عالمية الرسالة وخطاب القرآن

322

تمثل قضية عالمية الرسالة معياراً منهجياً يساعدنا على وضع الأمور في نصابها عند مراجعة التراث ومحاولة الاستفادة منه في تحرير قضايا العقيدة والتشريع. وقد عالجنا في عدد سابق من “الرشاد” قضية اللغة من أفق عالمية الرسالة وأشرنا إلى ضرورة تخليص لغة عرض العقيدة وبيانها من العبء التاريخي لواقع المسلمين والمعارك الكلامية والخلافيات والجدل عبر العصور. وفي هذا المقال نحاول أن نطلّ مرة أخرى من أفق عالمية الرسالة لنرى بعض قضايا الخطاب القرآني من منظور جديد.

لقد تحدث العلماء والمفسرون وأطالوا في قضية إعجاز القرآن وذكر أكثرهم أن الإعجاز قد وقع ‑حصراً‑ بلغة القرآن وبيانه ونظمه وبلاغته، وما زال العلماء والمفسرون لكتاب الله تعالى ينهلون من معين القرآن وبلاغته وروائع نظمه ويأتون في كل عصر بالعجيب من دقائق وعلو البيان وشرف المعاني ما يقصر عمر الإنسان عن الإحاطة به لسعته وكثرته. وكلما اطلع المرء على ما سطرته قرائح العلماء في هذا الباب ازداد حباً للقرآن الكريم وشغفاً بقراءته وشعوراً بالمنّة العظيمة والنعمة الكبيرة بمعرفة لغة القرآن.

ولكن التأمل في ما كتبه العلماء في هذه القضية وعند عرضه على معيار عالمية الرسالة يشير إلى أن هناك بعض الذهول عن أفق هذا المعيار يحتاج إلى التحرير والتنبيه لنخرج من مبالغات الاستغراق في خصوصيات عصر الرسالة ونزول الوحي وللعودة بالقضية إلى إطارها المطلق الذي رسمه القرآن الكريم.

لقد كان اختيار المكان والزمان لتنـزل الرسالة الخاتمة حكمةً إلهيةً باهرة ظهرت آثارها في طبيعة الاستجابة وعمقها وسرعتها وانتشارها وثباتها واستمرارها. وما كان ذلك ليحدث لولا أن طبيعة القوم الذين اختارهم الله سبحانه لحمل الرسالة وطبيعة لغتهم وظروفهم التاريخية لحظة تنزل الوحي تؤدي وفق سنن الله وقدره الغالب إلى مثل تلك النتيجة {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} {الأنعام: 124].

وقد تحدى القرآن الكريم العرب الذين عاصروا نزول الوحي أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله فحاولوا وعجزوا.  ولقد وصف العلماء حالة العرب ودهشتهم والروعة التي أخذتهم لما سمعوا القرآن وأجادوا في وصف ذلك بما لا يحتمل مزيد بيان. وبين العلماء كذلك أن قليل القرآن وكثيره سواء في إثبات مخالفة بيان القرآن لما عهدته العرب في بيانها وتصاريف استعمالها للألفاظ والمباني وإقامة الحجة عليهم بالقرآن ومطالبتهم من أجل ذلك بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا السياق بيّن العلماء أنه لا معنى لتحدي العاجز وأن التحدي يعني بداهة أن العرب الذين عاصروا نزول الوحي قد وصلوا في البيان والتفنن في ضروب المعاني والبلاغة إلى أعلى درجات الإمكان ومع ذلك فقد عجزوا وبهروا واستسلموا للتحدي غير قادرين على رده وكان شأوهم في هذا قول العاجز المستكبر: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} [الأنفال: 31]. ومن هنا يقرر الإمام الجرجاني في “دلائل الإعجاز” أن الجهة التي قامت منها الحجة بالقرآن وبانت وبهرت هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، وكان محالاً أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل.

وقد كتب الأستاذ محمود محمد شاكر فصلاً قيماً ممتعاً في إعجاز القرآن وجعله تقديماً لكتاب “الظاهرة القرآنية” لمالك بن نبي رحمه الله. وفي هذا الفصل يقرر الأستاذ شاكر أن الشعر الجاهلي هو أساس مشكلة إعجاز القرآن فهو الشاهد والدليل على مكانة العرب في البيان ومن ثم فهو يدعونا كما دعا الإمام الجرجاني من قبل إلى التعمق والمعايشة للشعر الجاهلي حتى نتلمس القدرة البيانية التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم ومستنبطين من ضروب البيان التي أطاقتها لغتهم وألسنتهم، فإذا تم ذلك فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر.

وهنا لا بد أن نذكر أن المطابقة التامة بين التحدي القرآني وما اصطلح عليه علماء البلاغة باسم “إعجاز القرآن” بدلالته ومحتواه اللغوي البياني البلاغي حصراً، هي مطابقة غير مسلّمة وهذا هو ما أريد أن أسجل فيه بعض الملاحظات والتي آمل من خلالها أن يُفتح هذا الملف المهم وتعود القضية إلى أصلها القرآني بأفقها الواسع الممتد فيما وراء خصوصيات عصر الرسالة.

فإذا كان التحدي الذي أعلنه القرآن مستمر وقائم إلى قيام الساعة، وأن هذا التحدي هو للبشر جميعاً في كل عصورهم وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فأي معنى لهذا التحدي إذا كان الناس فيما وراء عصر النبوة غير قادرين على فهم وتذوق ومعرفة لغة العرب، ومن ثم فهم غير قادرين على معرفة خصائص بيان القرآن وبلاغته والذي أصبح به القرآن معجزاً (حصراً) حسب قول علماء البلاغة؟ وأي معنى لتحدي الإنس والجن أن يأتوا ببيان لا يعرفه ولا يفهمه عشر معشارهم ممن خلق الله من وراء أمة العرب؟

لقد تحدى القرآن العرب ومن ورائهم الجن والإنس أن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة من مثله، وجاءت الآيات التي ذكر فيها التحدي في سياق خطاب القرآن للناس كافة أو بصيغة العموم التي لا تفيد الحصر بأمة العرب خاصة. ففي سورة البقرة جاء قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آية 23] في سياق خطاب القرآن للناس كافة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. وقول الله تعالى في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آية 38] جاء في سياق قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّه} [يونس: 37]. ومعلوم أن الدعوى بافتراء القرآن لم يتفرد بها مشركو العرب، بل هي دعوى اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الأرض عبر العصور. وقول الله تعالى في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آية 13] جاء في سياق خطاب القرآن للإنسان اليؤوس الكفور والذي يشمل بالطبع من خاطبهم القرآن أول مرة، ولكن صيغة العموم لا تنفي أن يكون المقصود بالتحدي كل من سولت له نفسه من المعاندين والمكابرين أن يدّعي افتراء القرآن ويتهم الرسول في صدق معجزته من ربه. وآية سورة الإسراء {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [آية 88]هو خبر في معنى التحدي للإنس والجن جميعاً متظاهرين. 

والأمر الآخر الذي نلاحظه في آيات التحدي بالإضافة إلى عموم الخطاب هو أن الله سبحانه وتعالى تحدى المرتابين والمكذبين أن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة من مثله وترك هذه (المثلية) دون تحديد ليكون موضوعها ومجالها هو ما يختاره المرتابون وما يحددونه هم من مجالات يظنون أنهم يمتلكون فيها الخبرة والتفوق ومن أجل ذلك يستطيعون حشد الشهداء والأعوان الأكفاء.

فعندما واجه القرآن العرب بهذا التحدي أول مرة لم يكن لهم مما يدلّون به ويعتقدون لأنفسهم فيه المكانة والإبداع والتمكن إلا بيانهم ولغتهم وفصاحتهم وبلاغتهم، فأعجزهم القرآن وبهرهم في شيء اعتقدوا أنهم يمتلكون ناصيته. ومن هنا فإن كل ما سطره العلماء في شرح وتفصيل بلاغة القرآن وروعة بيانه ومفارقته لبيان البشر وما كان من شأن العرب لما سمعته أول مرة، أمر مسلّم ينبغي ألا يكون موضع خلاف. ولكن المهم هنا أن حصر المثلية التي وقع بها التحدي القرآني بالبيان والبلاغة هو حصر لا أرى عليه دليلاً ولا أراه إلا استغراقاً في خصوصية ظروف عصر الرسالة حمل عليه الذهول عن أفق عالمية الرسالة.

لقد اختار الله سبحانه وتعالى العرب لحمل رسالته الخاتمة، فواجههم بالقرآن وتحداهم به فبهروا وانقطعوا واستسلموا، ولم تمض سنوات حتى أتم الله نعمته وأكمل دينه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وتأسست قاعدة الدين في جزيرة العرب الذين انساحوا في الآفاق يحملون الهدى ويعلّمونه للناس. لقد كان إعجاز القرآن للعرب وخضوعهم له حقيقةً تاريخيةً ساطعة أبرزت لنا طرفاً من حكمة الله سبحانه في ما اختار لإرساء قاعدة رسالته الخاتمة، فالذين يمارون في هذه الحقيقة لا يحملهم على الإنكار والجدال إلا الجحود والضيق بما تمّ من نعمة الله، ولا أجد لهم جواباً إلا قوله تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]. أما أن يهولنا ما يقوله المفترون عن الشعر الجاهلي ونظن أن قضية الإعجاز هي في خطر! فلا أحسب أن هذا من الحكمة في شيء، فالحقيقة التاريخية التي مكنت للإسلام من الظهور والاستقرار والانتشار هي أكبر من أن ينكرها أو يشكك بها عاقل. وسيبقى التحدي بالقرآن قائماً ولو قصر تذوق الناس لبلاغته وبيانه أو جهلوا وجه إعجازه اللغوي وسحر بيانه في عصر من العصور أو ثقافة أخرى غير الثقافة العربية، فالتحدي مطلق شامل عام لا يختص بالعرب ولغتهم وثقافتهم. ومع ذلك سيظل التمكن من لغة العرب ومعرفة بيانها وتصاريف استعمالها للمعاني شرطاً أساسياً لفهم القرآن وشرحه ومعرفة مراد الله منه.

ومن جهة اُخرى فقد توجه كثير من الباحثين على مر العصور إلى القرآن يمحصون فيه كل ما يخطر في بالهم من قضايا في إطار اختصاصهم وما تمرسوا فيه وأتقنوه، فما رجعوا إلا مستسلمين مذعنين. ومن هنا ذكر كثير من العلماء أبواباً من الإعجاز للقرآن الكريم لا تنحصر في قضايا اللغة والبيان، فذكروا الإعجاز العلمي والإعجاز الأخلاقي والإعجاز النفسي والإعجاز التشريعي والإعجاز التاريخي. وفي كل هذه الأنواع من الإعجاز ذكر العلماء وأطالوا فيما يثبت أن نمط القرآن وطريقة عرضه وتناوله لهذه الأمور مختلف ومفارق لما عهده البشر في محاولاتهم للتدوين والتأليف في هذه الموضوعات والأبواب من المعرفة، وهذه هي عين القضية التي تناولها علماء البيان ليثبتوا مفارقة بيان القرآن لبيان البشر.

وقد فتح الله على المسلمين في هذا العصر من أبواب الفهم لعجائب القرآن وأسراره ومواطن التدبر فيه بما لم يخطر للأقدمين على بال مما لم يكن عندهم من الأدوات والوسائل لمعرفته والبحث فيه. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء لا يبحثون في قضايا لغوية أو بيانية وإنما يدورون في فلك آخر يعتمد المعاني والقضايا والتوجهات ويصل الجميع إلى النتيجة الوحيدة والتي تنطق بها كل الشهادات وهي أن تحدي القرآن قائم وأن قدرة البشر على الاستجابة ومقابلة التحدي بكل مجالاته أمر خارج عن الإمكان.

07-1421 هـ / 11-2000 م