دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية
دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية
عرض و تلخيص
نشرت مجلة إسلامية المعرفة في عددها الأول مقالاً مهماً للدكتور عبد المجيد النجار تحدث فيه بإسهاب عن مفهوم إصلاح العقيدة . و قد رأت ” الرشاد ” في هذا المقال نَفَـساً تجديدياً رصيناًً يتناول موضوعاً خطيراً بقلم العالم المتقن الذي يعيش عصره و يدرك مواطن التحدي فيما تدلي به الثقافات المعاصرة لعقيدة الأمة و فهمها لدينها و لا ينجرف في معالجة الموضوع إلى المعارك التاريخية و الجدل العقيم الذي ثار بين الفرق و المذاهب فأرادت أن تشارك الأخوة القراء هذا الطرح الدقيق المتميز.
~ ~ ~
العقيدة الإسلامية في تحديدها لحقيقة الوجود و الكون هي الفكرة التي صنعت الحضارة الإسلامية . و لكن العقيدة يتوقف عملها في الدفع الحضاري على كيفية تحمل المسلمين لـها . و قد كان الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في تحملها لعقيدتـها عاملاً حاسماً في انحسارها الحضاري سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور أو من سطحية في التحمل الإيماني تراخى بـها الدفع الإرادي للعمل الحضاري .
و لا يمكن أن يحدث في حياة الأمة الإسلامية انتعاش معتبر إلا بإصلاحٍ عقدي يرشّـد تحمل الأمة لعقيدتـها لتقع في النفوس من جديد موقع الدفع إلى العمل الصالح المعـمّـر في الأرض و المـنـمي للـحياة .
و تحمل العقيدة يكون على درجات : أولـها الفهم و ذلك بتـصور العقيدة على حقيقتـها كما ورد بـها الـوحي . و ثانـيها التصديق بحقيقتـها سواء في نسبتها إلى مصدرها أو قيمتها الذاتية في تأسيس الخير و الصلاح . و ثالـثها صيرورتها موجهاً للفكر في كل ما يتوجه إليه بالبحث . و رابعـها صيرورتها دافعـة للإرادة كي تنطـلق في العمل و الإنجاز . و في كل واحدة من هذه الدرجات في تحمل الأمة لعقيدتها اليوم خلل يستوجب الإصلاح لتعود العقيدة عامل نهصة حضارية كما كان عند إنشاء التحضر الإسلامي في دورته الأولى .
1 – ترشـيـد الـفـهم
و يعني أن يكون تصور العقيدة مطابق لما هي في حقيقتها التي جاءت عليها في الوحي خالصة من الزيادة و النقصان و الـتغير و الاضطراب . و يشمل ذلك ثلاثة عناصر :
أ – مصادر الفهم :
جاءت العقيدة الإسلامية بينة في نصوص القرآن و الحديث، و كان فهم نصوص الوحي قدراً مشتركاً بين جميع المسلمين بحيث يمتنع أن يدعي أحد احتكار فهم تلك النصوص و تفسيرها و نصب نفسه الناطق الرسمي باسمها لتصبح أفهامه و شروحه ملزمة للناس . و اتفق المسلمون على مفاهيم العقيدة التي وردت النصوص بشأنها قطعية الثبوت و الدلالة، و اختلفت أفهامهم في بعض القضايا التي وردت ظنية في الثبوت أو الدلالة أو فيهما معاً .
و لكن اختلاف المسلمين في فهم بعض القضايا التي وقع فيها الاختلاف لم يقف عند ما تقتضيه الحجة العلمية في التعامل مع النص و ثبوته أو دلالته بل داخلته ملابسات متعددة ( سياسية و اجتماعية و اقتصادية و حضارية ثقافية ) ليتحول إلى صراع تجاوز حدود العدالة و القسط و وصل إلى تحكمات المكابرة و الأهواء التي لا تستند إلى الأدلة و الـحـجج . و الناظر اليوم في كتب العقيدة و دواوين الفرق يجد أنها فيما هو مختلف فيه ينأى كثير منها عن مقتضيات نصوص الوحي و الروح العامة و المقاصد الكلية للقرآن و السنة، و يعبر عن الـتشبث بالتمايز في سياق التعصب المذهبي .
و في هذا الوضع أصبح المسلمون و كأنهم يتخذون لفهم عقيدتهم مصدرين ملزمين و متكافئين، الوحي من جهة و أفهام الفرق و العلماء و تفسيراتهم من جهة أخرى . في حين أن أفهام السابقين من الفرق و العلماء و الباحثين لا تعدو أن تكون وسيلة مساعدة للفهم عن القرآن استئناساً في غير إلزام . و يتأكد هذا الأمر إذا علمنا أن أفهام العلماء من السابقين كانت مرتبطة بقضايا واقعية و مشكلات فكرية ثقافية فرضتها ظروف المواجهة مع الثقافات و الفلسفات و الأوضاع السائدة في عصرهم .
ب – مدلول العقيدة :
كان مدلول العقيدة في أذهان المسلمين يمتد على مساحة تمثل الأسس الكبرى من المعاني مثل الوحدانية و النبوة و البعث و الجزاء و ما تنطوي عليه من المعاني الجزئية . و لكن مدلول العقيدة في مساحة أخرى من المعاني قد تعرض للتقلص و الانحسار بعد أن كان جزءاً من حقيقة التصديق و التحمل . و لكن المتأمل في الموضوعات التي تناولها علم العقيدة بالبحث كما انتهت إليه المدونات الجامعة لهذا العلم يجد أنها لم تستوعب كل مساحة مدلول العقيدة بل اقتصرت على قضايا كانت مورد شبهة و تساؤل في عصر التدوين الذي شهد مواجهات و مدافعات أثبت العلماء ما يختص بها و لم يتطرقوا إلى مسائل لم تدع الحاجة للدفاع عنها . و بمرور الزمن أصبح كثير من متأخري المسلمين يظن أن مدلول العقيدة ينحصر فيما دونه العلماء من قضايا و أن غيرها من مسائل الفكر و العمل هي مسائل شرعية و ليست عقدية . فانحسرت من مدلول العقيدة في الأفهام مسائل أخرى ذات معانٍ عقدية يـدخل التصديق بها في دائرة الإيمان و يـخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر . و من أمثلة هذه القضايا حاكمية الشريعة الإسلامية، و موالاة الكفار، و الروح كجزء من التركيب الإنساني، و مهمة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان، و العدالة الاجتماعية كقاعدة لبناء المجتمع . فهذه القضايا و أمثالها رغم ما لها من مدخل في تحقيق الإيمان و عدمه إلا أنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة العقيدة عند كثير من المسلمين . فقضايا العقيدة لا تنحصر في عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة، و هذا يقودنا إلى النقطة الثالثة :
ج – مفردات العقيدة :
إن ترشيد مدلول العقيدة يستلزم إدراج عدد من المفاهيم في الوعي الاعتقادي للأمة بحيث تصبح هذه المفاهيم مفردات اعتقادية و أسس في الدين و يصبح الإخلال بها إنما هو إخلال في الدين و ذلك لإرجاع المفاهيم إلى نصابها الحقيقي على الوضع الذي جاءت به في نصوص الوحي و كما كانت عليه في أذهان أوائل المسلمين . و ترشيد مفردات العقيدة يمكن ان يتناول قضايا متنوعة منها ما هو ذو بعد استخلافي و بعضها ذو بعد اجتماعي و آخر ذو بعد كوني و رابع ذو بعد تشريعي، و هي في عمومها متصلة متداخلة .
فحقيقة مركز الإنسان في الكون و المهمة التي أناطها الله بالإنسان و مهمة الأمة الإسلامية بين الأمم هي قضايا اعتقادبة لا نجد لها أثراً في كتب العقيدة . و كذلك حقيقة العدالة الإجتماعية و التكافل بين أفراد الأمة و حقيقة الحرية الشخصية و العامة و ضوابطها و حقيقة تكريم الإنسان هي قضايا تتصل بمدلول العقيدة و لكنها على كثرة النصوص التي تدل على هذه المعاني و تبرزها لا نجد لها أثراً في مدونات العقيدة . و كذلك قضية تسخير الكون للإنسان و استثمار الكون و الانتفاع بمرافقه و تسخير مقدراته لبناء الحياة في اتجاه تحقيق الخلافة ابتداءً بالتدبر و التفكر لتحصيل العلم و انتهاءً بالإستثمار التطبيقي النفعي لذلك العلم و الرفق بالكون للحفاظ عليه من الفساد و التدمير . . . . هي قضايا اعتقادية ليس لها كذلك في كتب العقيدة اهتمام أو ذكر معتبر . و القضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة من حيث الإيمان بحقيقتها يندرج ضمن مفردات العقيدة إذ أن جحود الأحكام الشرعية و التكذيب بها يفضي إلى الانحلال من الإيمان و انتقاضه .
و هذه القضايا جميعاً و كثير مما يتصل بها ليس غائبة عن دائرة الوعي الاعتقادي فحسب، بل إنها تتعرض – في نفس الوقت – لتحديات كبيرة من قِـَبل الثقافة الغربية بمذاهبها الفكرية و امتداداتها في الفنون و الآداب و القانون و السياسة . فضلاً عما تتعرض له عقيدة الحاكمية من هجوم مباشر من المذهب العلماني و أنصار القانون الوضعي .
و حينما يضاف هذا التحدي لما حصل من انسحاب كثير من مفردات العقيدة من الوعي العقدي في أذهان المسلمين، فإن الأمر يـُخشى أن يؤول إلى انحراف عقدي أفدح على صعيد التصديق الإيماني و على صعيد الأثر العملي معاً .
و بعد ترشيد الفهم للعقيدة و مفرداتها لا بد من ترتيب هذه المفردات لتحديد حجم الإهتمام بها و أقدار حضورها في الوعي و مدى استخدامها في الإيقاظ و التوجيه و الدفع، و ذلك ضمن رؤية كلية و فهمٍ للإعتبارات العملية في وافع الأمة و حاجاتها في مواجهة التحديات المعاصرة . فالتحديات القديمة و الاعتبارات التاريخية و النزاعات بين الفرق و المذاهب لا تصلح معياراً لتحديد حجم الاهتمام و الحضور لأية قضية، إذ أن أكثرها لم يبق منه اليوم شيء ذو قيمة عملية واقعية .
2 – التـصديق :
و حينما ينتظم فهم العقيدة على الأسس التي بيناها فيما يتعلق بمصدر العقيدة و مدلولها و مفرداتها، فإن ذلك لا محالة سينعكس رشاداً في تصور العقيدة التصور الصحيح كما عليه في مصادرها و كما كانت عليه في عهد السلف من الصحابة و التابعين حين اندفعوا بتصورهم ذاك يعمرون الأرض تعميراً شاملاً و يبنون حضارة انسانية . فالعقيدة الإسلامية ليست مفاهيم تنحصر قيمتها في التصديق القلبي بها، و إنما ذلك هو جزء من الإيمان بها فحسب . و الشطر الثاني من تلك القيمة هو ما يحدثه الإيمان بالعقيدة من أثر شامل في حياة الإنسان الفكرية و العملية . و تلك هي النقطة الفارقة بين العقيدة الإسلامية و سائر العقائد الأخرى.
و لو تأملت حال المسلمين اليوم لرأيتهم يصدقون بالقلب و لكنهم لا يعملون بمقتضى تصديقهم في السلوك، فيجري السلوك على غير مقتضى الاعتقاد . و لعل هذا الوضع هو النتيجة لما انتهى إليه أهل السنة من تقرير أن الإيمان هو التصديق بالقلب و أن العمل بمقتضاه كمالاً من كمالاته فحسب . و الحال أن سلف الأمة من الصحابة و التابعين لم يكونوا إلا معتبرين الإيمان تصديقاً و إقراراً و عملاً في غير تفصيل و لا فصل قد يؤول إلى ما وصل إليه المسلمون اليوم.
3 – استقامة الفكر :
الفكر يسبق العمل، و ليس العمل إلا نتاجاً للفكر . و لا يكون الفكر سديداً رشيداً إلا إذا كان موصولاً بالاعتقاد، صادراً عنه . و يتم ذلك حين يكون المسلم في كل ما يفكر فيه لإنتاج الرؤى و الأفكار و المخططات و المشاريع العملية مستحضراً للعقيدة، لا مجرد مفردات يحملها في ذهنه بل حال يحمله على تكييف الفكر ابتداءً من القصد و الدافع و العزم و انتهاءً بالمعاني و المقاصد في كل أمر يتوجه للبناء فيه حتى تكون العقيدة هي الروح السارية و الإطار الجامع في كل فكرة و في كل محاولة لبناء نظرية أو تفسير ظاهرة أو تطبيق قاعدة و قانون .
و يمكن أن يتم هذا الترشيد بصورتين متكاملتين :
الصورة الأولى : أن يعمد الفكر الشرعي إلى كل محور من محاور الشريعة فيقدم بين يديه مبحثاً عقدياً يتعلق به و يكون كالسند لقضايا المحور يوجه بناءها و ترتيبها و الاجتهاد فيها عن قرب . فمحور الاقتصاد و المعاملات يتقدمه بحث عقدي عن حقيقة المال و حقيقة الملكية و وظيفة المال و الثروة في المفهوم الإسلامي . و محور أحكام الأسرة كذلك يتقدمه مبحث في التصور الإسلامي للمرأة و الرجل و طبيعة العلاقة بينهما و قداسة الروابط الاجتماعية . و هكذا، بحيث لا يخلو باب من أبواب الأحكام الشرعية إلا و يستند إلى مبحث تأصيلي من مباحث العقيدة .
و الصورة الثانية : أن تقرن القضايا و الأحكام المندرجة في محاورها العامة بمغازيها العقدية القريبة . و بالتكامل بين هاتين الصورتين يكون الفكر الشرعي و هو يعالج واقع الأمة بأحكام الشريعة موجهاً بالعقيدة في كل حال . فما من حكم يتقرر إلا و قد توجه بمغزى عقدي كلي عام، فتصبح الشريعة موصولة بالعقيدة فتسري روح العقيدة في كل خاطرة فكر أو كل حكم شرعي . و نحسب أن الإمام الغزالي في كتابه ” إحياء علوم الدين ” كان له غرض من وصل الشريعة بالعقيدة و ذلك بالإحياء الروحي لعلوم الدين و التأطير العقدي للفكر كله و هو ما تدعو إليه الحاجة .
4 – استقامة العمل :
ربما كان الخلل الأفدح الذي يصيب المسلمين منذ زمن هو انقطاع الأعمال عن موجباتها العقدية أكثر مما هو انقطاع فكرهم عنها . و لعل هذا هو أحد معاني الحديث النبوي الذي تعوّذ فيه النبي صلى الله عليه و سلم من علم لا ينفع، فهو تعوذ من صورة ذهنية صحيحة في ذاتها مبنية على مقتضيات عقدية و لكن العمل عند حاملها لا يجري على حسبها بل يجري منحرفاً عنها مقطوع الصلة بموجبها العقدي فلا يكون للعلم حينئذ نفع . و لا ينصلح هذا الخلل إلا بتعدية التوجيه العقدي إلى العمل أيضاً بعد تعديته إلى الفكر، و ذلك بحضور المعاني العقدية حضوراً دائماً في ضمير المسلم حال مباشرته العمل سواء كان تعبدياً بالمعنى الخاص أو عملاً تعميرياً عاماً على مستوى الفرد و المستوى الجماعي العام .
و ربما عُـبّر عن هذا المعنى من التأطير العقدي للعمل بتعبير جريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة و التي ترجع في مجملها إلى المقصد الأعلى و هو تحقيق خير الإنسان و صلاحه بالتزام أوامر الله و نواهيه، و هو حقيقة عقدية كـلية . فيكون جريان الأعمال على تحقيق مقاصد الشريعة تعبيرأً عن الصلة بين العمل و العقيدة . و دوران العمل على مقاصد الشريعة بوصفها رابطاً بينه و بين العقيدة يقتضي أن نلحظ في الأعمال كلها مآلاتها في الواقع الإنساني من المصلحة و المفسدة فتبنى بحسب تلك المآلات و تتعدل و تتكيف بحسبها أيضاً .
إن من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن، أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون إطاراً مرجعياً وحيداً و شاملاً، منه يصدرون بـدءاً و معاداً في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى و الأفكار و الحقائق، و في التطبيق العملي السلوكي لتلك الأفكار و الصور و الرؤى . و الاعتقاد الذي لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مخـتل لا يأتي بثمار و لا يحرك إلى خير .
التفعيل الإرادي للإعتقاد
جاءت العقيدة الإسلامية بمفهوم عملي للاعتقاد، فأصبح التصديق الذهني ليس معتبراً في ذاته إلا قليلاً و إنما تكتمل قيمته بما يؤدي إليه من أعمال . و هذا ما أشار إليه ابن خلدون حيث قرر أن المعتبر في التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي، و إنما الكمال فيه حصول صفة منه، تتكيف بها النفس، و المقصود بهذه الصفة ذلك السلطان الذي يكون للعقيدة على الإرادة فيوجهها في طريق الأعمال .
و قد كانت الأجيال الأولى من المسلمين تتنزل العقيدة في نفوسهم تنزلاً مباشراً بما يدفع إرادتهم إلى الأعمال بما تقتضيه العقيدة في الواقع في وجوهه جميعاً . و لكن خلفت أجيال من المسلمين بعد ذلك وقعت العقيدة في نفوسهم موقعاً باهتاً لا يمتد أثره إلى الإرادة ليحركها لتدفع الجوارح إلى العمل، فقد انحدرت إليهم تقليداً من الآباء و لم يكابدوا فيها معاناة التأمل، و جنحت عند البعض لتكون أقرب إلى ظاهرة عقلية مجردة، فيها مغالاة التفصيل و التقرير و المجادلة و ليس فيها ما يؤثر في مجامع النفس و كيان الإنسان كله لتدفعه إلى إنجاز الأعمال .
و لذلك كان لزاماً أن يمتد ترشيد الاعتقاد ليشمل علاقة العقيدة بالإرادة الفاعلة لتثمر إنجاز العمل الصالح المؤسس للنهضة .
و ربما يكون هذا الترشيد متمثلاً بالأخص في أمرين أساسيين :
1 – الجزم الاعتقادي . و ذلك أن تكون العقيدة متأتية بالاقتناع الذاتي الحاصل بمعاناة التأمل و التدبر في مفردات العقيدة و مبادئها الأساسية . و المقصود بذلك استنهاض الفطرة الاستدلالية الكامنة في النفوس على قدر مشترك بينها . و هذا الاستنهاض اليوم متوفر الدواعي و الآلات و المقدمات أكثر من أي وقت مضى . فقد فُـتحت من كتاب الكون صفحات كثيرة و بانت آيات الله فيه جلية واضحة و بان كذلك خسران و فشل و قصور المذاهب التي وضعتها أهواء الناس . و من هذه الآيات و تلك يمكن تأليف مادة ذات فعالية تربوية شديدة لاستنهاض فطرة المسلمين في هبة دعوية تربوية شاملة .
2 – الإحياء الروحي . و ذلك أن يتصل التصديق للعقيدة بكافة الطاقات الإنسانية العقلية و الروحية و العاطفية . فقد عزز من الوضع المختزل لتحمل العقيدة نشوء علم الكلام علماً عقلياً لرد الهجوم العقلي على أصول الدين . ثم تطور على ذلك باطراد حيث قام على المقايسة العقلية الصرف في شيء كثير من التجريد و الجفاف .
فلا بدّ من أن يخالط القناعات العقلية معاني الخوف و الرجاء و الحب و الشوق . و لا يخفى أن العواطف و أشواق الروح لها من التأثير على الاندفاع في العمل ما يوازي أو يفوق التصديق العقلي المجرد . فلا بد من إحياء روحي للاعتقاد بحيث تعرض العقيدة في أبعادها العقلية و الروحية و العاطفية في آن واحد فتنتشر في جميع حناياها فتجيش إذن بالعزم الذي يدفع الجوارح إلى السعي العملي، استجابة لقناعة العقل و تلبية لنداء العاطفة و أشواق الروح لتتعامل النفس مع مقتضيات و آداب الإيمان بأسماء الله الحسنى و صفاته العليا بتوازن و اعتدال .