طبيعة المجتمعات المسلمة قبل الاستعمار

418

مع نشوء الدولة القومية في أوربا عام 1648م بناء على معاهدة “ويستفاليا” التي انتهت على أساسها الحروب الدينية بين الإمارات الأوربية وانتهى معها عصر الإقطاع وبدأ عصر المصانع والآلات، وبدأ اعتماد محددات مقدسة للدولة كاللغة والحدود وأحياناً العِرق، وأصبحت الدولة أعلى سلطة في المجتمع وبدأت تأخذ زمام النفوذ في المجتمع وتقطع الطريق على أي قوة موازية لها سواء أكانت سلطة دينية أم سلطة اجتماعية، حيث عملت الدولة الحديثة على امتصاص القوى الأخرى في داخلها، وبدأ مفهوم الدولة الحديثة بالتبلور أكثر، وكان من التعريفات المشهورة لها تعريف ماكس فيبر أنها الدولة التي تحتكر العنف، والعنف هنا دلالة على السيطرة والهيمنة.

وحقيقة مفهوم الدولة الحديثة أوسع من مفهوم الدولة القومية ويشملها، بل هو يضم أشكالاً مختلفة من الدول اليوم، لكنه بشكل أو بآخر يختلف عن شكل الحكم الإسلامي الذي بدأ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أواخر الدولة العثمانية وإلى ما قبل الاستعمار.

نشأ الإسلام في مناطق بعيدة نوعاً ما عن الإمبراطوريات القوية كإمبراطورية فارس والروم، وكانت بنية القبيلة في تلك المناطق تساعد الإنسان على الاحتفاظ بشعور لا بأس به من الحرية في الحركة والتنقل والتملك، وكانت تعطيه هامشاً واضحاً وإنْ كانت تعاني من بعض التشوهات في مسألة العبودية والرّقّ، لكن بنية المجتمع القبلي كانت بنية مختلفة تماماً عن بنية الإمبراطوريات الفرعونية والقيصرية والكسروية التي كانت تطحن الإنسان في مجموع الدولة، ولعبادة ملك الدولة وحده، ولبناء القوة الصلبة للإمبراطورية، ولذلك نرى أن تلك الأهرامات الفرعونية والمعابد الرومانية والقصور الفارسية تشير بشكل واضح إلى أن الإنسان كان مصهوراً في أحجار الدولة وذائباً في صخورها، ولذلك استحقت هذه الإمبراطوريات اسم الدولة القهرية كما سماها “غليون” في كتابه “نقد السياسة: الدولة والدين”.

وكانت ولادة الإسلام إكمالاً حاسماً لما بدأته الأديان التوحيدية من تثبيت قوة الله على أنها قوة عليا في المجتمع، وأن مركز الجماعة هو عقيدتها تجاه الله لا تجاه الدولة نفسها، وأن روح الجماعة هو ما يجمعها في مقابل روح الاستعباد والقهر لملك الدولة الذي كانت تفرضه الإمبراطوريات الأخرى، فلم يعد القتال إلا في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وتحرير الإنسان من العبودية للطغاة أو الجبارين، وهنا نجد أن الدين أصبح هو المؤسِّس للعقد الاجتماعي بعد أن كان الولاء للدولة، وأن الجماعة المسلمة أصبحت مفهوماً أعلى من مفهوم الدولة نفسه إنْ لم يكن يعارضه.

لم يكن سؤال الدولة شاغلاً قديماً للمسلمين كما هو اليوم، لقد كان سؤال الجماعة وترتيب بيتها هو الأكثر حضوراً، فالإسلام لم يخبرنا كيف نقيم الدولة بقدر ما أخبرنا كيف نؤسس لعلاقات صحيحة فيما بيننا، فكأن رسالة الإسلام أعلى من رسالة الدولة، ومفهوم الدين أعلى من مفهوم الدولة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نبيًا مؤيدًا بوحي إلهي وكانت تلك صفته الحاضرة في عقول الصحابة، لم يكن على صورة الملِك ولا على صورة الرئيس، وعندما قامت الخلافة الراشدة حضرت صفة الإيمان ورابطة الجماعة في اسم أمير المؤمنين، ولم تحضر صفة الملك.

وهنا لا بدّ أن نشير إلى أن هذا لا ينفي حضور السياسي المدبّر لشؤون الأمة في النبي والخليفة حضوراً واضحاً، لكن الأمة كانت حاضرة أيضًا وليست متلقّية فقط، فكان يقوم الصحابي ليسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر هل هذا مُنزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فيقول النبي صلى عليه وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة، وكان سيدنا عمر يجادله الناس في رأيه فيرجع عن رأيه. لذلك عندما حضر مفهوم الدولة في الإسلام نتيجة الجهاد والفتوحات والتوسع لم يكن حضوراً مماثلاً للدول القهرية القديمة ولا للدولة الحديثة اليوم، وهنا يمكن أن نفصل في أهم صفات شكل الحكم الإسلامي مقارنة بصفات الدولة الحديثة التي جاء بها الاستعمار، أو لعل الأصح أن نقول الدول العربية الشبيهة بالحديثة التي تستبطن شكلين من الحكم شكلاً خارجياً يعترف بالإنسان وشكلاً داخلياً يقهر الإنسان.

يقول نوح فيلدمان في كتابه “سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها” كانت هناك قوى موازية لقوة الدولة في الحكم الإسلامي، وهي قوة العلماء وقوة المجتمع بجماعاته المختلفة من أوقاف وحرفيين وأطباء، وكان المجتمع أكثر تفلتاً من سلطة الدولة بمعنى أنه كان أكثر اعتماداً على نفسه، فكان العالم لا يتلقى راتباً من الدولة إلا إن أصبح قاضياً، وكلنا نعرف قصصاً في رفض العلماء لمنصب القضاء كالإمام مالك والإمام أبي حنيفة، بل لعل صراعاً خفياً كان واقعاً بين العالم والقاضي، وهنا يمكن أن نسجّل ملاحظة مهمة أنّ التشريع والقانون كان يأتي من خارج الدولة لا من الدولة نفسها، وكذلك التعليم كان يأتي من خارج الدولة لا من الدولة نفسها، فالعلماء لكل منهم منهجه في التعليم والدولة لا تفرض منهجاً خاصاً، والأوقاف المنتشرة في المجتمعات على اختلاف أشكالها كانت شكلاً اقتصادياً يقلل من اعتماد الإنسان على الدولة، وهنا يمكن أن نذكر طرائف في مسألة الأوقاف وهي أن المجتمعات المسلمة وصلت لأنواع من الأوقاف تفصيلية وعميقة في التواصل مع أطراف المجتمع كوقف الأواني المكسورة الذي يعطي للعامل بدلاً عن الإناء المكسور إناءً آخر بلا ثمن حتى لا يوبخ صاحب العمل العامل أو يأخذ منه مالاً، وكان هناك وقف للزوجات الغاضبات من أزواجهن الذين يمكن لهن أن يبتن في مكان خاص بهن حتى تهدأ نفوسهن دون إشراك الأهل بالمشكلة وربما تعقيدها، عدا عن الأوقاف الخاصة بالصحة والغذاء وتزويج الشباب ورعاية الحيوانات، وقد سرد المرحوم مصطفى السباعي عدداً من الأوقاف في كتابه “من روائع حضارتنا”.

كانت بنية المجتمعات الإسلامية تقوم على ثلاثة أركان: الطبقة الأولى هي الطبقة السياسية والطبقة الثانية هي الجماعات الوسيطة والطبقة الثالثة هم أفراد المجتمع.

والجماعات الوسيطة هم العلماء وشيوخ الحرفيين والأوقاف، وكل من يقوم بالمهام الحيوية للمجتمع، ولعل من المرادفات لكلمة الجماعات الوسيطة كلمة المجتمع المدني بلغة اليوم مع فروق بينهما، والحاصل أن هذه الجماعات الوسيطة هي من حققت توازناً في المجتمع مع سلطة الدولة يمنع تغولها على الفرد ويضبطها بالشريعة، وحتى إن استبدت الدولة فالفرد كان يملك مساحات واسعة من الحركة خارج سلطة الدولة كالتعليم والثقافة والصحة.

ويشير الأستاذ “مازن هاشم” في كتابه “مفاهيم سياسية لزمن التغيير” إلى ملاحظة مهمة حول مفهوم الأمة المستخلفة وهي أن الأمة كانت تصادق على الدولة وليست الدولة هي التي تصادق على الأمة، ولذلك لا تفنى الأمة بفناء الدولة وزوالها.

ومع قدوم الاستعمار وانهيار الخلافة العثمانية وولادة الدولة القومية في بلاد المسلمين تغيّرت بنية المجتمعات المسلمة، وتآكلَتْ القوى الفاعلة فيها وتمركزت السلطات في يد الدولة، في يد السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان التأثر بالنمط الغربي على أنه النمط المطلوب للتحديث هو السائد والمهيمن، وهو نتيجة للصدمة الحضارية الواقعة. “رضا خان” على سبيل المثال الذي وصل إلى حكم إيران في انقلاب عسكري 1924م في إيران قلّص المؤسسة الدينية ومنعها من القضاء وحصر مهنة القضاء في خريجي كليات القانون على غرار التجارب الأوربية في إقصاء الدين، ولعله من هنا بدأت الأزمة بين التشريع المدني والشرعي في إيران وغيرها، وبدأ استيراد قوانين فرنسية وإنكليزية في مصر وسوريا وغيرهما، وكذلك في مسائل المرأة وتشجيع السفور أو في مسائل الأوقاف أيضاً، وهذا ما نراه واضحاً في تجربة محمد علي باشا الذي أُوفد إلى مصر بأمر من السلطان سليم الثالث بعد الحملة الفرنسية على مصر، وسليم الثالث كان راغباً في التحديث للتحديث بشكل فاعل بل إنه المؤسس للمعاهد العلمية في اسطنبول في مقابل المعاهد الدينية التقليدية، لكن انتهى به المطاف معزولاً ثم مقتولاً عام1807م على يد الانكشارية.

لقد كان محمد علي متأثراً بالتنوير الغربي وخصوصاً أنه جاء بعد الحملة الفرنسية على مصر، وقد أدهش المستعر الناس بأدوات التنوير والحداثة، فهم وإن تعاملوا معه على أنه مستعمر على الجانب السياسي والعسكري لكن الدهشة على المستوى الثقافي والعلمي كانت تورث خضوعاً له وانجذاباً إليه، فكان محمد علي يوفد البعثات العلمية إلى فرنسا وأوربا، وعلى رأسها بعثة رفاعة الطهطاوي، ولعل من أهم ما أحدثه محمد علي في بنية المجتمع أنه ضمّ الأوقاف الأهلية إلى الدولة، وبذلك ألغى جانباً كبيراً من حركة المجتمع. واستمرّ تفكيك المؤسسات التقليدية في المجتمع المصري على يد سلالة محمد علي، ثمّ جاء عصر عبد الناصر ومُنعت الأوقاف الأهلية، وجُعل شيخ الأزهر تعييناً من قبل الدولة، إلى جانب تغييرات أخرى استحدثت في مصر وفي معظم بلاد الشام والمغرب، وكلها كانت تصبّ في الحدّ من دور الأوقاف ومن دور الجماعات الوسيطة التي تقوم بالمهام الحيوية في المجتمع، كما أصبح التعليم إلزامياً في مدارس الدولة في مناهج تضعها الدولة نفسها، وباتت الدول أقدر على الوصول إلى خصوصيات الإنسان الفكرية والتربوية والدينية والاجتماعية والتأثير عليها.

وهنا نسأل سؤالاً ما المانع أن تقوم الدولة نفسها بالمهام الحيوية للمجتمع؟ وما الفائدة من وجود وسيط بين الدولة والأفراد؟ ربما كان وجود الجماعات الوسيطة بين السلطة والفرد هو الضامن الوحيد لعدم تغوّل الدولة وإبقاء قوى موازية لها تحدّ من جموحها وتضبطها، أما إذا امتلكت الدولة السلطات والوظائف كلها ثم دخلها الفساد فكيف سيصير حال الناس؟ يصير كما نحن عليه اليوم في الدول العربية؛ فالتعليم الذي ترعى مناهجه الدولة كان تعليماً حراً سابقاً، وكان المجتمع بلا مدارس حكومية وإنما كان تعليماً خاصاً يقرره الشيخ أو الجماعة المقصودة بطلب العلم، وكذلك الصحة والمشافي والأطباء كله كان بيد الناس، لكن اليوم أصبحت الدولة وخصوصاً العربية هي الطبيب وهي المشرّع وهي المعلم، وعند فسادها لن يستطيع أحد درء هذه المفسدة عنه لأنها قادمة من سلطة تتحكم في تفاصيل حياته ولا بدائل عنها.

إلى جانب هذا التغيير الذي أحدثه المستعمر بنفسه أو بأثر منه على السلطة الموجودة بعده، كان تغيير بنية المجتمعات من خلال تغيير اللغة؛ فسياسة التتريك جاءت من سياسة الدعوة إلى الهوية التي جاءت بعد ولادة الدولة القومية، وكذلك فرنسة اللغة في المغرب العربي أو في الشام، فاللغة هي الجسر الواصل بين المسلم وتراثه وتاريخه، وكان الانتقال إلى الحداثة يغري بهذه القطيعة وأحياناً يعتبرها شرطاً وإن كان شرطاً اعتباطياً غير مفهوم.

وأظنّ أنه من الملاحظات التي ينبغي ذكرها في إطار التفريق بين شكل الحكم قبل انهيار الخلافة وبعده أن منطق الجماعات المتطرفة في التفكير تجاه دولة الإسلام هو منطق الدولة الحديثة أو شبه الحديثة الموجودة في مجتمعاتنا العربية التي تحتكر السلطات وتفرض التعليم وتفرض شكلاً ما للحياة على المجتمع، وهذا كله لم يكن بصورته المرسومة في أذهانهم عن أيام الحكم الإسلامي. ومن الإشارات التي انتبه لها “سالفاتوري” في كتابه “سوسيولوجيا الإسلام: المعرفة والسلطة والمدنية” أن الإسلام كان يؤصل لمفهوم التقوى في النفوس ليكون رابطة اجتماعية يقوم عليها المجتمع ليؤدي كثيراً من المهام الحيوية في المجتمع أو بلغة الفقه كثيراً من فروض الكفاية، والتقوى هي ما يحفظ النفس من الأمراض عند قيامها بأي مهمة ويحفظ سلامة المهمة نفسها من أن تصبح أداة للسيطرة على الإنسان والتسييد عليه، كما تفعل السلطات المستبدة اليوم.

وربما يمكننا أن نقول أخيراً إن التغييرات الحاصلة في بنية المجتمعات أيام الاستعمار وبعده أنتجت نقاشات وجدالات فكرية مختلفة أحدثت شرخاً هائلاً في التصنيفات الفكرية والسياسية تنقلت بين ألفاظ إسلامي وعلماني وليبرالي، ومازالت تلك النقاشات الثقافية تجاه مفاهيم الدولة والمجتمع المدني والأقليات والدولة القومية والقطرية، نقاشات تستهلك المجتمعات دون تجارب حقيقية تصادق على هذه التغييرات أو تؤثر فيها سلباً أو إيجاباً.