوابط مقنعة أو تطوير نظرية سياسية متكاملة.
5. مزاج نفسي/فكري يرى تكالب قوى الأرض ضدّه فيجعله يشعر أن تسامحه مع الآخر كان ساذجاً وكاد يوصلنا إلى حتفنا.

الواقع العربي اليوم يعيش حالة فراغ مفزعة، حتى في أطرافه الوثيرة التي امتلكت عالم الأشياء. القوى الخارجية تتابع مسيرة استنزافه، ونخب الحكم الطاغوتي تدمّر هياكل مؤسساته الجماعية، والإعلام والتسلية تفكك لُحمه الخاصة، والاختراق الفارسي يزلزل أركانه. في مناخ كهذا اكتسب الخطاب الإسلامي شرعية بقدر ما واجهته أسئلة لا يملك جوابها. ولو تحسّسنا ديناميكيات الثورة وخاطبناها لوجدنا لسان حالها يستغيث بحثاً عن مخرج فكري وإيديولوجية مناسبة. إن الثورة العربية منعطف تاريخي وليس حركة سياسية حتى تتلاشى تحت الضربات، وحركة التاريخ هذه المدفوعة بعوامل موضوعية عابرة للحدود وأخرى ضميرية راسخة في الصدور لم تجد بعدُ فكراً حاملاً مناسباً ينسق حركتها ويزن خياراتها. وإما أن نقول إنّ الشعوب العربية سوف تنفر من الإسلام مرةً واحدة (كما نراه في حالاتٍ فردية)، أو نقول إنّ تبنّي الهوية الحضارية المسلمة أصبح أمراً واقعاً والخلاف هو في تحديد جنبات هذه الهوية فحسب وفق طرحٍ فكري ما.

وضمن الخطاب الإسلامي الذي يتجاوز حيّز إصلاح النفس وتعلّم العلوم الشرعية ويتطلّع نحو التغيير الاجتماعي، نجد ثلاثة نماذج عندها قدرة ما على الإقناع، لكن كلٌ منها يعاني حالة استفراغٍ ذاتي للطاقة.

الأول هو الخطاب الذي يحسب نفسه سلفياً، فما زال يمتلك شعبية بسبب نكهته الرافضة لسلطة الكبار، ولبساطة طرحه وثنائياته المريحة التي تُثبّت الشرّ أو الضلال أو الخطأ في الآخر. لكنه في الوقت نفسه يتآكل من داخله، فهو بطبيعته لا يملك مساحة خلوصٍ وافية للتحرك خارج حلقاته الاجتماعية الضيقة، وتعرّضه للحقل السياسي يقتضي مرونةً يفتقد لمستنداتها الفكرية وليست عنده القدرة على توليدها إلا توليداً يغيّر في أصل التوجّه. وأهم أوجه ضعفٍ في الخطاب السلفي أن نموذجه العملي غير واضحٍ، ويصعب عليه رفض ممارسات أمثال داعش من غير أن ينعكس ذلك نقداً على منطق معالجاته العملية.

الثاني هو النموذج الإخواني الذي يُطلق عليه أحياناً وصف الإسلام السياسي. وكان يمكن أن يكون أكثر إغراءً بسبب شمولية طرحه وشبكة علاقاته، ولكنه واقعياً يعيش حالة تأزّمٍ، ولا أدلّ على ذلك من تقلّب مضامين هذا الطرح. فتارةً يتمسّك بفكرة الحاكمية وتارة أخرى يتكلّم عن ديمقراطية بمرجعية إسلامية وأخرى عن دولة مدنيّة، وكل ذلك جزء من الوسطيّة، والوسطيّة هي تارةً فقهية وتارة أخرى تربوية. وزيادة على ذلك، يعاني هذا الطرح من سوء فهمٍ داخلي وإساءة فهمٍ خارجية.

وربما تعود إشكالية الطروح الإخوانية إلى السذاجة السياسية المتمثّلة في قولة البنا المشهورة “الفرد المسلم فالبيت المسلم فالمجتمع المسلم”، إذ لا تستقيم هذه العبارة خارج الخطاب التربوي الدعوي. فالمجتمع ليس مجرد تكديس عددي لأسرٍ وأفراد، وهذه الثلاثية ليست ممكنة في تسلسل أو تواقت موهوم يقي ملاحقة أجهزة الاستخبار، ولا يمكن لهذه الثلاثية الاسمية أن تقف في وجه ما تفعله السياسة والخطط العامة. كما أن النموذج الإخواني في فهمه العام لا يملك استراتيجية تغيير واقعية، ولا يتعرّض إلى السياسي بغير لغة الحماس والحشد، ولا يأخذ يعين الاعتبار البيئة المحيطة المعولمة ثقافةً واصطفافاً جيوسياسياً… وهكذا تحرم بداهةُ الطروحات الإخوانية الاعتيادية من المراجعات الفكرية، فتشلّ قدرة الحركةِ على التغيير الفكري المنسجم داخلياً إلى جانب اختناقاتها الهيكلية التي تعمل في نفس الاتجاه.

ولا عجب إذاً أنه لما غامرت جماعة الإخوان في مصر في تجربة الحكم وهي لا تملك إلا الأدوات المبسّطة في منطقها السياسي كان الإخفاق حليفها من الداخل ناهيك عن الكيد الخارجي الذي اغتالها. ولا عجب أيضاً أن شخصية عالمية محترمة بوزن القرضاوي، وكناطقٍ عِلمي باسم أهل السنة والجماعة وكرمزٍ محسوب على التوجّه الإخواني، لا يملك أن يُطمئن جموع الشباب التي تتطلّع إلى التغيير، حتى إنّ بعض نداءاته بدت صرخاتٍ مُحرجة وفي غير محلّها.

النموذج الثالث هو المتجاوز للإخوانية والذي تمثّله التيارات المغاربية، ولا يمثّل هذا النموذج مشروعاً تغييرياً ثورياً وإنما مشروع إصلاحٍ تدريجي. ويمكن لهذا التوجه أن يُكتب له النجاح لو تستوي الظروف على أكمل حالٍ وأحسنه. ولما لم تستوِ الظروف من الساعة الأولى، قبِل هذا النموذج بما قُسم له درءاً لما هو أعظم في بلادٍ لها خصوصياتها من ناحية عدم وجود نخبة عسكرية أو طائفية تهدف إلى استئصال المجتمع أو قادرة على ذلك. وإذا افترضنا أن خيار تونس والمغرب (مع وجود فروقٍ مهمة بينهما) كان عين الحكمة بناءً على اعتبار التوازنات الإقليمية والدولية، وبناء على مستوى التأهيل السياسي للحركة، وبناء على عدم معقولية الدخول في مواجهة مفتوحة مرتفعة الثمن… إذا كان هذا الخيار حكمةً إلا أنه لا مراء أيضاً في أنه: (1) أخرج نفسه من ساحة النزال، وبقدر الجُهد المبذول تأتي الثمار؛ (2) لا يأمن من الانقضاض عليه؛ (3) ونسي أن الأرض الإقليمية التي تحته تمور بفاعلياتٍ ثورية لا يمكن أن تنحصر في حدود سياسية مرسومة وأنه سرعان ما ستتسرّب إليه وتتحدّاه ثانية؛ وكل ذلك يمكن أن يبَرَّر من باب الواقعية السياسية ويهون أمام التهجين الفكري والتصالح مع منطق الدولة الحداثي الذي هو أسّ الاستعمار وجسره وأداته.

فإذا استحضرنا هذا ظهر لنا لماذا يملك فكر سيّد كمون تحوله إلى الحامل الفكري للفترة القادمة من الثورة العربية. فهو أصيل مجذّر في القرآن، وهو ثوريّ بمعنى طلب التغيير الجذري، وهو عقلاني في طلب التفكّر، وهو واقعي فيما سماه الجدّية الواقعية وتطوير الوسائل المناسبة التي تقارع وسائل الآخر. لقد توضّع فكر سيد بين التجريد والتنزيل تموضعاً يجعله قريب الأخذ والتبنّي، فلا هو فلسفةٌ مستعصية ولا تجريدٌ للنماذج المعرفية معقّد ولا نظريةٌ اجتماعية سياسية متجافية عن الواقع، مع أن عند هذا الفكر القدرة على استيعاب تلك المقولات. ومرة أخرى، ما كان لفكر سيّد أن يكون أساساً للعنف الغيبيّ، إذ أنّ طرح سيّد طرحٌ عقليّ مؤطرٌ بمبادئ الإسلام ومستصحبٌ لأخلاقياتها العالمية، ولذا فهو خليق بأن يرفض العنف العبثي ويمنعه.

خاتمة
“لو استمع المودودي وقطب لنصيحة الندوي والهضيبي حينها لربما تغير التاريخ” بحسب التغريدات الأخيرة لجاسم سلطان، وأن الصواب كان في صفّ الغزالي والقرضاوي. ولإنسانٍ فاضلٍ مثله يدعو إلى التفكير خارج الصندوق، يبدو أنه لو عكسنا هذه العبارة لكانت أكثر إحكاماً. وإذ لا خلاف في وجوب رفض أي فهمٍ عنفيّ عبثيّ طاردٍ للأمة متفارقٍ عنها، أثبت الواقع أنّ الطرح الدعوي عاجزٌ وغير كافٍ ولا يجيب عن أسئلة ملحّة يلهج بها الواقع. والثورة المضادة في وجه الربيع العربي وتألّب الأحزاب والاختراق الطائفي كله يشير إلى عدم نجاعة الخطاب التربوي لوحده وعدم أهليّته لإحداث تغيير برغم أنّ أسسه الأخلاقية وضوابطه السلوكية ضروريةٌ لكل توجّه يبتغي وجه الله. كما أظهرت التجربة المعاصرة للأمة العربية أن التيارات الخاملة العالقة في ثنايا التراث والعاجزة عن تفعيله هي عملياً عنصر مولّد للأزمة. فهل منطق الذين يعيشون في خلافات الماضي ولا يستطيعون أن يروا في نزاع فصائل الثورة اليوم إلا مواجهة بين السلفية والأشعرية…، هل منهجهم هو المخرج حقاً؟

تعلّمنا التجربة البشرية أنه عندما يعجز التيار العام والشرعية الاجتماعية عن توليد أجوبةٍ ناجعةٍ عندها تنفرد بالعمل المجموعات الناشزة. وليس هذا المقال دعوة إلى اجترار الأفكار ولا إلى الالتزام بفكر عَلَمٍ واحدٍ مهما كان عطاؤه متميزاً، كما أنّ الاعتبار بأخطاء الماضي واجبٌ بديهي. وإن الواقع الشاخص قد أنبأ الثورة أن الإصلاح التدريجي عقيم أو أنه إصلاح في قمقم، غير أن ثمة فراغ فكري مخيف. وإن الحاجة إلى فكر حاملٍ للثورة وضابط لحركتها والتطلّع إلى بدائل تغييرية جادّة أمرٌ لا يمكن أن يفوت المراقب الحصيف والمتعايش مع الواقع.

لا مناص عن بزوغ فكرٍ متماسكٍ على مستوى التحدّي.

نسأله تعالى السداد.

 

28-11-1437 هـ / 31-08-2016 م