وهم التَّحضُّر واغتيال البيان

215

كان محبُّ الدِّين الخطيب، وهو من أكثر الشَّخصيَّات في العصر الحديث اعتزازاً باللُّغة العربيَّة والتَّاريخ العربيّ، يقول: إنَّ “لغة الأمَّة دليل نفسيتها، وصورة عقليَّتها، بل هي أسارير الوجه في كيانها الاجتماعيِّ الحاضر، وفي تطوُّرها التّاريخيِّ الغابر، لأنَّ وراء كلِّ لفظة في المعجم معنى شعرت به الأمَّة شعوراً عامّاً، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظ خاصٍّ، فوقع ذلك اللَّفظ في نفوس جمهورها موقع الرِّضى، وكان بذلك من أهل الحياة، …فلغة الأمَّة تتضمَّن تاريخ أساليب التَّفكير عندها، من أبسط حالاته إلى أرقاها، يعلم بذلك البصير في أبنية اللُّغة وتلازمها، ومن له ذوق دقيق في ترتيب تسلسلها الاشتقاقي([1]).

فاللُّغة بهذا المعنى، ليست فقط طريقة تعبير، وأسلوب خطاب، بل هي تاريخ الأمَّة: الاجتماعيّ والسِّياسيّ والاقتصاديّ والنَّفسيّ. وهي سجلُّ حضارتها وتعاقدات أهلها، ومؤشِّر استقلالها أو تبعيَّتها.

وكلَّما استغنت الأمَّة عن لغتها، واستبدلتها بلغة أو لغات أخرى، فهي بذلك تعلن أنَّها ارتضت لنفسها التَّبعيَّة، واكتفت بالتَّقليد، الَّذي تدفع ثمنه خسارة لكيانها، ووأداً لأحلامها ومستقبلها، وضياعاً لأهدافها، وتشتيتاً لتآلف أبنائها، وجهلاً بإرث أجدادها، يكون من تبعاته التباسٌ في فهمهم، وفقدٌ لتجاربهم، وانقطاعٌ عن حضارتهم، وتشكيكٌ بنتاجهم.

زهدُ العرب اليوم بلغتهم، واحتقارهم لها، وجهلهم بكنوزها، قد يكون دليلاً على مدى الضَّياع الَّذي يعيشونه، أو لنقل: هو دليل على استقالتهم الحضاريَّة، واكتفائهم بالتَّلقِّي، وبعدهم عن عالم الأفكار لصالح عالم الأشياء، بالإضافة إلى أنَّه يدلُّ على الغفلة الَّتي رسَّخها انبهارهم بكلِّ غربيّ، وتمحورهم حول مسلَّمات استلابيَّة أفقدتهم القدرة على المحاكمة العقليَّة والاستفادة مما بين أيديهم وتطويره وتحسينه.

قد يقول قائل: إنَّ العولمة اليوم، والتَّواصل الإنسانيِّ الواسع، جعل من المنطقي أن تسيطر لغة عالميَّة يكون تعلُّمها من باب الضَّرورة للإسهام في الحضارة العالميَّة، والاطِّلاع على كلِّ جديد نحن بحاجة إليه، كون العالم المتحضِّر سبقنا أشواطاً كثيرة، وأصبح لزاماً علينا أن نجتهد للَّحاق بهم، والتَّعلُّم منهم.

إنَّ هذا الاحتجاج يغفل عن حقيقة مهمة، وهي أنَّ الإسهام في الحضارة العالميَّة لا يعني الذَّوبان في نموذج حضاري واحد، يقضي على ما عداه من نماذج حضاريَّة أخرى، فمن رحمة الله سبحانه، أنَّه جعل التَّنوُّع سمة الحياة الأرضيَّة، فليس هناك بيئة متماثلة، ولا شعوب متطابقة، لأنَّ لكلِّ شعب أرضه الَّتي يتعامل معها ومع قوانينها وبيئتها، ومن خلال تجربته وتفاعله مع مكانه وزمانه، تنتج حضارته ولغته وأساليب تفكيره، الَّتي تلتقي مع حضارات الأمم الأخرى، متلاقحة متفاعلة، ومؤثِّرة متأثِّرة. وما يصلح في هذه البقعة من الأرض، قد لا يصلح في غيرها، وما تعاقد عليه أهل هذه البقعة من الأرض، لا يتطابق مع تعاقدات شعوب أخرى.

ولعلَّ في أبحاث جمال حمدان حول الجغرافيا وخصائص المكان، والَّتي قدَّم فيها رؤية جديدة لمفهوم حضارة الإنسان في المكان والزَّمان، نموذجاً يحتاج لاهتمام الباحثين، لما فيه من بيان لفلسفة المكان وانعكاساته على الأمَّة والمجتمع وتعاملات الأفراد، وتفاهماتهم ولغاتهم، حيث يقول: “إن تكن الجغرافيا في الاتِّجاه السَّائد بين المدارس المعاصرة، هي التَّباين الأرضيّ، أي التَّعرُّف إلى الاختلافات الرَّئيسة بين أجزاء الأرض على مختلف المستويات؛ فمن الطَّبيعيّ أن تكون قمَّة الجغرافيا هي التَّعرُّف إلى شخصيَّات الأقاليم…، والشَّخصيَّة الإقليميَّة شيء أكبر من مجرَّد المحصِّلة الرِّياضيَّة لخصائص وتوزيعات الإقليم…، إنَّها تتساءل أساساً عمَّا يعطي منطقة ما تفرَّدها وتميُّزَها بين سائر المناطق، كما تريد أن تنفذ إلى روح المكان لتستشفَّ عبقريَّته الذَّاتيَّة الَّتي تحدِّد شخصيَّته الكامنة، وهذا هو.. ما يُعرف كاصطلاح عامٍّ بعبقريَّة المكان”([2]).

فإذا كانت لغات العالم قد طرأ عليها التَّغيير والتَّبديل، عبر الزَّمان والمكان، حتَّى اضطرَّ أصحابها لإعادة كتابة نصوص الأجداد الَّتي لم تعد مفهومة بلغة الأحفاد؛ ليتمكَّنوا من التَّواصل الظَّنيِّ مع تجارب أجدادهم ونتاج أفكارهم ومشاعرهم؛ فإنَّ اللُّغة العربيَّة بقي أرقى ما فيها من ألفاظ ومعان محفوظاً عبر الزَّمان والمكان، بحفظ القرآن الكريم لها، الَّذي نزل بلسان عربيٍّ مبين، وبفضله ظلَّت العربيَّة محتفظة بكلِّ مستوياتها اللُّغويَّة: النَّحو والصَّرف والدَّلالة، والأصوات، وهو ما يعني تواصلاً بين الأجيال، وحفظاً لتجارب الأمَّة وتراثها، وغنى في مخزونها الثَّقافيّ والمعرفيّ والشُّعوريّ، وأساساً واضحاً يمكن البناء عليه حضاريّاً وفكريّاً ونفسيّاً وأخلاقيّاً.

لكنَّ داء الاستلاب أعمى عيون العرب عمَّا بين أيديهم، وجعلهم يزهدون بما عندهم، وصاروا يتحدَّثون بلهجات تبتعد يوماً بعد يوم عن اللُّغة العربيَّة بكلِّ ما فيها من مزايا وكنوز وفرص.

وليس في هذا خطورة على اللُّغة العربيَّة بحدِّ ذاتها، إنَّما الخطورة والخسران هما من نصيب الإنسان العربيِّ نفسه الَّذي أعرض عنها، فاللُّغة العربيَّة محفوظة بحفظ القرآن الكريم الَّذي تكفَّل الله جلَّ وعلا بحفظه، وهي قادرة على مدِّ من يعود إليها من أهلها بكلِّ ما يحتاجه من تهذيب وتربية ونماء، أمَّا العربيُّ الَّذي جهل لغته، وصار يرطن بلغة أخرى هجينة مؤلَّفة من كلمات وألفاظ لا ترتبط برابط معقول، حيث ينطق بكلمة أجنبيَّة وأخرى عاميَّة، فقد فقدَ شخصيَّته وكيانه الحضاريِّ، وأصبح يعاني من إعاقة في أساليب التَّفكير والاستقبال والفهم، فاللُّغة، كما بيَّنا، هي وسيلة التَّفكير، وأداة التَّعبير، ولا يمكن أن يمحى منها أثر التَّفاعل بين شركاء الأرض، ولا التَّأثُّر بطبيعة المكان وتقلُّبات الزَّمان، لذلك نجد أنَّ التَّناقض واللامنطقيَّة والسَّطحيَّة تكون مسيطرة في أحيان كثيرة، على نتاجات العرب الحضاريَّة في بلادهم، حتَّى باتوا يقيسون التَّقدُّم والحضارة بمقياس ماديٍّ، فخضعوا لمقارنات ظالمة، جعلتهم يظنُّون أنَّ التَّحدُّث بلغة أجنبيَّة أكثر تحضُّراً من حديثهم بالعربيَّة، وأنَّ تسمية أولادهم بأسماء أجنبيَّة أكثر انسجاماً مع التَّقدم، وأنَّ زهدهم بألحانهم وأغنياتهم و”تطاربهم” مع ألحان أجنبيَّة فيه دلالة على مسايرتهم للحضارة وانتمائهم لها…إلخ، حتَّى غدا كلُّ ما ينتمي للعرب والعروبة والعربيَّة مستحقراً ظلاميّاً، وكلُّ ما هو تقليد للأجنبيٍّ تطوُّراً وحضارة.

ومع ظهور وسائل التَّواصل صارت صفحات “الفيس بوك” و”تويتر” وغيرها، مرآة عاكسة لمدى التَّقهقر والفقر الَّذي وصل إليه العرب، فاللَّهجة العاميَّة سيطرت على كتاباتهم، والخطأ في الإملاء تفشَّى لدرجة لم يعد يَعرف فيها العربيِّ التَّمييز بين الحروف، وبعضهم راح يكتب العربيَّة بحروف أجنبيَّة، بل بحروف لا تنتمي للغة من لغات العالم، فصار المكتوب في تلك المواقع أشبه بالإشارات البدائيَّة الَّتي هي في التَّصنيف أخسُّ مراتب البيان، فالأبكم قد يدلُّ بإشاراته وحركاته على بعض مراده، وقد يستعين بحركات جسده وتعابير وجهه، فيصل بعض إحساسه لمن يخاطبه، أمَّا هذه الطَّريقة، فهي لا ترقى للغة الأبكم ولا لأسلوب خطابه، وهي بالتَّالي لا تقدِّم للقارئ التَّواصل المطلوب، ولا تعبِّر عن المراد، ولا تفتح آفاق التَّفكير، ولا تُظهر المشاعر والأحاسيس على حقيقتها.

ورغم هذا الوضع المزري الَّذي وصل إليه التَّعبير عند العرب، إلَّا أنَّ الحلَّ موجود، ويمكن لنا نحن المسلمين والعرب، الَّذين ارتضى الله عزَّ وجلَّ لنا اللُّغة العربيَّة لغة رساليَّة حضاريَّة، وآمنا بذلك، أن نسهم في وقف هذا السَّيل الجارف الَّذي يجتاح مواقع التَّواصل الاجتماعيّ وفضاء التَّخاطب، أو الحدِّ منه على الأقلّ، وذلك عن طريق حرصنا على استخدام اللُّغة العربيَّة في كتاباتنا ونقاشاتنا، وتعليقاتنا، وتعابيرنا، وأن نحرص على استخدام ألفاظها ومفرداتها في كلامنا العاديّ اليوميّ، فضلاً عن نصحنا لغيرنا، خاصَّة من نتوسَّم فيهم العقل والصَّلاح، بأن لا يحيدوا عن استخدام لغتهم العربيَّة الفصحى تحت أي ذريعة كانت، لأنَّها من أسباب قوَّتهم وتمكُّنهم ورقيِّهم.

وأخيراً فإنَّ لابن تيميَّة قولاً ألمس صحَّته واقعاً وتعاملاً وإدراكاً شعوريّاً، إذ يقول: “اعلم أنَّ اعتياد اللُّغة يؤثِّر في العقل والخُلقِ والدِّين تأثيراً قويّاً بيِّناً، ويؤثِّر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمَّة من الصَّحابة والتَّابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدِّين والخُلق”([3])، وما أحوجنا لذلك.


[1] ـ الخطيب، محب الدّين،”القوميّة عند العرب”، في الزّهراء، 1 (15 صفر، 134366.

[2] ـ حمدان، جمال، شخصيَّة مصر، القاهرة، دار الهلال، 1، المقدِّمة.

[3] ـ ابن تيميَّة: اقتضاء الصِّراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، بيروت، دار عالم الكتب، 1، 527.