فتاوى الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – مثال صالح لللاجتهاد المقاصدي

1٬230

عندما يواجه المسلم بمواقف أو قضايا في أمر دينه أو دنياه، يتحرّى معرفة الحكم الشرعي باستفتاء عالم يرضى دينه و استقامته. و هنا تقع المسؤولية على عاتق المفـتي في أن يختار في جوابه عما سئل عنه الطريق الذي يفتح للسائل باب الفهم للمقاصد العامة للشريعة و أين يقع سؤاله منها، و يعطيه البصيرة التي تعينه على إدراك الحِكم و الدروس و العِبر فيما وضعته الشريعة من ضوابط و معايير لتزكية الحياة و القيام بمصالح العباد.

إن هذا التوجه في عرض أحكام الشريعة سبق أن أشرنا إليه في مقال سابق ” الاجتهاد المقاصدي ” و بيّـنا هناك أن الاجتهاد المقاصدي هو التوجه الذي يتحرى فهم المعاني المعقولة المستكنّة في أحكام الشريعة و يتحرى الربط بينها و بين تزكية الحياة و تأصيل الرحمة، و يتحرى كذلك ضبط الروايات بكليات الشريعة حيث تُجمع النصوص الواردة في الموضوع الواحد، و يستحضَر ما أمكن سياقها و ظروفها، ثم محاولة استخراج المعنى المعقول الذي يضم كل النصوص بخيط واحد و روح واحدة.

و بيـّنا كذلك أن منهجية المقاصد هي منهجية وظيفية، فالشرع لم يأت بنصٍ أو حكمٍ إلا لوظيفة عملية و دور في بناء النفس و استقامة العقل و الجوارح لتزكية الحياة و جعلها مباركة طيبة لا ضنك فيها ولا عسر و لا مشقة كما أرادها القرآن. و استعرضنا في المقال بعض الأمثلة والقضايا التي توضح و تشرح كمون و آفاق مفهوم المقاصد.

 و في هذا المقال أستعرض مجموعة أُخرى من الأمثلة على الفتاوى التي تستلهم منهجية المقاصد في العرض و الصياغة، و تؤصل الكليات قبل الخوض في الفروع، و بذلك تضع السؤال في موضعه و حجمه من مجمل الهدي الذي جاءت به الشريعة.

يمثل كتاب ” فتاوى علي الطنطاوي ” مصدراً مفيداً لبيان منهجية المقاصد، حيث اشتمل على الكثير من الفتاوى التي نحا الشيخ الطنطاوي رحمه الله في الجواب عليها منحى التعريف بالكليات و المعاني و الأصول التي تتعلق بالسؤال قبل بيان الحكم أو الفتوى. و قد كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يتمتع بأسلوب سهل مباشر بسيط مع دعابة محببة، و علم و دراية بالنصوص و اللغة و المذاهب، و يجمع إلى ذلك منطق عملي و معرفة بواقع العصر أتاحها له اشتغاله بالقضاء لسنوات طويلة و مشاركته في صياغة قانون الأحوال الشخصية.

و سأعرض – فيما يلي – مختصراً لبعض فتاواه التي صيغت على نمط واضح من تأصيل المقاصد و المعاني قبل محاولة الإجابة التفصيلية، و إن كانت الفتاوى في مجملها تحمل ذات الروح العملية الواقعية البعيدة عن الحرفية و الجدال النظري و الانتصار للمذاهب.

 

الغناء و الموسيقى

كتب الشيخ في جوابه عن سؤال يتعلق بالغناء و الموسيقى هذه المقدمات :

  • ينبغي أن نعرف ما هو الحرام. فالحرام عند الحنفية هو الأمر الذي ثبت النهي عنه بدليل قطعي الورود قطعي الدلالة، و هو الآية المحكمة التي تدل على النهي دلالة محققة، و الحديث المتواتر الذي تلقته الأمة بالقبول و كانت دلالته على التحريم محققة، و ما أجمع المسلمون على تحريمه، و ما ثبت حرمته بالقياس الصحيح.
  • من المحرمات ما استقبحه الشرع لذاته، كشرب الخمر و الربا و الزنا. و منها ما حرم بالنص لأنه يجرّ إلى المحرم ككشف العورات و النظر إليها اللذين يجران إلى الزنا.
  • القسم الأول ( و هو المستقبح لذاته شرعاً ) لا يجوز ارتكابه إلا في حال الضرورة، و الضرورة هي التي تكون مسألة حياة أو موت. و القسم الثاني ( أي الذي حرِّم لأنه يجر إلى المحرَّم ) يجوز عند الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، كدفع المرض أو حفظ المال.
  • الضرورة تقدر بقدرها، فمن غصَّ باللقمة و لم يجد لإساغتها إلا الخمر جاز له أن يشرب بمقدار ما يدفع الغصة و يسيغ اللقمة، لا أن يشرب القارورة كلها. و الحاجة مثلها، فالطبيب له أن يرى من المرأة ما يتوقف العلاج على النظر إليه أو لمسه…
  • فلنأت الآن إلى الغناء و الموسيقى، هل السؤال عنهما باعتبارهما أصواتاً تسر بإيقاعها النفس و تستميل الأذن ؟ و بلفظ آخر: هل حـرّم الشّرع سماع الأصوات المطربة المتناسقة لأنه استقبحها لذاتها ؟ لا. و لو أن إنساناً جمع في بيته الطيور المغردة البلابل و الشحارير و استمع إليها فطرب لأصواتها لما كان في عمله محظور، فليس الغناء و الموسيقى مما استقبحه الشرع لذاته، لكن يطرأ عليها التحريم في حالات:

الأولى : من جهة الكلام الذي يتغنى به، فإن كان فيه ما يمس العقيدة أو يدعو إلى محرم أو  ينفر من واجب أو كان فيه غزل مكشوف أو غزل بامرأة معينة معروفة لم يَـجُـز. أما الغزل العفيف فلا مانع منه، و بمَ يتغنى الناس إن لم يتغنوا بشعر الغزل ؟ هل يكون الغناء بألفية ابن مالك في النحو ؟

الثانية : حال المغني و السامع. فإن غنـّت المرأة للرجال الأجانب لم يَجـُز لأن الصوت بالتطريب ( لا الكلام العادي بالصوت العادي ) يعتبر عورة و لو كان بقراءة القرآن.

الثالثة : وقت الغناء : فإن كان وقت أداء واجب ديني أو دنيوي و الغناء يشغل السامع عنه لم يَجـُز. و إن طال الوقت حتى صار سماع الغناء عادة لا يستطيع تركها كان الأولى عدم سماعه.

الرابعة : مجلس الغناء، فإن كان فيه محرّم كالخمر أو الإختلاط بين الرجل و المرأة الأجنبية عنه لم يَجـُز.

الخامسة : أثره في نفس سامعه، و هذا مقياس شخصي،فمن كان يعلم من نفسه أن الغناء و الموسيقى يدفعانه إلى الحرام أو يصرفانه عن واجب، لم يجز له أن يسمع، كالشاب العزب يسمع الغناء الذي يصف لوعة العاشق و جمال المعشوق، فيثير في نفسه طاقة ليس أمامه مصرف لها ( كما يكون أمام المتزوج )، فيفتش عن مصرف حرام فيقع فيه، أو يكتم هذه الطاقة في صدره فتؤذيه و تضنيه و تصرفه عن مطالب العيش و أسباب الدراسة و ما يحتاج إليه من عمل.  و هذا المقياس ينطبق أيضاً على الألحان الموسيقية المجردة عن الكلمات، و رب لحن يسمعه المرء يذكـّره بالمكان الذي سمعه فيه و من كان معه في ذلك  المكان فيسبب له التفكير فيه رغبة في الحرام و شوقاً إليه. و ربما كان قد سمع اللحن في مكان لا يسمح الشرع بدخوله، بل إن من النغمات ما يهيج العاطفة أو يبعث النشاط أو يحزن أو يرقـّص، فمن دفعه اللحن إلى الحرام حرم عليه سماعه.

فما لم يكن فيه شيء من ذلك، كأن يغني المرء أو يعزف لنفسه في وقت فراغه، أو تغني المرأة لزوجها أو للنساء، أو يغني الرجل للرجال بالشروط التي سبق ذكرها، أو يسمع الغناء من الراد  بهذه الشروط، فهو على الإباحة الأصلية.

أما الوضع الحالي للمغنين و المغنيات و ما يقترن به من تكشف و اختلاط و ما ينفق فيه من جليل الأموال، و ما يكون لهؤلاء من التقدير في المجتمع و التقديم على أهل العلم و على الأساتذة و الأطباء، فلا يجادل مسلم أنه ممنوع في الإسلام.

ثم يختم الشيخ – رحمه الله – مناقشته بهذه النتيجة : و الإختلاف اليوم في أمر الغناء و الموسيقى ناشئ كما أرى عن أمرين :

أولهما : أن من يقول بالإباحة و من يذهب إلى المنع لا يتكلمان عن شيء واحد، مع أن من الواجب قبل المناظرة تحديد موضوعها. فالذين يحرِّمون يتكلمون عن الغناء و الموسيقى بوضعها الحاضر، و لا شك أنه على هذا الحال ممنوع غالباً لأنه يقترن بمحرمات و يؤدي إلى محرمات و يشغل عن واجبات و يهدر أموالاً الأمة أحوج إلى ريعها فيما هو أنفع لها و أجدى عليها منها، و فتح المدارس للعلم و إعداد الجيش للدفاع أولى من الطرب و الغناء. و الذين يبيحون يتكلمون عن الغناء و الموسيقى من حيث أنهما أصوات موزونة مطربة تسلي و لا تؤذي، و يضعون لهذه الإباحة حدوداً و يشترطون شروطاً. و من حقق  رأى هذا الإختلاف في كثير من الحالات لفظياً لا حقيقياً.

ثانيهما : إن الطريق الصحيح للإجتهاد هو أن نجمع الأدلة الثابتة و نفهمها و نتبعها فحيث انتهت بنا وقفنا، إما التحريم و إما الإباحة. و بعض الناس يقلبون الوضع، فيضعون النتيجة التي يريدونها إما التحريم المطلق و إما الإباحة، ثم يأخذون من الأدلة ما يؤدي بهم إلى هذه النتيجة. و منهم من يدع الصحيح و يأخذ ما لم يصح، و قد يفسر اللفظ على معنى و يحصره فيه مع إمكان فهم معنى غيره. اهـ

 

رحم الله الشيخ، فهو بهذا التوجه المقاصدي الذي يربط الفعل بنتائجه و مآلاته، يذكرنا بما يعلمه كل مطّلع على شؤون الثقافات و الأعراف. فـفي كل بيئة هناك نوع من الموسيقى و الغناء ترتبط عرفياً بالإنحلال الخلقي و الفساد و الدعارة. بينما هناك أنواع أخرى من الغناء ليس لها هذا المعنى و هذا الإرتباط. فلابد من التمييز البصير و المعرفة بالواقع، و بذلك يساهم الفهم المقاصدي للشريعة في الحدّ من المبالغة في التحريم و التي تؤدي إلى الحرج و العنت.

و هناك أمر آخر يتعلق بما ذكره الإمام الشاطبي عن نوع من المباح الذي يعني رفع الحرج. فبهذا التحليل الذي ذكره الشيخ الطنطاوي نستطيع أن نستنتج أن الإباحة الأصلية في الغناء و الموسيقى ليس بمعنى التخيير في الفعل أو عدم الفعل، بل يكون معنى الإباحة مما يندرج تحت قسم الممنوع بالمعنى الكلي حيث يكون حكم الدوام عليه مما يكره، أما  فعله في بعض الحالات و الأوضاع فهو على الإباحة التي تعني رفع الحرج.

 و يمكن أن نستنتج مما سبق طريقة للحكم على أنواع التسليات و الرياضات و الهوايات التي تتفتق عنها ثقافة اللهو و اللعب في العصر الحاضر. فما لم يرتبط عملياً أو عرفياً بفساد أو ضرر فحكمه الإباحة التي تعني رفع الحرج على من فعل هذه الأمور بشكل ليس فيه تضييع للأوقات أو الأموال. و الله أعلم.

 

التصفيق للخطيب

أعمال الدنيا الأصل فيها الإباحة إلا إن ورد نصٌ بتحريمها، أو كانت مقيسة على محرم بالنص لوجود علة التحريم فيها، أو كانت تدخل تحت أصل عام من أصول التحريم كالضرر بأنواعه و الغش و الخديعة و أمثال ذلك.

  • من يدعي تحريم شيء هو الذي يطالب بالدليل.
  • و قد ورد في ذم التصفيق أن صلاة بعض الكفار عند البيت كانت مكاءً و تصدية، أي تصفيراً و تصفيقاً، فمن فعله عبادة كان متشبهاً بهم و كان فعله حراماً.
  • و ورد أن قوم لوط كانوا يصفقون للحث على فعل المحرًم أو التنبيه إليه، فمن فعله لمثل ذلك كان متشبهاً بهم و كان فعله حراماً.
  • و ورد أن من رابه في صلاته شيء و أراد أن ينبه الإمام : يسبح الرجل و تصفق المرأة. فالتصفيق لهذا المقصد المشروع جائز مطلوب في الصلاة.
  • فتبين من ذلك أن التصفيق في ذاته ليس محرماً و لكنه يحرم إن جـُعل عبادة أو وسيلة إلى ارتكاب محرم. و ليس في التصفيق للخطيب شيء من ذلك.
  • أما أن نستبدل به التكبير، فالتكبير أفضل بلا شك لكنه لا يكون في كل موضع يصفق الناس فيه. و من ادعى التحريم المطلق يطالب هو بالدليل. اهـ

 

رحم الله الشيخ، فالتصفيق في هذا العصر يستعمل للتحية و التكريم و يستعمل لبيان الموافقة و الإستحسان لما يقوله المتحدثون، ولتشجيع اللاعبين و المتبارين، و كل ذلك مما لا يناسب الصياح بالتكبير أو السكوت و الصمت المحرج حيث يتشوق الناس للتعبيرعن حماسهم أو مشاعرهم. فمعرفة مواضع التحريم و معرفة ثقافة العصر و وسائله هي التي ترفع الحرج و التأثم من غير حاجة. و الله أعلم.

 

طلاق الغضبان

الطلاق في حالة الغضب. الزوج إن كان راضياً مسروراً من زوجته فلا يطلقها، لا يطلـّق إلا و هو غضبان. و لكن الناس أصناف، و الغضب درجات، فمن كان عصبي المزاج إذا غضب لم يعد يملك التحكم في إرادته و لا السيطرة على لسانه، و طلـّق و هو في هذه الحال التي يكون فيها مثل المجنون فإن طلاقه لا يقع كما لا يقع طلاق المجنون.

و من كان غضبه بارداً – و هذا أشد الغضب – يملك فيه أعصابه و يتكلم بصوت هادئ، و إن كانت النار تشتعل في داخله، و طلـّق، فإن طلاقه يقع.

و أول من عرفناه فصـّل القول في طلاق الغضبان هو شيخ الإسلام ابن تيمية و جاء تلميذه ابن قيم الجوزية فزاد قوله شرحاً و بسطاً على عادته في شرح أقوال شيخه ابن تيمية.

و في ” إعلام الموقعين ” لابن القيم، في مواضع كثيرة منه، كلام نفيس عن ألفاظ الطلاق و مدى دلالتها على قصد الطلاق، أي متى تكون دالة على إرادة المطلـِّق وقوع الطلاق، و متى تكون دالة على أنه لا يريده، و ذلك مستمد من أقوال ابن تيمية، و يدخل تحت هذا العنوان الحلف بالطلاق و الطلاق المعلق.

و الشيء العجيب أن ابن تيمية و ابن القيم حنبليان، و فقهاء المذهب الحنبلي لم يأخذ أكثرهم بقولهما. و ابن عابدين المعاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و هو أفقه حنفي في عصره أخذ به و صرّح في حاشيته التي هي عمدة المفتين في المذهب الحنفي بأنه أخذ ذلك من قول ابن القيم الحنبلي. و أعجب منه أنه وقع في عصر العصبية المذهبية و التقليد المحض.

و الفتوى الآن في المذهب الحنفي و العمل في المحاكم الشرعية في أكثر البلاد التي كانت تابعة للدولة العثمانية، العمل فيها من مائة و خمسين سنة بما أفتى به ابن عابدين.

ولقد توسع الحنفية فألحقوا بالغضب كل انفعال شديد يخرج الرجل عن حالته العادية و يفقده التفكير السليم و سموه طلاق المدهوش.   و دليل عدم وقوعه حديث ” لا طلاق في إغلاق ” ، ففي الحالات العادية يسلك العقل طرق التفكير الموصلة الغاية التي يريدها. فإن عراه انفعال شديد من خوف أو فرح، أغلقت عليه سبل التفكير فلم يعد يقدر عليها، و من ذلك حالة الغضب الشديد الذي شرحناه.

و الخلاصة أن الرجل إذا غضب غضباً شديداً لم يعد يملك فيه أعصابه و لا يستطيع التحكم بإراته و لاسيما إذا كان عصبي المزاج و طلـّق و هو في هذه الحالة فإن طلاقه لا يقع.اهـ

 

عندما يقرأ المرء هذه الفتوى يتبادر إلى ذهنه ما شكى منه الشيخ الغزالي رحمه الله من التشدد في إيقاع الطلاق و الذي يوقع الناس في الحرج و يفتح باب الفتنة بالقوانين العلمانية و خاصة في قضايا الأسرة. و يبقى ما فعله الشيخ ابن عابدين رحمه الله في الأخذ بقول من مذهب آخر تيسيراً للناس و رفعاً للحرج عنهم، مثالاً يحتذى للمشتغلين بالفتوى والتعليم الديني. و تبقى المشكلة في من يتصدر للفتوى بعقلية التشفي و العقوبة لمن أخطأ و خالف، مع الغفلة عن تحقيق مقاصد الشرع في حفظ كيان  الأسرة و إصلاح ذات البين. و الله أعلم.

 

الـنـمـص

لا بد من مقدمات نتفق عليها قبل الجواب :

أولها :إن ما ورد اللعن عليه من الأفعال يكون حراماً و من كبائر المحرمات.

ثانياً : من تتبع الكبائر وجد بأن فيها هدراً و إضاعة لواحد من المصالح الخمس الأصلية وهي حفظ الدين، و حفظ العقل، و حفظ المال، و حفظ النسل، وقبل ذلك كله حفظ الحياة.

فالكفر هو أكبر الكبائر لأن فيه إضاعة الدين، و الخمر و كل ما يخامر العقل و يعطله، و العدوان على المال بالسرقة، و ما يفسد النسل و النسب بالزنا و أمثاله، و القتل و تعطيل عضو أساسي – هذا كله – لا شك أنه من الكبائر. و قد وجدت كبائر لا تدخل تحت واحد من الخمس كعقوق الوالدين و الغيبة و النميمة و شهادة الزور و الغش و الخديعة و أمثالها، فوجب إضافة أصل سادس أرى أن نسميه ( الأمن الداخلي ) مثلاً، و كبائر يمكن أن نسميها ( الأمن الخارجي ) كموالاة العدو و العمل لمصلحته، و التجسس له على المسلمين، و الفرار من المعركة التي يراد منها إعلاء كلمة الله.

ثالثاً : وجدت بالإستقراء أن ما ورد عليه اللعن أو المنع الشديد منه و ليس فيه إضاعة لإحدى هذه المصالح، يكون النهي فيه عن حالة خاصة أو صفة خاصة.

و على هذا أقول : إن حديث لعن النامصة و المتنمصة و الواصلة و المستوصلة… إلخ  حديث صحيح، و لكن كيف نفهمه ؟

إن رواة الحديث لم يشرحوا لنا المراد من كلمة – النامصة – هل المراد منها ما يشمله معناها في لسان العرب أم هي صفة خاصة كانت معروفة عند ورود الحديث.

النمص في اللغة النتف، و في الجسم مواضع جـوّز الشرع نتف الشعر منها بل ندب إليه و حث عليه. فلا يمكن إذن أن يكون المراد لعن كل امرأة تنتف ( أي تنمص ) شيئاً من شعر جسدها، فالحديث ليس على عمومه.

قالوا : المراد منه نتف الحاجبين، و هو قول وجيه و إن لم يرد عليه دليل.

و في كتب الفقه كلها كلام حول هذا الموضوع ربما يفهم منه : أولاً : الزينة لا سيما للمتزوجة تتزين لزوجها جائزة و مطلوبة. ثانياً : ما يدخل في حدود الزينة من تنظيم الحواجب و تعديلها جائز. ثالثاً : نتف الحاجب كله أو نتفه إلا خيطاً رقيقاً منه لا يجوز.

و لعل أوجه الأقوال ما رواه ابن الجوزي عن بعض الحنابلة من أن هذا النمص إذا كان شعاراً و علامة للفاجرات من النساء حـَرُم، و إلا كان مكروهاً فقط. اهـ

و قد بين الإمام ابن عاشور في ” مقاصد الشريعة الإسلامية ” أن مقاصد الشريعة في أحكامها كلها هو إثبات الأحكام – من الوجوب أو الحرمة –  لأوصاف و أحوال و أفعال باعتبار ما تشتمل عليه من المعاني المنتجة صلاحاً و نفعاً أو فساداً و ضرراً. فإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو أشكالها الصورية غير المستوفاة المعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه. مثل قول بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير الماء أنه يحرم لأنه خنزير. و كذلك أخطأ بعض المتقدمين في حكم وصل الشعر للمرأة ذات الزوج و تفليج أسنانها و تنميص حاجبيها فجعل لذلك من التغليظ في الحكم ما ينافي سماحة الإسلام، تمسكاً بظواهر أثر يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن فيه الواصلة و الواشمة و المتفلجة و المتنمصة. ثم قال : و أنا أجزم بأن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك إذا كان كذلك ورد عنه إنما أراد به ما كان من ذلك شعاراً لرقة عفاف نساء معلومات.

و يبدو من النظر في كلام الشيخ الطنطاوي و الشيخ ابن عاشور توافقاً في التوجه إلى اعتبار المعاني و المقاصد و الأعراف عند النظر في النصوص، و البعد عن التفسير الحرفي الذي يعارض كليات من القواعد الشرعية. و الله أعلم.

 

   

التدخين

هناك أمور لم نؤمر بها بنص خاص، و لم نـُنه عنها بنص خاص لأنها لم تكن موجودة حين التشريع، أي حين نزول القرآن و صدور الحديث عن النبي المعصوم عليه الصلاة و السلام، و لكن فيها ضرراً أو فيها إضاعة للمال أو هي من الخبائث، هذه الأمور ممنوعة لدخولها تحت أصل من أصول المنع. فكل ما هو ضار للجسم أو للأخلاق أو للمجتمع يكون ممنوعاً، لأنه ” لا ضرر و لا ضرار “، و كل ما فيه إسراف و تبذير يكون ممنوعاً، و كل ما هو من الخبائث يكون ممنوعاً، لأن الله أحل الطيبات و حـرّم الخبائث.

فما نهى عنه الشارع بالنص، أي بآية أو حديث، حرم قليله و كثيره، و حرم ما ظهر ضرره و ما لم يظهر منه الضرر.

و ما كان ممنوعاً لأحد هذه الأسباب كان المنع منه على درجات  : فإن كان الضرر كبيراً كان حراماً و إن كان خبيثاً جداً، ليس طيباً و لا حسناً، كان حراماً أو قريباً من الحرام.

نأتي الآن إلى حكم الدخان، الدخان لم يرد فيه نص لأنه لم يكن معروفاً، و إنما عرف في بلادنا سنة ألف، فالدخان ليس فيه نص خاص و لكنه يدخل تحت أصل من أصول المنع :

أولاً : لأنه ضار و ضرره محقق، اتفق على وجوده المسلمون و الكفار، و أجمع عليه الأطباء، و لكن هل يحرم على الإطلاق ؟  أي أن من وضع في فيه دخينة ( سيجارة ) و امتص دخانها هل يكون كمن شرب كأساً من الخمر ؟ الجواب : لا. هل هو مباح كالأكل و الشرب ؟ الجواب : لا. إذن الجواب : إن كان ضرره بالغاً حرم تناوله لأن كل ضار حرام.

ثانياً : وإن كان ضرره خفيفاً كان مكروهاً.

ثالثاً : و لا يكون مباحاً أبداً.

رابعاً : ثم إن فيه تبذير و إضاعة للمال، و إضاعة المال محرّمة. فلو رأيت رجلاً أخرج من جيبه ريالاً فأحرقه و وقف ينظر إليه و يستمتع بمرآه لقلت بأنه مخطئ إن لم تقل إنه مجنون. هذا أحرق ريالاً فقط، أما الذي يشتري بالريال علبة دخان فيدخنها، يحرق الريال و يحرق صدره معه.

خامساً : الله حرّم الخبائث، و لا أظن أن أحداً في الدنيا يقول بأن رائحة الدخان من الطيبات.

و الخلاصة : إن من كان الدخان يضره ضرراً كبيراً في جسمه الذي هو ملك الله لا يملكه صاحبه حرم عليه، و إن كان الضرر خفيفاً كان مكروهاً مع العلم أن قليل الضرر يجر إلى كثيرة.

و من كان مورده قليل فاقتطع من ضرورات حياته أو حياة من استرعاه الله أمرهم و كلفه الإنفاق عليهم، و اشترى بما اقتطعه دخاناً فشربه، كان مرتكباً محرماً. و من أكثر من شرب الدخان حتى صارت رائحته تؤذي جليسه أو أهله ( أي زوجته ) التي تعيش معه كان أيضاً من الممنوعات.

 

مسألة في الوصية

من المعروف أن أولاد الإبن لا يرثون مع وجود أبناء الصلب، و هذا الحكم لا خلاف فيه. أما الوصية الواجبة فعلاج فقهي استنبطوه في مصر لبعض الحالات و فيما يلي ملخص هذه القضية :

1 – كانت الوصية واجبة للوالدين و الأقربين من غير تحديد لمقدارها بحكم الآية ( 180 من سورة البقرة)، و اختلف العلماء في تعيين الأقربين، فمنهم من وسـّع الدائرة و من ضيقها.

2 – ثم نزلت آيات المواريث في سورة النساء فحددت بالنص ما يستحقه كل من الأقرباء الوارثين، فذهب أكثر العلماء إلى أنها نسخت آية الوصية.

3 – من العلماء من قال بأنها نسخت وجوب الوصية بحق الأقرباء الذين أعطوا نصيباً من الميراث، و بقي حكم الوجوب للأقرباء الذين لا يرثون. و من أشهر من قال بهذا ابن حزم.

4 – و قال غيرهم أن حكم الوصية للقريب غير الوارث الندب لا الوجوب، أي أن الجد يُسّن له أو يندب أن يوصي لأولاد ابنه الذي مات في حياته و يسمونه ( ابن المحروم ).

5 – أما مقدار هذه الوصية فقد نصت آية ( البقرة ) على أن الوصية بالمعروف، و المعروف أن يوصي لهم بمثل نصيب أبيهم لو كان حياً.

6 – فإن مات و لم يوص ؟ قال ابن حزم : يعطَون المبلغ الذي تقدره الورثة.

7 – فإن رفض الورثة إعطاءهم، فما العمل ؟ أنا لم أجد من قال بأنهم يعطـَون شيئاً. و لهذا أمضيت ساعات في نقاش هذه المسألة، ثم شرح الله صدري للقول بها لثلاثة أسباب :

الأول – إن المسلمين الأولين لقوة تمسكهم بالدين كان يكفيهم الندب إلى الشيء ليفعلوه و يعملوا به. لذلك كان المعهود عنهم أن الجد كان يوصي لحفدته الذين مات أبوهم في حياته.

و الثاني – إن للحاكم المسلم أن يأمر بالمباح ( فضلاً عن المندوب ) فيكون واجباً وجوباً مؤقتاً ( أي مدة استمرار العمل به ) لا وجوباً دائماً كالواجب بالنص، لقوله تعالى : ” و أولي الأمر منكم “.

و الثالث – إذا قلنا بأن هذه الوصية صارت واجبة لأمر الحاكم المسلم بها. أمكن اعتبارها حقاً من حقوق الله في التركة تؤدى قبل توزيعها على الورثة. اهـ

 

و بعد،

 فهذه أمثلة مختارة لبعض الفتاوى في قضايا متفرقة و يظهر فيها التأصيل و الشرح للقواعد و الكليات الشرعية التي لا بد من استحضارها قبل القفز إلى تقرير الأحكام و المواقف.

رحم الله الشيخ و أجزل ثوابه، و ألهم المشتغلين بخدمة العلوم الشرعية الإقتداء بطريقته في الفهم و بمنهجه في تبسيط المسائل و ربطها بتزكية الدين للحياة.

  

المصدر: كتاب فتاوى الشيخ علي الطنطاوي الذي جمعت فيه فتاواه