قصة عن التنمية

195

ضمن مجموعة الكتب التي تتحدث عن التقنية المناسبة والتنمية ونقل التكنولوجيا، كتب “غلين روبرتس” دراسة بعنوان: تساؤلات عن التنمية، وذكر في هذه الدراسة قصة واقعية تحتاج منا إلى الكثير من التأمل.

وصل الخبراء إلى قرية على شاطئ المحيط الهندي تعيش على صيد السمك. كان سكان القرية ولسنوات طويلة يصيدون بوسائل بدائية. كانوا يصيدون السمك ولكن كان عليهم أن يبحروا بعيداً عن الشاطئ كل يوم حتى أيام الأعياد. كانت حياة شاقة متعبة ولكنها مستقرة مستمرة لسنوات طويلة.

جاء الخبراء بنوع جديد من الشِباك الحديثة وبعض التقنيات الجديدة فكان صيد يوم واحد يساوي حصيلة أسبوع كامل باستعمال الشبكات القديمة. كان هذا شيئاً رائعاً حقاً! أصبح بإمكان أهل القرية أن يعملوا يوماً واحداً ويرتاحوا بقية أيام الأسبوع. صنع أهل القرية حفلة كبيرة، بل حفلات… حتى اضطروا للعمل يومين في الأسبوع لتغطية نفقات الاحتفالات.

لم يكن هذا أمراً مقبولاً للخبراء، فعلى أهل القرية أن يعملوا ستة أيام في الأسبوع ليحصلوا على المال. فالخبراء لم يقطعوا كل هذه المسافات ليشاهدوا الاحتفالات التي لا تنتهي. يكفي أهل القرية احتفالاً واحداً في الشهر. فهذا بلدٌ متخلفٌ وعليهم أن يزيدوا من إنتاج البروتين “السمك”.

ولكن أهل القرية يفضلون نوم القيلولة والصيد ليومين فقط والاستراحة بقية أيام الأسبوع. كان هذا الموقف مزعجاً لفريق الخبراء، فهم لم يقطعوا كل المسافات من الشمال البعيد ليشاهدوا السكان المحليين يطبلون ويزمرون ويرقصون. لقد جاؤوا لإطعام الجياع ولتقليل خطر أمراض سوء التغذية التي يساهم بها المتخومون. ولكن أهل القرية يتابعون الرقص حتى ساعة متأخرة من الليل. ولم لا؟ فهم الآن أغنياء ربما أكثر من (الماهراجا) الذي لم يعمل في حياته ولو ليوم واحد.

ثم خطرت في بال مدير المشروع فكرة ذكية، (فلم تذهب سدى دورة الاقتصاد المسائية التي حضرها في لندن). فهؤلاء الصيادون ليسوا حقيقة كسالى ولكنهم ببساطة لا يملكون حافزاً لمزيد من العمل. إنهم لم يكتشفوا حاجاتهم بعد. دفع مدير المشروع رشوة لأحد فتيان القرية ليشتري دراجة نارية. فالرشوة شيء بغيض ولكنها أحياناً ضرورية. وصحيح أنه لم يكن في القرية طرق صالحة ولكن الرمال الرطبة على الشاطئ ملساء ومتماسكة. بدأ هذا الفتى يغدو ويروح بدراجته وهدير صوت محركها يلفت الأنظار. يا لها من لعبة! وبسرعة طمع كل فتى في القرية بالحصول على دراجته الخاصة. وقد حذّر الكبار الفتيان وقالوا لهم: وما فائدة الغدو والرواح على الرمال بلا هدف ولا غاية؟ أجاب الفتيان: سوف نتسابق ونرى من الأسرع وأنتم أيها الكبار يراهن بعضكم بعضاً من سيكون الأسرع وتشاركوننا المتعة.

نجحت فكرة مدير المشروع بشكل كبير. فقد اضطر أهل القرية للصيد تقريباً كل يوم. وحصلت العاصمة على الأسماك الطازجة التي تحتاجها. (وبالفعل، تم تصدير كميات كبيرة من الأسماك إلى أوروبا)، وكان أكثر الناس سعادة بهذا النجاح (الماهراجا) الذي حصل على وكالة حصرية لبيع الدراجات النارية ويمتلك سوقاً لبيع السمك في المدينة. بينما أنشأ عمه معملاً لتعليب الأسماك. وعندما عاد الخبراء إلى بلادهم رفعوا أسعار الدراجات إلى ثلاثة أضعاف، فأصبح شراء دراجة واحدة يتطلب توفير عمل ثلاث سنوات بدلاً من أجرة عمل موسم واحد. واستمر الصيادون في العمل فقد اكتشفوا حاجة من حاجاتهم.

يتابع مدير المشروع تحليله لهذه القصة قائلاً: لقد زاد الإنتاج وأظهرت الأرقام الرسمية زيادة في الدخل القومي ومزيداً مما يسمونه (تنمية)، ولكن كل ذلك لم ينعكس على أهل القرية بأية فائدة في التعليم أو الخدمات بل زاد التلوث وكثرت الإصابات وتغيرت طبيعة الناس ومقياس الرفعة والشرف بينهم ولم يبق لهم وقت للتواصل والاحتفال. فهل هناك مقياس نحدد فيه التنمية التي نريد؟

عندما قرأت هذه القصة شعرت أنها تمثل قصة الغالبية العظمى لمجتمعات البلاد التي تقع خارج إطار الحضارة الغربية في آسيا وإفريقية وأمريكة اللاتينية. لقد أعجبت تلك المجتمعات بالتقنيات والسلع التي يصنعها الغرب ولم تمتلك البصيرة لتنتقي من هذه السلع والتقنيات ما يناسب حاجاتها ويستجيب لمجالات قصورها. وزاد الأمر سوءاً عندما اندثرت من هذه المجتمعات بتأثير الاستيراد دون بصيرة صناعات ومهارات وطرائق إنتاج أساسيات من الغذاء واللباس والبناء وغيرها – مهما قيل عن بدائيتها وعدم فاعليتها – ولكنها كانت تؤمن طيفاً واسعاً من الحاجات الأساسية بما جعل تلك المجتمعات مستقرة عبر القرون.

لقد بلغ استهلاك المستورد من السلع والبضائع حد الإدمان والاعتماد الكامل في أساسيات الحياة. فقد كانت سياسات النظام العالمي في فترة سابقة تدور حول جعل الشعوب أسواق تصريف للبضائع وما يتعلق بها من ثقافة. ثم تحول الأمر إلى فرض سياسات تمنع الشعوب من الاعتماد على مصادرها في تأمين الغذاء وإلزامها بإنتاج المواد الأولية اللازمة لصناعات شركات الغول الرأسمالي تحت التهديد بالمقاطعة والحصار، ولو أدى ذلك إلى أزمات الغلاء وعدم توفر الغذاء والدواء والوقود وانتشار المجاعات والمعاناة.

إن الوعي لطبيعة النظام العالمي العنصري وسياساته في التعامل مع الشعوب أمرٌ ضروريٌّ لا بد من مجابهته بنشر ثقافة الاعتماد على الذات وتأمين الكفايات بالخبرات والموارد المحلية، والعمل على تأصيل مهارات الكفاية والحرص على اكتسابها والاعتزاز بها ونشرها والصبر على ما تتطلبه من جهد وتعب وهجر للعجز والكسل وهجر لثقافة البطر وعادات زمان الوفرة الكاذبة التي مهدت لأزمات الغلاء وتسلط الأعداء.