في التعامل مع قضية المرأة: رؤية إسلامية

353

مقدمة

إشكاليات الواقع الاجتماعي التي يعانيها المسلمون اليوم عديدة، وأضحى من الجليّ أن قضية المرأة تأتي في المقدمة وتُشكِّل محوراً أساسياً في جهود الإصلاح الاجتماعي.  ويبدو أنه صار هناك نوع من الاتفاق على محورية وأهمية هذه القضية بين التيارات الفكرية المختلفة، وإن كان لكلٍ منها منهجٌ وتصورٌ خاص.

وإذا كان اهتمام التيار الإسلامي بهذه القضية يُعدّ ظاهرةً صحيّةً ومبشّرةً بالخير، فإنه يجدر بنا أن ندرك أننا تباطأنا في الاستجابة، مما يلقي علينا واجب التصعيد السريع لنَجبر ما فات ونقضي دَيناً طالت مماطلتنا في ردّه، رغم غنانا بشريعةٍ محكمةٍ مسَدّدةٍ وقرآنٍ هادٍ فياضٍ وسنةٍ مطهرةٍ كاشفةٍ ومبيّنةٍ.

وإننا إذ نواجه اليوم في قضية المرأة تحدّياً محلّياً تُمليه الحاجة، وتحدّياً عالمياً تُمليه منظومة العالم الجديد المتقارب في أرجائه الذي يمتلك من وسائل الاتصال ما يسمح له المواجهة المباشرة والتأثير الكبير؛ فإن رسم توجهاتِ تجديدٍ في قضية المرأة ووضع ضوابط فكرية لهذه المسألة يُعَدُّ فرصةً علاوة على أنه واجب.  وإنّ أمامنا –كممثِّلين لقيم حضارة متميزة– فرصة تقديم البديل الراشد أو الاستمرار في حالة ركود وتخبّط. فلن تعتمد هذه الورقة التغنيّ بأن الإسلام أعطى المرأة حقوقاً واسعة –مع الإيمان الكامل بهذا– بل تتجاوزه إلى إعادة سكب الوضع الاجتماعي للمرأة من منظور إسلامي، والمقارنة بين المناخ الفكري الغربي والإسلامي، ويتضمن ذلك إشارات إلى أدوار الجنسين وميولهما، إضافة إلى مقترح لقراءة جديدة لبعض النصوص.

أولاً: أوجه التفارق بين المناخ الثقافي الغربي والإسلامي

لما كنا نعيش في زمن طغت فيه مفاهيم الحضارة الغربية، وأصبح الغزو الثقافي ليس جزءاً من الاستعمار المباشر فحسب بل بديلاً عنه، فأنه عند التصدي للتجديد –في أي قضية– يلزم استحضار الفروق الأساسية بين النموذج الإسلامي الذي نتطلّع إليه والنموذج السائد.  وإن التجديد الذي يقوم بعمليات استيراد قطع غيارٍ ثقافية ويحاول زرعها في مجتمعاتنا ولا يَسْتنبتها ويستلهمها من الأصول ليس بتجديد مبصر، ويرفضه حال المجتمع ولا ينتج –في النهاية– إلا زيادة في حيرة هذه الأمة وتمديد فترة تيهها. لذلك لا بدّ أن تكون الإطارية العامة للقرآن والسنة واضحة ومحددة في أي محاولة للتجديد. وسوف أعمد إلى إبراز أوجه التفارق الرئيسية بين الثقافتين الإسلامية والغربية على مستوى المفاهيم. والمقصود بالثقافة الغربية هو الثقافة الأوربية لما بعد عصر التنوير، تلك الثقافة التي تشكّلت عقب سلسلة طويلة من الابتعاد عن المنابع الدينية المسيحية ثم رفضها والتشهير بها، وتوليد رؤيةٍ عَلمانية دَهرانية، واعتماد ثقافةٍ لبرالية ذات قيمٍ وأعرافٍ دنيويةِ الفلسفة، ترفض التعالي وتزدري التعالي الأخلاقي وتتجاهله. وبحكم غلبة اللبرالية العَلمانية على المشهد العالمي والتبشير بها كمنقذٍ للعالم، يمكن أن نصفها بأنها “غربية” بناءً على مصدرها وسياقات المجتمع الأوربي الذي نشأت فيه، برغم أن هناك في “الغرب” وعلى الهامش تياراتٌ “محافظة” رافضة للعَلمنة واللَبْرلة الأخلاقية.

1- المثل الثقافية العليا

تبدي الثقافة الإسلامية –مقابل الثقافة اللبرالية– فروقاً أربعة مهمة فيما يتعلّق بالمرأة، ويمكن أن يوصف كلٍّ منها بأنه “غاية” ثقافية تعكس آمالاً ومثاليةً عليا يصبو إليها المجتمع المسلم أو يحلم بها على أنها ذروة الـمُنى.

أ- فبينما تُعلي الثقافة الإسلامية مفهوم العمل الخالص في سبيل الله بغض النظر عن الأجر المباشر في الدنيا، فإن الثقافة اللبرالية الغربية تؤكّد على مفهوم الحصيلة المنفعية المحسوسة في الدنيا. والمسلم الفعَّال هو الذي يبتغي الآخرة والأهداف النبيلة بعمل جادٍّ في الدنيا. والعمل الإيجابي الهادف في هذه الدنيا (العمل الصالح) يترتّب عليه نفع دنيوي وإن لم يكن هذا النفع –ضمن الرؤية الإسلامية– هدفاً نهائياً بحدّ ذاته.

ب- وبينما تؤكّد الثقافة الإسلامية على التضحية بشكل عام وعلى اعتبار مصلحة الآخرين، تؤكّد الثقافة الغربية على الفائدة الشخصية التي ينتج عنها حراكٌ اجتماعي فردي (social mobility) يرفع فيها هذا الفرد مستواه، كما أنها تؤكد على المنافسة الشخصية (individual competition) وتعتبرها طبيعيةً ولو وصلت حدوداً بالغة في التمحور حول النفس.

ج- وتؤكّد الثقافة الإسلامية على مفهوم العدل، مقابل تأكيد الثقافة الغربية على مفهوم المساواة. وبحكم عدم تطابق حال البشر بين فقيرهم وغنيهم وصاحب الصحة والمبتلى بالمرض، وبحكم عدم تطابق حال الإناث مع الذكور، فإن المساواة بين غير المتساوين غير عادلة. إنّ مفهوم العدل أوسع من مفهوم المساواة، حيث يقتضي العدل اعتبار حال الابتلاء من جهة وحال الأدوار المنوطة من جهة أخرى. وإن شمول معنى العدالة يلاحَظ فيه معنى العدالة التوزيعية (distributive justice) التي تهدف أن يعمّ الجميع حدٌّ أدنى على اختلاف ظروفهم، بينما تؤكد الثقافة الغربية –وبنسخة النيوليبرالية الاقتصادية تحديداً– على العدالة الفُرَصية (access justice) حيث يُنظر إلى تساوي الفرص –بحدّ ذاته– أنه عدالة بغضّ النظر عن تحقّق العدل في الوضع النهائي الفعلي للأمور. وليس المقصود أن الثقافة الإسلامية لا تقبل أي تفاوت بين الناس، وإنما المقصود أنها من خلال التوجيهات العامة للاهتمام بقضايا الفقراء والمساكين ومن خلال نظام الزكاة، تنحو إلى التوزيع العادل وتقليص التفاوت في المجتمع.

د- وبينما تؤكّد الثقافة الإسلامية على مفهوم “الفلاح” الشامل لكل مناحي الحياة، تؤكد الثقافة الغربية على مفهوم النجاح (success) ضمن إطار مادّي ضيّق. ومفهوم الفلاح يتعلّق بالفاعليات الدنيوية عندما تضع الآخرة هدفاً نهائياً لها ومصدراً لتنظيم وضبط غاية حركتها. كما يشمل مفهوم الفلاح جوانب الإنسان الفكرية منها والبدنية والنفسية. فالنجاح “الفالح” هو الذي يرقى بكل هذه النواحي.

2-         القيمة الشخصية

أ- تركّز الثقافة الإسلامية على اعتبار النيّات مع نتائج العمل وأن النيّة أساسٌ للعمل الصالح، بينما تُركِّز الثقافة الغربية على مفهوم الإنجاز (performance) بشكل رئيس. فالثقافة الإسلامية توجّه الفرد إلى أن يشعر بقيمته الذاتية كفردٍ من خلال سلامة نيَّته فيما يعمل بما في ذلك ما يُقدّمه للمجتمع، بينما توجِّه الثقافةُ الغربية الفرد إلى أن يعتز –بشكل رئيس– بنجاحه الشخصي في الإنجاز، ويظهر هذا –مثلاً– في العبارة الدارجة عند النجاح في تنفيذ أمر بقولة “فعلتها أنا” (I did it) مع قبض اليد وشدِّ عضل الذراع، مقابل خُلُق “الحمد لله” عند المسلم.

ب- تركّز الثقافة الإسلامية على القدوة والتطلّع دوماً إلى مثلٍ أعلى يُرتقى إليه، بينما تقنع الثقافة الغربية السائدة اليوم بالاستغراق الذاتي (self-enchantment).

ج- وبينما تقدِّر الثقافةُ الإسلامية مفهوم المنزلة والمكانة الاعتبارية، تُركّز الثقافة الغربية على تقدير التحصيل المحسوس (accomplishment) بشكل طافح. فمثلاً تُعلي الثقافة الإسلامية من شأن الأم وشأن المسنّ، بغض النظر عن النتاج المادّي المباشر لهما، في حين أنه تآكلت هذه المعاني والممارسات في الثقافة الغربية بعد أن ترسّخت الثقافة اللبرالية.

3-         البنية الاجتماعية

أ- تنظر الثقافة الإسلامية إلى الأسرة على أنها وحدة أخلاقية يحصل فيها الإحصان والسكن والمودة والرحمة وقرّة الأعين والعمل للآخرة ووقاية النفس والأهل. وتميل الثقافة الغربية إلى اعتبار الأسرة وحدة ذاتية لممارسة الاستقلالية ومشروعاً خاصاً يقوم به الزوجين كنوع من الاستثمار الشخصي (personal investment).

ب- وبينما تنظر الثقافة الإسلامية إلى تكامل أدوار الجنسين، “فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، تميل الثقافة الغربية إلى تكرار الأدوار ووضعها ضمن منظور التصادم والتنافس (competition).

مقارنة بين المناخ الثقافي الغربي والإسلامي

الثقافة الإسلاميةالثقافة اللبرالية
المنى الثقافية
في سبيل اللهالحصيلة الدنيوية
التضحيةالمنفعة الشخصية
العدالةالمساواة
الفلاحالنجاح
2- القيمية الشخصية
اعتبار النيّاتاعتبار نهاية الأعمال
نسبة إلى مثال أعلىاستغراق ذاتي قانع بالأخلاقية الشخصية
3- البنية الاجتماعية
الأسرة وحدة مجتمعية أخلاقية
(إحصان-سكن-توادّ-تراحم)
الأسرة وحدة خاصة ومشروع شخصي
تكامل الأدوارتكرار وتضارب الأدوار
تقدير مفهوم المكانة والقدوةتقدير مفهوم الإنجاز
4- الجنس
ضبط النفس والتعفّفالنهميّة والاستجابة للهوى
متاع مشتركاستهلاك وانغماس
توازن أسريتصعيد شخصي
الحشمةالتبرّج


4-         الجنس

أ- تؤكّد الثقافة الإسلامية على التعفّف وضبط النفس (delay of gratification)، بينما تؤكّد الثقافة الغربية على النهمية والاتقاد المستمر للشهوة. ويظهر ذلك جلياً في استساغة استعمال المؤثرات الجنسية في أي مجالٍ جادٍّ كان أو ترفيهي.

ب- وبينما تنظر الثقافة الإسلامية إلى الجنس على أنه نعمة تُعزّز الصلة بين الزوجين في صورة “لباس لكم ولباس لهن” يُثاب عليه الإنسان إن لم يوجهه عبثاً ويضعه في وِزر، تنظر الثقافة الغربية إلى الجنس على أنه بضاعة تُستهلك استهلاكاً حسب الطلب، وتنحو إلى ممارسته في صورة انغماسية تؤكّد على مضمونه الجسدي وعلى التمتّع الحسّي، وهذا نوع من الارتكاس لصيغة الـ “خطيئة” الكبتيَّة كجزء من الخلفية التاريخية الكَنَسيّة.

ج- وبينما تنظر الثقافة الإسلامية إلى الجنس على أنه مما يزيد في استقرار الأسرة وتكامل جوانبها، وتحصر جوازه في علاقة الزوج بالزوجة، تنظر الثقافة الغربية إلى الجنس على أنه مسألة خيار شخصي يمارسه الفرد للتلذّذ كيفما كان لا تحصر حدوده في الأسرة شرطاً، بل يمكن أن يتعداه خارجها إذا هَوَت النفس وكان ذلك برضى الآخر (mutual consent)، أو كان يترتب على ذلك مصلحة مادية (كما في الدعايات مثلاً).

ولا بدّ من التنبيه إلى أن ما سبق ليس مقارنة بين واقع المجتمعات المسلمة وأخلاقها وبين واقع المجتمعات الغربية وأخلاقها، وإنما هو إبراز أوجه التفارق بين المثل الثقافية لكليهما. وربما يصحّ القول إن مجتمعاتنا المسلمة بعُدت عن مُثلنا الثقافية ومقتضياتها أكثر مما بعُدت الثقافة الغربية عن مُثلها الحديثة. 

الناحية الأخرى التي تلزم الإشارة إليها هي إبراز الفرق بين الإشكاليات التي تواجه المرأة المسلمة في أيامنا وبين تلك للمرأة الغربية. وإن عالمية أي مسألة لا يعني الانطباق الكامل في تفاصيلها وحيثياتها بين جميع الثقافات، ولا يعني عالمية الحلول أيضاً، وإن إلصاق أوجه إشكالية وضع المرأة في الغرب علينا أو البقاء في العموميات في تصوّر المشكلة لا يسهم في معالجات سليمة سائغة.

ثانياً: ملاحظات حول التجديد في قضية المرأة

التجديد جزءٌ ركين من هذا الدّين، فالرسالة الإسلامية إنما هي خالدة بالهمم العالية لأهل هذا الدّين، لا يفتؤون من قراءة القرآن قراءة التدبّر التي تتطلّع إلى تنزيل معاني القرآن على الواقع المعاش، والتي تفهم السنة في ضوء كلّيات القرآن، آخذة بعين الاعتبار بُعد الزمان والمكان، وتقتدي بالسنة التزاماً بتوجيهاتها وأخذاً للعبرة والمغزى في مطلبها، وترى في كلّيات الشريعة إطاراً عاماً للفهم التطبيقي.

وينبغي أن يكون واضحاً أن التجديد ليس قضية نقطة وسطٍ بين ما عليه الإسلام وما عليه النمط الثقافي الغالب السائد، والتجديد ليس مسايرةً تُمليها الضرورة أو تأقلماً مع واقعٍ غالب. المقصود بالتجديد متابعة تنزيل التوجيهات القرآنية وتعاليم السنة على الواقع لتحقيق مقاصد الشريعة. ولما كان الإسلام ديناً خالداً لجميع الأزمنة والأمكنة، فإن هذا لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال التجديد المستمر. وإن مكانة القرآن والسنة وكونهما المرجعية النهائية للإسلام (حيث ليس هناك مؤسسة دينية تفرض رأيها)، شكّلت منابع الهداية التي مكّنت الإسلام من الاستمرار عبر الزمان والانتشار عبر الأصقاع. والتراث الإسلامي هو مجموع الجهد الفكري للأمة، وهو خبرة بشرية في محاولة التعامل مع مفاهيم الدين، وقد تخطأ وتصيب ويعتريها النقص البشري ولا تُعد مصدراً معصوماً، برغم كل الإسهامات القيِّمة التي احتواها هذا التراث. وفي كثير من الأحيان تكون التكيّفات المنصوص عليها في التراث صحيحةً نسبةً إلى زمانها ومكانها وظروفها ولا تناسب حالاً آخراً، وتكمن المشكلة فينا نحن حينما نتعامل مع الناتج التراثي بشكل مطلق ونخلطه مع كلّيات الإسلام.

ومن أمثلة التجديد البارزة ما فعله عمر بن الخطاب في ضرب الزكاة على الفَرس إخراجاً للنص من خصوصية الزمان والمكان إلى عمومية الهدف والمقصد. وذلك أنه كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ الزكاة على الفرس. ولكن حينما وجد عمر بن الخطاب أن الفرس صارت تُباع بأثمان بالغة، فرض عليها الزكاة معلّلاً ذلك بأن الفرس على عهد الرسول كان وسيلة الجهاد ثم أصبح متاعاً كأي متاع. ففي هذا نظر عمر بن الخطاب إلى الظرف المكاني والزماني للحديث واستخلص منه المعنى المراد وهو إعفاء أدوات الجهاد كالسيف والفرس من الزكاة. ولكن لما خرج الفرس عن هذه الوظيفة وأصبح فعالية اقتصادية ومصدراً للربح أوجب إخضاعه للزكاة. ولاحظ أن كليَّات القرآن والسنة كانت مراعاة في الحالتين: في إعفاء أمر لا يُتاجر به (أدوات الجهاد) من الزكاة، وفي عدم إعفائه حين صار مصدراً للرزق. ولطيف هنا ملاحظة أن الفرق الزماني بين عهد عمر بن الخطاب وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتجاوز الـ 24 سنة. فإذا تقرّر هذا المفهوم للتجديد، أناقش فيما يأتي نقاطاً تتعلق بالموجهات الفكرية لعملية التجديد في موضوع المرأة.

1-         الموجّهات الفكرية لعملية التجديد

أ- إننا في مسيرة التجديد إنما نطالب بإعادة اعتبار الحقوق والواجبات التي فرضها الله مما طال عليها الأمد وتناساها الناس. فليس التجديد في وضع المرأة بِدعاً من المطالب مدفوعاً بمصالح مؤقتة، إنما هو مسيرة متعبِّدة نحو الكمال الإسلامي الذي أنزله الله وحوَّره الناس أو عفا عليه تغيّر الأحوال. ولعلّ بسبب القابلية النسبية للأنثى أن تُستغل بحكم بِنيتها النفسية والعضوية، كانت توصية الرسول صلى الله عليه وسلم في خطابه التاريخي للأمة وللبشرية جمعاء في خطبة الوداع قبل موته أن قال “استوصوا بالنساء خيراً”، فظلم المرأة له شواهد على مدى التاريخ وفي جميع الثقافات.

ب- لا يصحّ إخراج التجديد الإسلامي في موضوع المرأة في شكل تنافسٍ وصراعٍ بين الجنسين، كما يحصل مع الأقوام الأخرى فما يزيد حياتهم إلا خبطاً ومسّاً. بل هو جهدٌ مشتركٌ للجنسين معاً لتحقيق هدفٍ واحدٍ هو تمكين مقاصد الشريعة الغرّاء في العدل والمكافئة، وتحويل ذلك من مبادئ نظرية إلى واقع عملي. ولا يتحصّل هذا إلا بتعاون الجنسين معاً على البرّ والتقوى، تعاوناً جِدّياً يرتقي فوق امتنان فريقٍ على فريق أو تنازل فريقٍ عن حقوق.

وعلى هذا فقضية المرأة ليست قضيةً للمرأة فحسب، بل هي قضية المجتمع بجملته، وفي بعض الأوجه هي قضية الأسرة لأن التغير المطلوب يشمل الرجل والمرأة على حدٍّ سواء، كما يشمل الأولاد. والمرأة عملياً هي شَغاف الأسرة، فالاهتمام بقضية المرأة لا يكون اهتماماً بقطاعٍ من الأفراد وتحزّباً لمصالحهم؛ بل هو اهتمامٌ عامٌ بالمجتمع وبِنيته الأساسية. وحين يُنظر إلى القضية بهذا المنظار فإن المسألة لا تنحصر في مطالبةٍ بحقوقٍ مسلوبة، بل تتعداها إلى الشعور بالواجب الذي لا يتمُّ تحقيقه إلا ببناء المجتمع المنسجم مع الفطرة السليمة.  وحينئذ تتشكل الأدوار الجديدة مُتّـزنة غير جانحة، وذلك من خلال مزدوجة العزم على القيام بالواجب مع استشعار المقصد الأسنى للشريعة ورفض المعوقات الاعتباطية.

ج- تراعي النظرة الإسلامية في موضوع المرأة قضية التكامل في أدوار الجنسين (وليس التساوي بمعنى الانطباق المماثل) آخذة بعين الاعتبار ما فضّل الله كلا الجنسين –الرجل على المرأة والمرأة على الرجل– بعضهم على بعض في نواحٍ معينة.

د- وتؤكّد الرؤية الإسلامية حاجة العالم بأجمعه إلى “قيم الرعاية” من صفات الرحمة والأناة والحلم والرقّة والعطف. وحيث قد امتلأ العالم اليوم بعكس هذه القيم من القسوة والصلف والأنانية والتحكّم والقهر، وحيث أننا في عصر يُبالَغ فيه في أهمية “قيم الإنجاز”؛ فلسنا بحاجة اليوم إلى شيء كحاجتنا إلى قيم الرعاية (والتي تُنسب عادة للنساء وإن كانت لا تختصّ بهنّ؛ بل لها مقابلات بين الرجال).  ولا يُخامر أحداً الشكُّ أن العالم سيكون أكثر حضاريةً إذا اكتسب هذه الصفات وتحلّى بها. وربما ليس هناك حاجة للإشارة إلى أن الإسلام حثَّ على هذه القيم وخاطب بها الرجال والنساء –على حدّ سواء– وأثاب عليها في الآخرة، وهي التي تحلّى بها كمالاً المصطفى عليه الصلاة والسلام.

وتزداد ضرورة الإشارة إلى هذه المعاني أننا نعيش اليوم ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية المتمحورة حول النماء التضخّمي والفاعلية الحادّة (growth & effectiveness) فشقيت الأرض من هذا، سواءً على مستوى حياة الناس في التطاحن المحلي والعالمي سعياً وراء النمو، أو في السباق المجنون والحياة الآلية سعياً وراء الفاعلية ولو اعتدت على خُلق التراحم ونداء الوجدان. كما شقي العالم المحسوس حولنا بسبب تدمير البيئة نتيجة طغيان قيم الفعَّالية والنمو، وأصبحت قيم الكفاية والقناعة (sustenance & satisfaction) وقيم الرعاية بشكل عام مطلوبة لتحقيق التوازن.

هـ- والرؤية الإسلامية التي تُعلي من قيمة بذل الجهد والسيرية (“قل سيروا في الأرض”)، تُعلي أيضاً من قيمة الحدس والنداء الداخلي (intuition) وقيمة الوعي السكوني (conscious passivity). وهاتان القيمتان ضروريتان في مسيرة الأسرة وتربية الأولاد، وتعزيزهما في الثقافة العامة أمر في غاية الأهمية.  وحيث يميل الرجال إلى نمط سلوك يتميّز بالعقلانية الشكلانية (rationality)، يميل النساء إلى نمط عقلاني تأمّلي (reflective) يتميّز بنوع من الانفعال الداخلي الساكن. والنمط الأول قاصر إن لم يوسِّع الدينُ آفاقه، والنمط الثاني عاجزٌ إن لم يضبطه الدّين. ولا بدّ من التنبيه إلى أن النسق الأنثوي ليس محض همودٍ وعجز، ويمكن إدراك هذا عند الانتباه لأمرين: الأول أن نمط الانفعال الساكن –الأكثر حضوراً في الأنوثة– هو في الحقيقة إيجابية غير مباشرة، وهو بنَّاء وله دور في توازن البشرية وفي وظائف المجتمع. الثاني هو أن الإسلام بدعوته إلى التأمّل والتدبّر والتفكّر، ينظر إلى مثل هذا النمط (كما تنظر إليه الديانات كلها بشكل عام) على أنه محمود ومطلوب بحدود، وهو ليس غائباً عند من يُحسن العبادة من الرجال.

و- ومن وظائف الأسرة التي يُطلب اعتبارها عند التفكير في أدوار الجنسين تحقيق السكينة، ويتناقص مضمون الأسرة بتناقصها. والأسرة ليست مجرّد ملتقى مكاني يتمّ فيه تلبية الحاجات الأساسية (كما تميل الدراسات الغربية إلى تصويرها)؛ بل هي أولاً كيان معنوي يحقّق الـ”سكن” بأوسع معانيه، والذي لا ينعكس على الزوجين فقط بل وعلى الأولاد أيضاً. ويضاف إلى ذلك وظيفة نقل القيم من جيل إلى آخر والتي تقوم به الأسرة والأمّهات –بالخصوص– على نحوٍ لطيف غير مباشر.

2-         موجهات عملية في صيرورة التجديد

يمدُّ الإسلام –بكونه ديناً عالمياً خالداً– بأسسٍ نظريةٍ لثقافة اجتماعية وأسسٍ بِنيوية هيكلية لتيسير تطبيق هذه الثقافة في الواقع. غير أن جُهد الناس أنفسهم هو الذي يُنتج هذه الثقافة، فإن قصَّرنا أو وقعنا في الخمول الثقافي أصابنا الانحدار والعنت. إن جهودنا على المستوى العملي في الإنتاج الثقافي تحتاج إلى مراعاة أمور كثيرة منها:

أ- ينبغي عند محاولة التقسيم العادل والمناسب للأدوار بين الجنسين اعتبار الأمور غير المحسوسة وغير القابلة للفحص المادي المباشر، كالجماليَّات ووظيفة الانشغال العقلي بكثير من فاعليات الأسرة.  وتضطلع الأنثى عادةً بهذه الأدوار، ولكن كثيراً ما يُغفل عنها وكأنها ليست جهداً عصبياً وجسمياً وعاطفياً يستأهل أن يؤخذ بعين الاعتبار.

ب- وفي محاولة صناعة وإخراج ثقافةٍ إسلامية معاصرة فإننا بحاجة إلى نفي مجموعة من التصورات المغلوطة بين الجنسين. ومن ذلك فكرة أن المرأة سهلة الغواية، مما يُبرر المبالغة في وصد الأبواب في وجهها، ويُعطي ذلك الرجال نوعاً من الفوقية الخلقية التي بدورها تُبـرِّر سلطةً تحكمِيَّة تغمط النساء حقوقهن الطبيعية التي صادقت عليها الشريعة.  والشواهد مطّردة على أن النساء لَسن أغوى، فالذكور أيضاً تُردي بهم شهواتهم إلى الانحراف والعصيان والمسكرات والمخدرات وما قد يستتبع هذا من سلوك إجرامي. أما النساء فصفة الغفلة ألصق بهنّ، وهذا أمر مختلف تماماً عن افتراض وجود ميلٍ للغواية مغروز ومتأصّل. والوثوق البريء المشاهد بين الإناث لا يستدعي وصد الأبواب في وجه النساء، بل يتطلّب الاحتياط. ولو استحضرنا الآيات التي تذكر علاقات الرجال والنساء لوجدنا هذه المعاني شاخصة فيها، وبالمقابل لمفهوم غواية المرأة جذور نصرانية في قصة آدم وحواء والتي تخالفها الرؤية الإسلامية بالتمام.

ومن الأمور في هذا الباب إشاعة التعليم للخصال التي يُحبها ويجلُّها كلُّ جنس في الآخر، كما أن هناك حاجة إلى نبذ خرافة (شائعة في بعض الطبقات الاجتماعية) أن النساء يُحببن القسوة من الرجال، وفي ذلك خلط بين القوة والحماية التي تجلّها المرأة وبين القسوة والشراسة، حيث أن هذا الأخير يحول بين أي تفاهم أو تعاون مثمر في مشروع الجليل للأسرة، علاوة على ما فيه من الإيذاء النفسي والاحتقار الذي يمكن أن يصل إلى حد الإيذاء البدني.

ج- ومن النواحي التي يجب الالتفات إليها قضية التفاهم مع الجنس الآخر، حيث كثيراً ما يُسيء كل جنسٍ فهم الآخر وما يقوله وما يقصده بسبب أسلوب مختلف في التعبير يتحلّى بها كل جنس. فالذي يفهمه الرجل من خطاب المرأة هو غير ما قصدته في مقالها، والعكس بالعكس، فكأنهما يتكلمان بلغتين تستعملان نفس الكلمات لمعان مختلفة.

د- وفي مسيرتنا نحو ثقافة إسلامية معاصرة نحتاج الانتباه إلى قلّة الاعتبار والتقدير لمجالات الآداب والفنون، مما يترك الحياة قفراً حائلاً ويزيد في الهوة بين الجنسين.

هـ- وأخيراً فإن هناك حاجة ماسَّة إلى رفع مصادقة بعض الفتاوى على عاداتٍ محلّية ما هي بسنَّة إسلامية، وإنما هي أعراف اتفق عليها الناس في دهرٍ ما، حيث أن التشدّد في التمسك بها مكبّل، كما أن بعضها مقترنٌ بعدم احترام المرأة وتهميشها وتهميش أدورها.

ثالثاً: نحو فهم نفسي اجتماعي للنصوص

القرآن والسنة روح الإسلام ومنابع فيضه التي لا تفتأ تغني حياة الناس بمَعانٍ جديدة، ليتحقّق في ذلك قضاء الله بخلود هذا الدين وصلاحيته لجميع الأزمان والأماكن. ويسهم ازدياد معرفة الإنسان وتفكّره بدروس التاريخ وتجارب المجتمعات في إغناء فهم النصوص. وهكذا يزيد الله الذين اهتدوا هدىً في الأبعاد الجديدة التي يتفتّق بها النص.

وبالخصوص إذا كانت النصوص تخاطب موضوعاً معيناً، فإنه ينبغي استخدام معرفة الإنسان وخبرة التاريخ في هذا الموضوع والمجال، ليحصل التفاعل بين الوحي وواقع الحياة، ولتتحقّق الهداية الربانية. وعلى هذا ينبغي عند النظر في النصوص التي تخاطب الأسرة وعلاقات المرأة والرجل إرهاف الحسِّ لطبيعة كلٍّ من الجنسين (مع نوعٍ من الاستحضار لعلوم السلوك والاجتماع). وفيما يلي نموذجاً لمعالجة بعض النصوص المتعلّقة بالمرأة والرجل، وهو من باب الاقتراح الذي يُطلب من المتخصصين في العلوم الشرعية النظر فيه.

ولنأخذ مثلاً حديث “اسْتَوصوا بالنّساءِ، فإنّ المرأةَ خُلقت مِن ضِلَعٍ، وإنّ أعوَجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمُهُ كَسَرتَه، وإن ترَكْتَهُ لم يَزل أعوَجَ، فاستَوصُوا بالنِّساء” (صحيح البخاري). وهناك جدال واسع حول هذا الحديث، والسؤال الذي يُطرح فيما إذا كان يصحّ ملاحظة المجاز فيه. والأصل في النصوص هو ظاهر المعنى المتبادر، ولا ينصرف اللفظ إلى المجاز إلا بوجود قرينة. وتُناقَش مسألة المجاز عادةً عند الكلام عن معاني القرآن الكريم، وفي الحديث ضرب للأمثلة وربما المجاز فيه قليل فعلاً بحُكم أن أكثر الأحاديث تعالج موضوعاتٍ واقعية مخصوصة، غير أن المجاز هو من خصائص كلام العرب ومن طبيعة اللغة ذاتها؛ فلا بدّ من ملاحظة المجاز في الحديث إذا توافر الداعي.

يستفتح الحديث أعلاه ويُختم بأمر “استوصوا”، فلا يستقيم أن يكون المعنى المراد فيه انتقاص. كما لا يمكن لفكرة العِوجِ الأصلي في المرأة أن تصحّ، فخصال الأنوثة لم تُخلق عبثاً؛ بل هي مقصودة من أحسن الخالقين سبحانه وتعالى. كما يمكن القول إن المجاز واضحٌ في منطوق الحديث: العوج في الأعلى، الكسر.

ولقد استُخدم هذا الحديث لتبرير نظرة دونية للمرأة وإهمال توجهاتها، واعتبار أن الفهوم الخاصة للنساء عوجاء لا تصلح، وأن السداد المطلق إنما هو للرجال وفهومهم. ووفق هذا يُصار إلى تهميش المرأة وتأطير عطاء النساء وميلهنّ بناء على تصوّر العوج، وليس على أنه طريقة أخرى للنظر في الأمور.

إنه لا يمكن أن يكون موضوع الحديث ازدراء النساء، فهذا لا يُتصوّر أن يأتي من الرسول الأسوة للعالمين. ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس كلاًّ على حسب حاجته: فيقول لهذا لا تغضب، وينصح الآخر بعدم التطلّع للولاية، ويجيب عن سؤال أفضل الأعمال لذاك ببرِّ الوالدين ولذاك بالصدق، بناء على خصوصيةِ حاجة كلٍّ منهم. أفلا يمكننا القول إنّ الحديث الذي بين أيدينا يخاطب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم جنس الرجال على الخصوص، مستحضراً لخصائصهم النفسية من أجل إصلاح المجتمع وضمان توازن الأسرة؟

فتنزع الرجولة بطبعها إلى تغيير وتجبير الأشياء (من عُدد البيت إلى السيارة إلى شكل المؤسسات وأدوار الموظّفين)، وذلك مقابل خاصية التكيّف التي تنزع إليها الأنوثة. ومن جملة نزعة الرجال هذه ميلهم إلى ممارسة هذا النمط “التجبيري” في التعامل مع النساء أيضاً، ويبدو أن هذا بالضبط ما ينبِّه إليه الحديث. فالحديث يخاطب الرجال واصفاً لتصرفات النساء بالصورة التي يراها الرجال (بالأمس وإلى اليوم) ويتعجّبون لها ويضيقون بها ذرعاً، وأن الرجل بطبعه يميل إلى محاولة تغيير ذلك، وأن ذلك لا يجدي بل يُفسده كسراً.

والعوج هنا لا يمكن أن يكون نقصاً أو انحرافاً، فكل شيء خُلق بقدر ولحكمة ليؤدي دوراً في هذا الحياة.  ولعل العوج وصف دقيق لطبيعة الأنوثة التي تميل إلى مواجهة الأمور بشكل غير مباشر بتضمين قولي أو فعلي، وهو وصف نسبيٍّ لما هو عليه الرجل. ويزيد الحديث في البيان بأن هذا التفارق بين طبائع الرجل والمرأة يبلغ أقصاه في نهايات الأمور وتفاصيلها ودقائقها “وإن أعوج ما في الضلع أعلاه”، وأنه بقدر ما علا الأمر في خصوصيته الأنثوية، كان التفارق في النظر إليه بين الرجال والنساء تفارقاً أكبر.

ثم ينصُّ الحديث على المراد منه –والله أعلم– وهو التوجيه الاجتماعي وليس التقرير. بمعنى أن في الحديث تنبيهاً للرجال –الذين يميلون طبعاً إلى محاولة تعديل الأشياء وليس التأقلم معها– أن لا يفعلوا هذا مع نسائهم فينبّه: “إذا ذهبت تقومه كسرته”، وهو ما يفعله الرجال عادة فتزداد العلاقة توتراً. وتؤكّد هذه المعاني روايةُ مسلم: “إنّ المرأةَ خُلقت مِن ضِلَعٍ لن تَستقيمَ لك على طريقةٍ، فَإن استَمتعتَ بها استَمْتعتَ بها وبها عِوَجٌ، وإن ذهبتَ تُقِيمُها، كسرتَها وكَسْرُها طَلاقُها” (وفي رواية “وإن ترَكتَها استمتعتَ بِها على عوجٍ”)، حيث تمدّنا الرواية بمعنيين: أن الطبيعة المغايرة موضع استمتاع لو تفطّن الرجل لذلك، وأن مغالبة هذه الطبيعة مفضٍ إلى المحذور. فحينما يحاول الرجل أن يجعل المرأة تُفكّر وتتصرّف وفق نمط الرجولة، فلو تصرفت وفق هذا لوقف حائلاً دون الاندماج العاطفي بنيهما وربما أدخل الحال في دائرة العنف أو ما ينتهي بالطلاق. وتؤكّد هذه المعاني رواية أحمد: “لا تستَقيمُ لكَ المرأةُ على خَليقةٍ واحِدةٍ، وإنّما هي كالضِّلعِ…”، ففي هذه الرواية تصريحٌ بأن الأمر أمر “خليقة” وطبائع غالبة على الجنس.

وفي سورة الحجرات توجيه إلى أن {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}. وهذا التفريق في التوجيه بين النساء له دلالته الخاصة، حيث أن لكل جنس نمطه في السخرية، والنمط الأنثوي له واضح. فحيث يميل النساء إلى تقدير العلاقات الإنسانية والاهتمام بها والحديث عن تفاصيلها وجزئياتها، وحيث أن من مهامهنَّ الحفاظ على هذه العلاقات وصيانتها، فإنهن حُكماً قد يقعنَ في انتقاد زائد لهذه العلاقات يتجاوز التمحيص المطلوب إلى السخرية المحظورة. فنبّهت الآية الكريمة إلى ذلك تنبيهاً إلى خطأ محتمل في دورٍ مطلوب.

ولعل النمط الذكوري المقابل في هذه المسألة هو السخرية المتمحورة حول السلطة والسيادة. وقد يشهد لذلك الحديث المشهور “اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحَزَن… ومن غَلَبة الدَّين وقهر الرجال”.  فلما كان الرجال يميلون إلى الاهتمام بالتحكّم وتملّك زمام الأمور، فإنه لزم التنبيه إلى الـ “قهر” في الاستعاذة منه في لفظٍ صريحٍ يشير إلى الرجال ويخصّ ذكرهم. وطبعاً لا يصحُّ فهم انتقاص الرجال عامة والحُكم عليهم أخلاقياً بناءً على هذا الحديث، فإنما هو توجيه اجتماعي وليس تقريراً، وهو دعاء قلَّ أن تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث حجة الوداع إشاراتٌ لطبيعة شعور المرأة في مسألة تعبّدية بحتة: قال جابرٌ رضي الله عنه: “وإنّ عائشةَ حاضت فنسكتِ المناسكَ كلَّها غيرَ أنها لم تَطُفْ بالبيتِ. قال: حتى إذا طهرت طافت بالكعبةِ والصفا والمروةِ، ثم قال: قد حللتِ من حجِّكِ وعمرتِكِ جميعًا، قالت: يا رسولَ اللهِ أتنطلقون بحجٍّ وعمرةٍ وأنطلقُ بحجٍّ؟ قال: إنّ لكِ مثلَ ما لهم. فقالت: إني أجدُ في نفسي أني لم أطُفْ بالبيتِ حتى حججتُ. قال: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا سهلًا إذا هويَتِ الشيءَ تابعَها عليه”، وفي رواية “لبِثنا بالحجّ حتى إذا كنتُ بسَرَفٍ حِضتُ، فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يُبكيك يا عائشةُ؟ قلتُ: حِضتُ، ليتني لم أكنْ حجَجْتُ…”، وفي رواية أخرى “يا رسول الله أتَرْجَعُ صَواحبي بحجٍّ وعمرةٍ، وأرجِعُ أنا بالحجّ”. والانعكاسات الشعورية التي عبّرت عنها عائشة مفهومة بالتمام من ناحية طبيعة محاكمة النساء لوقائع الحياة، حيث لا يروي ظمأنهن الحدّ الفقهي الأدنى من ناحية صحّة العبادة، بل يتطلّعن إلى تمامها وكأنه جزء من جمالية العبادة. وبشكل عام يميل النساء إلى الشعور التعايشي الكوني مع مسائل الحياة، مقابل قناعة الرجال بالجانب التنفيذي التقنيّ.

ويمكن أن نضع ذلك ضمن إطارٍ أكبر للنسق الثقافي، نسق الإنجاز ونسق التعايش الكينوني (being vs. doing)، ولا يخفى أن النسق الإسلامي يدفع نحو التعايش مع المسائل (علاوةً على بُعد الإنجاز)، وذلك من خلال توجيهاتٍ في المسائل النفسية (محاسبة النفس وتنقية النيات…) ومن خلال توجيهاتٍ في التعامل المجتمعي (الرفق بالمساكين والدعاء للأخوة…)..

والخلاصة يبدو جلياً أن خطابَ الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الأحاديث خطابٌ تربوي يعالج توجّهاتٍ اجتماعية عامة. وهذه نقطة منهجية مهمّة في فهم الأحاديث التي تعالج مواقف اجتماعية، حيث يجب أن تُفهم من منظار كونها توجيهاتٍ هدفها المعالجة الحكيمة لإصلاح المجتمع، وليس على أنها تنظير قانوني صلد مقطوع عن طبيعة الحياة. وإذ ينبغي الحرص على استقصاء دلالات النص، ينبغي أيضاً عدم التكلّف، بحيث لا يتمّ تجاوز موضوع الحديث ومناسبته، إلى جانب توضيع النص ضمن شبكة المعاني والمفاهيم الإسلامية العامة، الأمر الذي يساعد على رؤية الارتباطات بين الظواهر وعلى تحليل أعمق لدلالات المواقف والأقوال. والله تعالى أعلم.

خاتمة

أرجو أن يكون فيما جرت مناقشته تنبيهات لضرورة استحضار الأطر الإسلامية والكلّيات الشرعية في أي موضوع، ولا سيما في موضوعٍ غشته الأوهام بسبب الوضع الحضاري الحالي للمسلمين. وكذا هناك واجب التفكّر في النصوص واستخلاص معانٍ منسجمة مع رؤية الإسلام ورسالته للبشرية عامة على مرّ الأزمان.

والله من وراء القصد.

كاليفورنيا، 1413هـ\ 1992م