واجب الوقت وتحديات الأمة

123

في مسجد الحي، تقدّم أخ كريم بعد الصلاة مسلّماً وقال: أريد أن أستشيرك في أمر. قلت: تفضل وأرجو أن أكون قادراً على مساعدتك. قال: لقد تخرجت هذا العام من الجامعة من كلية الآداب قسم اللغة العربية، فما تنصحني. ما هي المجالات التي أستطيع أن أكمل فيها دراستي والمجالات التي أستطيع من خلالها تقديم خدمة لديني وأمتي؟

كان صديقي يتحدث عما يجول في ذهنه من الأفكار وقد خرجنا من المسجد نمشي بخطوات بطيئة باتجاه البيت. فقلت لصاحبي: سنمرّ بعد قليل في طريقنا إلى البيت ببائع الجرائد والمجلات، وأظن أنها ستكون فكرة جيدة أن نتصفح عناوين ما تكتب هذه المجلات مثل (مجلة العربي أو مجلة المعرفة وغيرها)، عن اللغة والنقد الأدبي، وستجد أنّ من يكتبون في هذه المجلات لهم اتجاهات علمانية يسارية ويتحدثون عن موضوعات لا تنصف اللغة العربية ولا أدباءها المعاصرين من الإسلاميين وتطرح قضية اللغة بعيداً عن كونها وسيلة انتماء واعتزاز بتراث الأمة لتحفيز الهمم للنهوض ومواجهة طروحات التغريب والانسلاخ من الهوية العربية الإسلامية. فأرى يا أخي أن تهتم بدراسات النقد الأدبي وتبدأ الكتابة والتوسع فيه، فدراستك تضعك على هذه الثغرة الثقافية الفكرية التي يقل من يخدمها بكفاءة واقتدار. وأنا أعلم أن المجلات الإسلامية مثل “حضارة الإسلام” تشكو من شح المواد المناسبة للنشر وخاصة في الموضوعات المتصلة باللغة والأدب حيث يتوسع هامش مجال الكتابة دون حذف الرقيب.

بعد عدة أسابيع قابلت صديقي طالب المشورة في المسجد ثانية فبادرته بالسؤال عما جدّ له في أمر الدراسة والنشاط الفكري الذي ينوي المتابعة فيه. وكانت صدمة مخيبة للآمال عندما أخبرني صديقي أنه ينوي المتابعة في مسألة تصحيح العقيدة فهي المسألة الأهم والأولى من أي اهتمام آخر. نظرت إلى صاحبي بدهشة واستغراب وقلت: وماذا ستأتي من جديد في هذه القضية وقد ملأ العلماء من كل المدارس والمذاهب آلاف الصفحات في تفصيلها فلم تعد تسمع إلا التنابذ بالألقاب والحزبية التي أفسدت على الناس صفاء عقيدتهم وشعورهم بأخوة الإيمان. يا أخي أرجو أن تعلم أنك ستنتهي حيث بدأ العلماء الذين عرضوا هذه القضية ولن تأتي فيها بجديد.

 وقد صدقت توقعاتي فيما قلته لصديقي، فقد زرته بعد أكثر من ثلاثين سنة بعد لقائنا الأول فلم يحدثني بشيء عن اهتمامه بتصحيح العقيدة، فقد صرفته مشاغل الحياة عن المساهمة في خدمة العقيدة أو خدمة العربية في مجالات الغزو الفكري أو العطاء الأدبي.

تذكرت هذه المحادثة مع صديقي طالب المشورة وأنا أقرأ ما كتبه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عن حوار دار بين الشيخ وأحد الشباب المتحمسين من أنصار مدرسة أهل الحديث في مسألة الأسماء والصفات، فقال له في حرقة: إنكم معاشر الشباب المتحمسين تشغلون أنفسكم في مناقشات عقيمة وأنتم معرضون عن الاهتمام بما توجبه عليكم نعمة البترول الذي يتدفق في أراضيكم، فليس فيكم من يحسن استخراجه ومعالجته وإنتاج المواد التي تُستخرج منه لتكون قوة لأمتكم، تتركون ذلك لأعدائكم وأنتم تتلهون في مناقشات نظرية لا تزكي نفساً ولا تزكي شيئاً في دنيا الناس.

إن من المؤسف حقاً أن لا يرى المتدينون المتحمسون من الأذكياء والمتفوقين ما يخدمون به أمتهم إلا في المشاركة في إثارة خلافيات قضايا التراث ومعاركه الفكرية. لقد خاض أسلافنا في كثير من القضايا التي فتحتها عليهم سجالاتهم مع أتباع الديانات والفلسفات القديمة في البلاد التي فتحها المسلمون. وقد نجح العلماء في رد موجة التشكيك والزندقة، ولكنهم -كما يقرر الشيخ محمد أبو زهره رحمه الله- تأثروا بمنطق وطريقة حجاج المعاندين كما يتأثر المحارب بوسائل أعدائه وطرائقهم في الكرّ والفرّ ليرد كيدهم ويصد هجومهم. وقد أنكر كثير من علماء الحديث على المتكلمين الذين نجحوا في الوقوف في وجه الشبهات، أن ينقلوا طرائقهم في الحجاج والسجال مع الزنادقة إلى عامة المسلمين الذين احتفظوا بفطرتهم العربية فلم يتأثروا بالشبهات. فنشأت مدرستان في فهم الأسماء والصفات ولكل مدرسة منهاجها الذي يناسب شريحة من الناس ولا تعارض ولا تناقض، فالكل يبغي التنزيه لذات الله عز وجل ويعبر عن ذلك بما تفهمه شريحة المسلمين الذين يخاطبونهم. فالانتصار لإحدى المدرستين وصرف الأوقات في الوقوف على تفاصيل سجالاتهم ليس فيه أي فائدة. ولا نملك إلا أن نقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. 

 إنّ على أصحاب الإمكانيات والمتفوقين أن يدركوا أنهم يعيشون في وقت تتكاثر فيه التحديات حيث تخوض الأمة معركة وجود وتحتاج إلى الإبداع في كل مسألة تتصل بحماية الأمة من سياسات التفريق والتمزيق ومن موجات التشكيك والإلحاد والفساد الأخلاقي وتشويه الفطرة. وهذا الإبداع المطلوب يمثل فرض كفاية على القادرين، ويمثل فرض عين على الأذكياء والمتفوقين.

وتحتاج الأمة كذلك إلى الإبداع في كل مسألة تتصل بحياة الناس وهم يعانون التضييق والحصار وتبديد الثروات وهدر الإمكانيات. فأيّ فكرة أو طريقة أو وسيلة تؤمن طرفاً من الكفاية وتعزز الثقة بالنفس وتقلل من الاعتماد على المستورد من البضائع والخدمات، يرقى في ظروف التضييق والحصار إلى مرتبة فرض الكفاية الذي يتعين على الأذكياء التصدي له وبذل الجهد لتخفيف المعاناة.

إن استحضار واقع الأمة وهمومها وجوانب قصورها أو تقصيرها، يجب أن يرقى عند الأذكياء والمتفوقين إلى مرتبة المعيار الذي يحدد توجهاتهم النظرية والعملية ويحدد مجالات دراستهم ومشاركتهم في أي نشاط. حيث يكفي في دراسة التراث الوقوف عند المتفق عليه من العقائد والشعائر وترك الخلافيات ومعارك الحزبية والعصبية التي أفسدت وحدة الأمة ودفعتها في طريق التشرذم والتمحور الضيق حول انتماءات صغيرة وهويات مبددة مفرّقة.