كيف نستجيب للقرح
يعيش المسلمون زمن فتنة وعصر استضعاف. ولا يكاد يمضي يوم لا تتناقل فيه وسائل الإعلام ما يؤذي المسلمين في مشاعرهم ومقدساتهم وكرامتهم. ويزيد الأمر سوءاً كثرة من يلهجون بذكر أخبار الأذى وإشاعة ما يبث الوهن والاستخذاء.
فأحاديث الناس في ندواتهم ومجالسهم تضخم أثر الأذى وتنشر جواً خانقاً لا يسمع فيه المرء إلا اجترار مقالات السوء. ويتساءل المرء كيف يواجه هذا الوضع المتأزم وكيف يخرج بالناس من هذه الدوامة القاتلة للوقت والمدمرة للجهد والأمل.
ويجد المؤمن في القرآن الكريم ما يعطيه على الدوام القدرة على الارتفاع فوق لحظة القرح والأذى ورؤية الأمور في صورة كونية شاملة تعطيه البصيرة لرؤية ما وراء السطور وما وراء الأحداث.
لقد واجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة أُحـُد موجة من مقالات السوء والأذى وجاء القرآن الكريم ليضع هذا الموقف التاريخي الخاص في إطار سنة كونية ودرس يبني الأمة ويوجهها حتى تستطيع أن تستفيد من أخطائها وتستدرك ضعفها وتـُري من نفسها أنها تستحق النصر والتمكين الذي وعده الله عباده المؤمنين.
لقد بدأ القرآن الكريم بيان دروس وعبر أحداث معركة أُحـُد بتقرير حقيقة لها دلالاتها وأهميتها: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودُّوا ما عَنِتـّم} [آل عمران: 118]. ووضع القرآن بعد ذلك منهاج النظر في تصاريف الأمور: {قـُل هـو من عـنـد أنـفـسكـم} [آل عمران: 165].
إن البداية الصحيحة لمعالجة الأزمات لا تبدأ بالتمني والمطالبة أن يغير الطرف الآخر موقفه ونمط سلوكه. فقد قرر القرآن الكريم طبيعة الطرف الآخر بما يقطع الأمل من هذا التمني ويضع الأمور في موضعها. فالآخر مهما بلغ حرصنا على إنصافه واحترام مقدساته… {تحـبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كـلّه} [آل عمران: 119] متورط وحريص على كل ما يضع المؤمنين في المشقة والعسر والحرج ولا يترك فرصة لدفعهم إلى الحيرة والاضطراب والخبال؛ فكيف يسوغ أن تتجاهل الأمة هذه الحقيقة وتعكس تصورها عن البداية الممكنة لمعالجة أي أزمة؟
ويأتي التقرير القرآني {قل هو من عند أنفسكم} ليدفع بالمؤمنين إلى التفكر والتدبر فيما عسى أن يكونوا قد أهملوه أو غفلوا عنه من سنن التدافع أو واجبات البلاغ المبين، ليكون القرح والأذى عامل تمحيص وأداة استدراك.
وأول ما يجب على المؤمنين أن يتذكروه هو موقعهم من الكون وخصوصية دورهم الموكل إليهم في بيان الهدي الرباني الذي تزكو به الحياة ويتأصل الخير. فقيمة المؤمن في نفسه تنطلق من معرفته قيمة الحق الذي كُـلِّف ببيانه وتمثيله وإبرازه وليس من مقدار القوة ومدى التمكين الذي يتمتع به. فالقوة والتمكين يتداولها الناس بقدر رباني تحكمه سنن التدافع والتداول. ومن الخطأ أن يربط المؤمن بين التمكين وبين امتلاك الحق والمشروعية، فهذا هو شأن من ابتُـلي بامتلاك القوة فظن من نفسه استحقاق التشريف وغفل عن مسؤولية التكليف فطغى وتجاوز الحد. والقرآن يذكر المؤمنين أن يستشعروا العزة والاستعلاء بالإيمان وقيم الإيمان وليس بما يمتلكون من قوة ونفوذ {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].
فالشعور بالنقص والدونية هو ما يحاول أصحاب القوة أن يقنعوا به المستضعفين ويروّضوهم على قبوله والخضوع له وهذا هو الأمر الجلل الذي يتطلب العزم والمصابرة: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186].
لقد بيّـن القرآن الكريم – بأشد الصيغ اللغوية للتأكيد والمبالغة – أن الابتلاء والامتحان أمر لا بد منه وأن الأذى للمؤمنين هو شأن وديدن من تجمعهم عداوة الإسلام والمسلمين لا ينفكون عنه ولا يملونه، وأن الواجب في هذا الحال هو الصبر الذي يعني في هذا المقام الثبات على الحق وعدم الشعور بالدونية والاستخذاء، وأن الواجب كذلك التحلي بالتقوى التي تعني في هذا السياق أن يتذكر المؤمنون أخلاقهم وقيمهم وأن ينتبهوا وهم يردون على الأذى أن لا يتورطوا بسفاهات الآخرين وتعصبهم وتضييعهم للحرمات والمقدسات.
والصبر في القرآن الكريم – عندما نتأمل السياق الذي ورد فيه الأمر بالصبر أو الثناء على الصابرين – هو في أكثره أمر بالثبات على الحق والتمسك بمقتضيات الإيمان وأخلاق الإيمان في مواجهة الاستكبار والتكذيب والاستهزاء والأذى والظلم، وخاصة عندما يكون المؤمن في حال ضعف لا تمكنه من الانتصار للحق ودفع الأذى عن نفسه. ومع ذلك فالمؤمن مطالب بأن يحمل نفسه على الارتفاع فوق الأذى والتفكير فيما وراء لحظة القرح والألم، وينظر بمنظار كوني شامل ليرى أن العلو والفساد لا يمكن أن يستمر وأن العاقبة والدوام تكون لما ينفع الناس وما يؤصل قيم التكافل والتعايش والتعارف في الأرض، وليكون الاحتمال ومكابدة الأذى بعزة وتَرَفـُّع هو ضريبة استحقاق التمكين وقرينة اقتراب النصر الذي وعده الله تعالى للصابرين {ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214].
وهنا لا بد من التنبيه إلى قضية مهمة كثيراً ما يدفع إلى الغفلة عنها جو التدافع والخصام. إن من الحق الذي يطالَـب المؤمن أن يتمسك به هو أن القرآن الكريم رسالة عالمية وخطاب للناس كافة وهو “هدى للناس” و “بيان للناس” و “رحمة للعالمين”. وإن الذهول عن هذا الأصل لأي سبب يـُفقِد المؤمنين المصداقية ويشوه الرسالة التي يحملونها عندما يضمر مداها إلى انتصارٍ للنفس وتشفٍ من الظالمين وارتهان لآلام الماضي ومظالمه، أو عندما تختزل الرسالة العالمية إلى هوية إقليمية محلية وثقافة وطنية وتقاليد قومية. وعندها تغيب القدرة على طرح قيم القرآن وتوجهات القرآن بديلاً حضارياً عالمياً متقدماً عن العصبيات والعنصريات التي أشقت البشرية.
والمؤمنون في هذه الحال معنيون باستنقاذ من ظلموهم واعتدوا عليهم تماماً كما هم معنيون باستنقاذ المستضعفين. ويكون المؤمنون معنيين بطرح كلمة سواء لا أثر فيها لضغوط ثارات الجاهلية والوقوف عند الماضي ومظالمه، بل تتوجه إلى المستقبل لتأصيل التعارف والتعايش ورفع الفتنة والفساد.
إن هذا التوجه إلى المستقبل بأمل وتفاؤل لبنائه على قيم العدل والإعراض عن الارتهان لآلام الماضي ومعاناة الظلم والاستضعاف هو الذي عبر عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله عندما قال لمن عاندوه وقاتلوه: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وهو المعنى الذي مثّله صلاح الدين وهو يعفو عن الصليبيين المجرمين. وهو المعنى الذي قد يفهم من وعد النبي “ما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزاً”، هذا الصبر الذي يوجه النفس بعيداً عن التشفي والانتصاف ويدفعها إلى الترفع لتأصيل أخلاق التعامل التي تبني المستقبل المشترك وتحفظ كرامة الإنسان وتعترف بالتنوع والاختلاف. إن هذا المعنى من الصبر وحبس النفس على مقتضياته هو الذي يتطلب العزيمة والمجاهدة التي لا يحتملها أهل الاستعجال والرعونة وقصر النظر وبذلك الصبر يكتسب المؤمنون المصداقية التي تؤهلهم للريادة واستحقاق التمكين لرفع الأذى عن المستضعفين.