من الاستشراق إلى الدراسات الإسلامية

471

تغيرت حالة التعليم العالي في مجال الدراسات الإسلامية تغيراً هائلاً وتقدمت تقدماً ملحوظاً في العقود الأخيرة في الولايات المتحدة. وبغرض فهم الوضع الراهن وتفهُّم المشكلات ومناحي القصور الحالية المتعلقة بهذه الدراسات، سوف نقوم أولاً بمراجعة تطور هذا المجال فيما يتعلق بالدراسات الدينية بشكل عام، ثم نركز بعد ذلك على المشكلات الرئيسية المتعلقة بتدريس الإسلام على وجه الخصوص، وهي مشكلات تتعلق على وجه التحديد بالمعلمين ومناهج التعليم من ناحية، وبالكتب وطريقة كتابتها من ناحيةٍ ثانية.

التطور التاريخي:
انتقلت الدراسات الدينية في العالم الغربي من المؤسسات اللاهوتية إلى المعاهد العلمية، وأدخل ¬(عصر العقلانية) الغرب في دائرة الدراسات المنهجية والعلمية للدين، والتي تختلف بشكلٍ ملحوظ عن الطرق الكَنَسيّة لدراسة الدين والتي تعتمد بشكلٍ أساس على التسليم. وقد أدى هذا إلى الاعتراف بأن الدين كظاهرةٍ اجتماعية وسياسية وثقافية يمكن فهمها وشرحها عبر العلوم الاجتماعية وليس عبر علم اللاهوت.

ومن المعروف أن هذه العلوم الاجتماعية أبدعت طرائقها في البحث بشكلٍ يتناسب مع موضوعاتها ومجالات بحثها، ولكن استعمال هذه الطرائق في مجال دراسة الأديان يؤدي عادةً إلى اختزال الدين إلى أحد أبعاده فقط. فبدلاً من رؤية الدين كعقيدةٍ جامعة تربط كل الأمور ببعضها، ضاعت هذه العلوم في التحليل الجزئي الذي فشل في رؤية البنية الكلية التي تجمع الأمور وتعطيها معناها. وقد كان التحدي لطالب الدراسات الدينية أن يطور حقل دراسة الأديان بحيث يكون الدين وحدنه هو محور الاهتمام ومصدر التعريف ومفصل التفريق، وبحيث يصبح الدين موضوعاً خاصاً متفرداً مستقلاً، تُستدعى لدراسته طرائق بحثٍ خاصة مستمدة ومفهومة من طبيعته الكلية.

وبعيداً عن الدخول في تفصيلات الموضوعات المنهجية لدراسة الدين، تجدر الإشارة إلى أنه رغم الاختلاف حول تاريخ الدين وتعريف موضوع الدين وبنية الدين، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً حول استقلال حقل الدراسات الدينية وذاتيته والذي احتفظ به عبر منهجية الظاهراتية. وقد نأى هذا الاتجاه بنفسه بعيداً عن المنهجية اللاهوتية التي تعنى بتأصيل الحقيقة المطلقة، وبقي في الوقت نفسه على مسافةٍ من منهجية الاختزال التي تمارسها العلوم الاجتماعية، والتي لا تستطيع أن تفسر إلا أموراً جزئية من الدين. وبالطبع لم ترحب المدارس اللاهوتية التي احتكرت دراسة الدين (بِعَلمَنة) هذا المجال من الدراسة من قبل علماء الاجتماع أو علماء الظاهراتية. لكنها تقبّلت – في بعض الأحيان – هذه العلوم المستحدثة بشرط إضافة لمسةٍ دينية تُثبت أن الإيمان هو النتيجة النهائية لمكتشفاتها. وظلت النصرانية في أوروبا محصورةً بمدارس اللاهوت والكنائس بينما كان للأديان الأخرى معاهد ومؤسسات “استشراقية”. أما في الولايات المتحدة فقد كانت جميع الأديان تتكامل في أقسام وهذا يعني تطبيق المنهجية نفسها على جميع الأديان بغض النظر عن تفوقها.

كان كل ذلك من الناحية النظرية – على الأقل- ولكن التطبيق أثبت صعوبة التزام هذه المنهجية بشكل شامل. فلم تكن أقسام الدراسات الدينية تلتزم دائماً بالمنهجية الظاهراتية التي كانت تُستخدم بشكل أكثر جدية في الدراسات المتعلقة بالنصرانية (ثم اليهودية بعد ذلك) منها في الدراسات المتعلقة بالأديان الأخرى. فبالنسبة للنصرانية كدينٍ للأغلبية في الغرب، كان العلماء الجدد على علمٍ ودرايةٍ بالبعد الاعتقادي وهذا بالطبع يمنع من الجنوح إلى الاختزال في الدراسات النصرانية، أما ما يحدث عند دراسة أي دين آخر “غير غربي” فكان على عكس ذلك تماماً.

فالإسلام كما يروون لنا سواء في النشرات التمهيدية أو التخصصية ليس ديناً واحداً؛ فهناك عدة نسخٍ وأنواعٍ من الإسلام (أو ما يسمونه “إسلامات”)، وتديُّنُ المسلمين يختلف من منطقة إلى أخرى في العالم، تتمحور أكثر دراسات الطلبة للأديان غير الغربية على دراسة السلوك وعلى عرض وجهات نظر شائعة. وبالمقابل لا تُعطى المجلدات الضخمة التي تتحدث عن العقيدة أي اهتمام، وليس هناك من محاولة لكشف العلاقة بين السلوك وعقائد الدين.

وبالطبع فإن نقص الفهم والإدراك لعقائد الأديان الأخرى هو الذي يحمل الطلاب الغربيين على التركيز على الدراسات العرقية والدراسات الميدانية. ونظراً لعدم تمكنهم من فهم العلاقة بين الواقع وعقيدة الدين فإن ذلك يقودهم إلى التقديم المختصر المختزل الذي تصبح فيه شعائر العبادة هي المُعبِّر الرئيس عن الدين. وعلى سبيل المثال – إذا لم تكن مسلماً – فإن معرفتك بالعقيدة الإسلامية لن تتعدى العلم بأن المسلمين يؤمنون بالإله ويمارسون أركان الإسلام الخمسة، وبعبارةٍ أخرى فإن الفهم الإجمالي سيتلخص أن هناك بعض الشعائر ترتبط بالإيمان. وبالطبع فإن المختص سيكون على علمٍ بكثيرٍ من التفاصيل التاريخية ولكن الفهم للعقيدة سيكون معدوماً في غالب الأحوال.

هذا الافتراق بين الدراسات النصرانية والدراسات للأديان – غير النصرانية – موجودٌ بعمق في حقل الدراسات الدينية. ولا بد من معالجة هذا الوضع بزيادة الأبحاث الميدانية في واقع التدين النصراني الحديث من جهة، وبزيادة الدراسات المنهجية للعقيدة في الأديان الأخرى.

وإن من الضرورة بمكان أن ننتبه إلى أن حقل دراسات الأديان – غير الغربية – قد تأثر إلى حدٍ كبير بظروف نشأته التاريخية. فقد نشأ الاستشراق في القرن التاسع عشر مع التوسع الاستعماري الذي كان يحتاج إلى فهم ثقافات الشعوب المستعمَرة ليتمكن من نشر الدعاية للمدنية الغربية بشكل أفضل. ولذا لم يكن مستغرباً أن يتزايد الاهتمام بالدراسات الإسلامية في الفترة الاستعمارية لارتباطه بإيجاد المبرر الفكري للاستعمار. ولم يجرِ سبرُ وفحصُ استغلال واستعمال النتاج الفكري قبل قيام هذا النتاج بتركيب القوى في المجتمع الذي أنتجه إلا في الستينات من هذا القرن من خلال الكتابات الفلسفية لأمثال (مايكل فوكو). وكذلك ساهم بعض العلماء – والمسلمون والعرب منهم بشكل خاص – في فضح عددٍ من المستشرقين وفي تبيان مناهجهم. وقد بلغ هذا النقد شأوه عندما عُمِّمَ مجال النقد الأدبي وتحليل النصوص عبر النقد المنهجي الذي يهدم طرق المستشرقين ومجالات بحثهم، وكانت الصورة المُثلى لهذا البحث الذي نشره (إدوارد سعيد) في كتابه (الاستشراق) والذي أصبح مشهوراً عالمياً. و رغم أن الاستشراق – كظاهرة – فَقدَ رصيده واحترامه حتى أن هذه الكلمة أصبحت تستعمل لوصف فكرةٍ أو كاتب لا نتفق معه، إلا أنه – أي الاستشراق – ما زال المصدر والمرجع للدراسات المتعلقة بالإسلام.

يحمل الاستشراق أهدافاً فكريةً تتمثل في إثبات دونية البنية الاعتقادية والعملية للأديان غير الغربية وذلك لتبرير فرضِ قيم ومؤسسات الثقافة الغربية (وخاصة المؤسسات السياسية والاجتماعية تحت شعار الديموقراطية والتحديث والعلم)، وذلك كما بين (إدوارد سعيد) بأمثلة تفوق الحصر. لقد كان التحيز الوقح للمستشرقين مدعاةً للشك في انتمائهم للعلم، وكان هذا أيضاً هو الأمر الذي طرحته الحركات الرافضة المعادية للمؤسسات في أمريكا في الستينيات. وقد صادف أن الاهتمام بالأديان الأخرى غير النصرانية والذي تزايد من خلال هذه الحركات ساهم جزئياً في التحريض على إنشاء أقسام أديان، وسُمِح لهم باكتساب الاستقلال عن أقسام الفلسفة. وبذلك أصبح الاختصاص بحقول الدراسات الإسلامية والأديان الشرقية واسعاً ومُنتشراً، وجاء مع ذلك المساهمات العلمية التي أبرزت التحدي للمناهج والمؤسسات القديمة.

وعلى هذا فالمشكلة الرئيسية في مجال الدراسات الدينية تنبع من حقيقة أن أكثر الأعمال الأساسية فيها جاءت عن طريق الفلسفة أو الاستشراق حيث لا يتعامل أي منهما مع الدين كعقيدة ونظام حياة ولا يستخدم منهجية الظاهراتية على الإطلاق. وكان فهم الدين يُستنبط ويُحمل على شرح وبيان الجمود الاقتصادي عند المسلمين، أو أي قصور في الثقافة الإسلامية بالقياس إلى الثقافة الغربية. فالخلفية الثقافية للعلماء الغربيين والنقص النسبي في معالجة قضايا الاعتقاد في الأديان الأخرى، يجعلهم يفسرونها بشكل لا يمكن أن يُقرِّهُ أهل تلك الأديان. إن من الطبيعي أن يقرأ المرء ثقافته من خلال دين آخر، ولكنه ليس من الطبيعي على الإطلاق الادعاء أن هذه القراءة هي القراءة الصحيحة والموضوعية، وهذه بشكل أساس هي المشكلة مع الدراسات المعاصرة في حقل الأديان غير الغربية. وكما أكَّد (فوكو) و (تشومسكي) و (إدوارد سعيد) فإن النفوذ السياسي ما زال له دورٌ في قبول العمل العلمي والحكم على درجة معقوليته، وباعتبار أن النفوذ السياسي العالمي يكمن في قبضة الغرب، فإن الاستشراق لا يستند في مرجعيته إلى التزام المعايير الموضوعية بل إلى القوة السياسية الكامنة في الثقافة التي أنتجته. والحقيقة أن أكثر الأعمال العادية للعلماء الغربيين لا تتطلب أكثر من ترديد آراء المستشرقين عن الإسلام لتلقى الترحيب وتحصل على الدعم المالي وتنال الشهرة رغم احتياجها للمؤهلات والجدارة العلمية، وهذه حالةٌ يمكن أن تُلاحظ بوضوح في كل أرجاء العالم.

ورغم أن الجيل الجديد من العلماء يبدون قدراً متزايداً من النقد الذاتي، إلا أن التكبُّر في الدراسات الاستشراقية لا يزال موجوداً وبحاجة إلى الاقتلاع. وباختصار، تتمثلُ الموروثات التي تحمل إشكاليةً سلبية في حقل الدراسات الإسلامية في هذه المجموعة من النقاط:
1. الجهل بعقيدة ومفردات الإيمان الكامنة في الدين الأجنبي (وخاصةً الإسلام في هذه الحالة)؛
2. الميل الطبيعي لقراءة الأديان الأخرى من وجهة نظرٍ محدودة بالرؤية الخاصة لمن يمارس تلك القراءة؛
3. التحيز الاستعماري والانطلاق من عقلية امتلاك المرجعية.

وليس من الغريب بعد هذا – ورغم المتغيرات الكثيرة التي حدثت في هذا الميدان – أن أكثر القضايا المرتبطة بالوضع الحالي للتعليم الإسلامي في مستوى الكليات له علاقة بواحدة أو أكثر من العوامل المذكورة. وسيحتاج الأمر إلى بعض الوقت – على ما أعتقد – ليحرر هذا المجال من الدراسة نفسه من هذه الخلفية التاريخية وليتمكن من الاحتفاظ بالاكتشافات الحقيقية وبالنظريات العلمية الرصينة في تراث الاستشراق ويتخلص من التشويه الفكري.

المشكلات المتعلقة بالمعلمين ومناهج التعليم:
من أكبر المشكلات أهميةً والتي تنطبق على جميع الأديان غير الغربية، أنها تُدرَّسُ على الأغلب في الصفوف التمهيدية، ويقوم على تدريسها مختصون في عقائد أخرى وأحياناً مختصون في تخصصٍ مختلف كلياً. وفيما يتعلق بالإسلام بالذات فإنه غالباً ما يُكلَّفُ بتدريسه أي إنسانٍ له خبرة بمجالٍ ما ذو علاقة بهذا الحقل من الدراسة مهما تكن تلك العلاقة بعيدة. والمشكلة تظهر عندما يُعيّنُ لتدريس الدراسات الإسلامية إنسانٌ غير متخصص في العقيدة، لأن الإسلام يغطي مساحة واسعة من التاريخ إلى الدين، ولا يُعقل أن يستطيع مثل ذلك الشخص أن يؤدي دوره بأمانة وهو بعيد عن فهم العامل الأساس في ما يقوم بتدريسه وهو العقيدة.

فهؤلاء، سواء منهم المتخصص في التاريخ أو الاجتماع أو حتى في الأدب العربي، يصبحون خبراء في الإسلام (ولا يُقال خبراء في التاريخ الإسلامي أو الاجتماع الإسلامي…)، وليس غريباً أن نجد علماء اجتماع يُدرِّسون الإسلام في أقسام الدين، في الوقت الذي لا يُقبل فيه على الإطلاق ادعاء متخصص في تاريخ أوروبا السياسي في العصور الوسطى على أنه خبيرٌ في النصرانية. وفي الوقت نفسه يمثل مصطلح (مختص بالإسلاميات) مشكلةً، إذ أن هذا المصطلح يغطي بدون تمييز مجالاً من العلم ينتسب إلى حضارةٍ تمتد زمانياً عبر خمسة عشر قرناً ومكانياً عبر ربع مساحة العالم. وعلى النقيض ليس هناك (مختصٌ بالنصرانيات) من بين الاختصاصات العلمية التي تنتسب إلى النصرانية التي تمتدُّ زمانياً عشرين قرناً وتغطي مكانياً ربع مساحة العالم.

وكما يبدو فإن هناك موقفاً متعجرفاً يكمن وراء هذه الطريقة المسيئة في تمثيل الإسلام، كما يبين المثال التالي (علماً بأنني سأُعرضُ عن ذكر الأسماء لأن الغرض هو عرض القضايا في مجال الدراسات السياسية). فقد أخبرني مرةً عميد قسم الأديان في جامعةٍ مرموقة عن نيته تعيين مُدَرِّسٍ لتدريس دورةٍ تمهيدية عن الإسلام، وعندما أشرتُ إلى أن ذلك الشخص المعني هو متخصصٌ في التاريخ، هزَّ العميد كتفيه بلا مبالاة وقال: إن والد هذا الشخص قسيس وهذا يكفي لضمان أن يمتلك هذا الرجل فهماً كافياً للبعد الديني للإسلام!! ولنا أن نتصور أن يُطبَّقَ هذا المثال على النصرانية، ونتصور أن يُعينَ مسلمٌ متخصصٌ في التاريخ الأوروبي مُعلِّماً للدين النصراني فقط لأن أباه كان فقيهاً شرعياً.

إن أحد المشكلات الرئيسية يكمن في حشد جميع أنواع الدراسات والاختصاصات تحت اسم (الدراسات الإسلامية). ولا تنحصرُ إشكالية تعليم (الدراسات الإسلامية) بشكلها الراهن في غياب التحديد الدقيق فقط، وإنما في رداءة النوعية العلمية التي يُنتجها مثل ذلك التعليم. ولذا فإن هذا يستدعي أن يُطبّقَ في تصنيف الفروع الموجودة تحت هذا العنوان الكبير (الدراسات الإسلامية) المنهج المُتّبعُ في كل حقول المعرفة الأخرى. ومن الطبيعي أن يؤثر غياب التحديد على تدريب الأساتذة “المختصين” و “علماء” المستقبل، الذين يحصلون على شهاداتهم من جامعاتٍ تعاني من كل المشكلات التي عرضناها، والأدهى من ذلك أنه ليس هناك أي مؤهلات محددة تُطلب من الجامعات لتغيير هذا الوضع.

ومن الظواهر العجيبة أن ترى أن أغلب “الخبراء” بالإسلام في أمريكا لا يمتلكون إلا معرفةً ضئيلة بالعربية أو ليس عندهم أي خبرة بها. وإذا حدث أن كان عندهم بعض المعرفة بالعربية فليست هي المعرفة اللازمة للتمكن من الأدب العريق القديم أو المعاصر والذي يُهملُ ببساطة لأنه ليس أدباً غربياً. ومرةً ثانية، للقارئ أن يتصور إمكانية وصف إنسانٍ بأنه خبيرٌ بالفكر اليوناني دون أن يكون عنده أي معرفة باللغة اليونانية. ولكن هذا بالضبط هو ما يحدث في مجالات الدراسات الإسلامية، ليس في المستويات التمهيدية فحسب بل على مستويات مراكز الصدارة في هذا المجال.

المشكلات المتعلقة بالكتب:
تحدث المشكلة الرئيسية في الكتب الدراسية عندما تُكتبُ هذه الكتب لدراساتٍ دينية وتُستعمل من قبل خبراء في مجال آخر غير مجال الدراسات الدينية، كطلاب التاريخ وعلوم السياسة الذين ينقلبون بلحظةٍ واحدة إلى “خبراء” غبر التأثير السحري لكلمة (خبير إسلاميات). فالمشكلة تكمن في كتبٍ دونها علماء تمرسوا في الدراسات الدينية ولكنهم يفتقدون التمرس في العقيدة الإسلامية ويعتمدون على مصادر غير أصلية نظراً لجهلهم التام باللغة. وتغيب العقيدة تماماً أو تُذكر باختصار في ثنايا عرض بعض المناظرات الدينية في مدارس اللاهوت في القرون الوسطى.

ولقد جرت العادة أن يعطي أي كتابٍ تمهيدي عن الإسلام عرضاً مختصراً عن تاريخ نشأة الدين، تُذكرُ بعده بعض (أركان/شعائر) الإسلام مع غياب أي نظرة عقدية، وربما يتبع ذلك وصفٌ جاف لنشأة بعض المدارس والمذاهب الفقهية، ثم ينتقل البحث إلى الحركات الحديثة والقضايا المعاصرة في العالم الإسلامي. ويغيب في هذا العرض البعد الاعتقادي الذي يعطي المعنى للحركات والمؤسسات ويُبرز الجانب العملي للإيمان. وتتضاعف المشكلة وتزداد وضوحاً عندما نتعامل مع كتابٍ تمهيدي يُغطّي عدداً من الأديان. إذ غالباً ما يعتمد الكاتب على فهمٍ مُتَوهّم لمصادر غير أصلية لعرضِ الدين الذي يُدَرِّسُهُ. ولذا أصبح تتبُّعُ الشائعات والأغاليط التي تنتقل من مؤلف إلى آخر بُغية التنبيه والإشارة إليها مهمة من أصعب المهام.

وحيث أن عرض النصرانية (واليهودية بشكل متزايد) يتمُّ بشكل متوافقٍ مع رموزها وتصورها الديني، فإن المرء – ممن يتعلم في مثل هذه الكتب – يتخيل أن الإسلام (والأديان غير الغربية) ليس إلا مجموعةً من الطقوس التي قد تُفهم إلى حد ما. فبعد الأركان الخمسة ننتقل مباشرة إلى بعض القضايا الاجتماعية (والتي تمثل مشكلات) كالمرأة والجهاد، وفي بعض الكتب التمهيدية تبتدأ المقتطفات بسورة الفاتحة ويليها مباشرة آية ضرب النساء، وكما هو متوقع لا يُشرح هذا الأمر وتبقى ارتباطاته وتفسيراته مُغيّبةً تماماً. وطبيعيٌ بالنسبة لمؤلفي الكتب – وإن كان غريباً في المنهجية المقارنة – أن أقسام الكتاب التي تتحدث عن اليهودية والنصرانية لا يوجد فيها أي ذكرٍ لوضع المرأة في هذه الديانات.

وإذا حدث أن عُرضت بعض التصورات الاعتقادية في هذه الكتب فغالباً ما تُوضع بحيث تعكس التفكير الصوفي في الإسلام. الأمر الذي يعطي فهماً مغلوطاً بأن الفهم الصوفي (الباطني-الرمزي) هو الفهم الوحيد للعقيدة في الإسلام. فيما الحقيقة تقول إن هناك فهماً أصلياً يتعارض مع الصوفية، وأنه لابد – على الأقل – من إجراء بعض التأويلات على مثل هذه الكتابات لتتفق مع الفهم الأصلي. ومعلومٌ أن الفهم الأصلي للعقيدة يتعارض بشكل صريح مع النصرانية بينما تتشارك الصوفية مع الرمزية النصرانية. وهذا ما يفسر الاهتمام من قبل كثيرٍ من العلماء بالصوفية.

وهناك مشكلةٌ أخرى تكمن في ترجمة القرآن الكريم حيث أن بعض الترجمات مثيرٌ للتساؤل بشكلٍ مؤكد. وأحسن الترجمات – على حد علمي – هي ترجمة محمد أسد (رسالة القرآن) والتي تحتوي على تعليقٍ وشرحٍ علمي جيد، وإن كانت اللغة الإنجليزية المستعملة فيها تتصفُ بالرصانة والجدية. هذا وإن من الصعوبة بمكان اختيار مقتطفاتٍ من القرآن كما هو الحال عليه مع النصوص الأخرى، وذلك بسبب الاختلاف الجذري بين أساسيات البلاغة العربية وفن الكتابة الغربية؛ الأمر الذي يجعل الفهم متعسراً من غير تدريبٍ اعتقادي مناسب، ودون هذا التدريب غالباً ما سينتقل انطباعُ عدم إمكانية الفهم إلى الطلاب.

وأهم من هذا كله – في مجال (الدراسات الإسلامية) – الخضوع لضغط وسائل الإعلام وقبول عرضها الشائع للإسلام. فالموضوعات الرئيسة للمناقشة في أي كتابٍ تمهيدي عن الإسلام هي المرأة والجهاد والإرهاب، وكأنها موضوعات رئيسة في الإسلام أو عند المسلمين.

ولا أود أن أنهي هذه المراجعة بلهجة سلبية، فالحقيقة أن التقدم في العقود الأخيرة في مجال الدراسات الإسلامية هائلٌ حقاً، والحقيقة أن هناك جيلاً من العلماء يعملون على تحرير أنفسهم من القديم وينتجون بازدياد إنتاجاً علمياً رصيناً. وإذا ما طبقنا المعايير الصارمة في مجال الدراسات الإسلامية كما اقترحَت هذه المراجعة فسيصبح هذا القسم مضاهياً لبقية الأقسام. إن ماضي وتاريخ أي علم من العلوم يمكن أن لا يكون رائعاً أو على الوجه المطلوب، ولكن الواجب أن يكون المستقبل كذلك، وهذا هو الهدف الطبيعي النهائي لطلب العلم.

1423 هـ / 2002 م