أنا سلفي

177

اسم الكتاب: أنا سلفي “بحث في الهوية الواقعية والمتخيلة لدى السلفيين”

اسم المؤلف: محمد أبو رمان

الناشر: مؤسسة فريدريش إيبرت

بلد الناشر: عمان/ الأردن

سنة النشر: 2014

عدد الصفحات: 267


تُعتبر السلفية من أهم التيارات التي تشكل ملمحاً من ملامح الخارطة الفكرية والاجتماعية والسياسية في العالم العربي، وقد أسهم اتساع مساحة انتشارها إلى تحولها إلى موضوع شاغل للباحثين والدارسين في الشرق والغرب.

ولكن هناك طبيعة معينة تتصف بها الجماعات أو الاتجاهات السلفية، كما أنها لا تنضوي تحت خط واحد، وقد يخلط البعض بين تيار سلفي وآخر ظناً أنهم واحد، كما قد يجهل البعض سبب صعود السفلية وانتشارها، وما علاقة ذلك في التغيرات الحاصلة على الساحة العالمية.

لذلك سنقدم في هذا المقال لكتاب “أنا سلفي” للباحث الأردني الدكتور محمد أبو رمان، المتخصص في الحركات والجماعات الإسلامية، والذي قدم فيه تحليلاً لطبيعة الهوية السلفية، وشرحاً لخريطة الاتجاهات السلفية في العالم العربي، مستنداً إلى عمل ميداني خصصه في الأردن، ولكن يمكن الاستفادة من نتائجه لفهم طبيعة السلفية في العالم العربي بشكل عام.

*** *** ***

الهوية السلفية

يستعمل أبو رمان مفهوم الهوية لفهم طبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة أو المجتمع السلفي الذي ينتمي إليه، وذلك باعتبار أن “الهوية تتكون من مجموعة من العوامل التي تمنح الإنسان على الصعيدين الفردي والمجتمعي روابط من الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، وهو شعور يضمن استمرارية الجماعة في مواجهة مصير التفكك”.

ولا تكتسب الهوية قيمتها من ذاتها فقط، بل من الآخر المختلف، حتى أنه لا يكون معنى للهوية من دون وجود التميز والاختلاف عن الآخر.

من هذا التصور، يقيم أبو رمان مجموعة من التصورات المنهجية التي تساعد على فهم طبيعة الهوية السلفية، وهي كالتالي:

        يمكن فهم السلفية باعتبارها “تأكيداً على الهوية” كآلية دفاع في مواجهة “العولمة” وتحديات الحداثة وتغيرات العالم المعاصر، وما ينعكس عنها من قيم وثقافة وسلوكيات تنخر في المجتمعات التقليدية.

        يُفسِّر مفهوم الهوية صعود الاتجاهات السلفية في العالم العربي اليوم، على اعتبار أن السلفية تمثل شعوراً بالتهديد للهوية الدينية والثقافية، ورد فعلٍ على المرحلة الصعبة التي تمر بها المجتمعات والأفراد وحالة اختلال التوازن السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي الناشئ في الواقع.

        يتعامل الفرد السلفي مع الجماعة السلفية باعتبارها جماعة مرجعية، أو كأنها وحدة اجتماعية مصغرة، بحيث تحدد له الجماعة الدور الذي يقوم به ضمن النسق الاجتماعي القائم فيه ونمط تفاعله مع كلٍّ من جماعته والمجتمع الخارجي.

اتجاهات السلفية المعاصرة

لا تمثل السلفية شكلاً أو تياراً واحداً منظَّماً، فهي تتسم باختلافات داخلية واسعة من ناحيتين؛ الأولى تدور حول شرعية من هو سلفي أو من هو الذي يمثل الخط السلفي الصحيح، والثاني اتجاه تعريف الواقع السياسي والموقف من العمل السياسي واستراتيجيات التغيير والإصلاح.

فعلى الرغم من التزام جميع التيارات السلفية على مرجعية السلف الصالح وفهمه للقرآن والسنة وتطبيقه في الحياة المعاصرة، إلا أنهم يتفرعون إلى أيديولوجيات واتجاهات مختلفة ومتنوعة، بل قد تكون متعارضة أيضاً وتقصي بعضها بعضاً.

ولفهم الخريطة المتشعبة للاتجاهات السلفية، يميِّز أبو رمان بين أربعة اتجاهات سلفية قائمة في العالم العربي، وهي الآتي:

        الاتجاه الأول: وهو الخط المحافظ أو العلمي والدعوي، اختار الدعوة والتعليم في حين رفض مبدأ المشاركة السياسية، ويركز على تصحيح الجوانب العقدية والعلمية والرد على الأفكار والعقائد التي يراها منحرفة (مثل الشيعة والمعتزلة والخوارج، وضمن السنة الصوفية والأشاعرة).

وقد مثَّل هذا الاتجاه في السعودية الشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد بن صالح العثيمين، ويقترب منهم الشيخ ناصر الدين الألباني في الاْردن، وجمعية أنصار السنة المحمدية في مصر.

        الاتجاه الثاني: يتخذ هذا الاتجاه موقفاً أكثر تشدداً ضد الأحزاب السياسية الإسلامية، وتقوم مقاربته السياسية على مبدأ “طاعة أولياء الأمور”، ويتخذ دائماً موقفاً منحازاً للحكومات ضد الحركات الإسلامية الأخرى، وضد المعارضة السياسية بشكل عام.

وقد مثَّل هذا الاتجاه أتباع محمد الجامي وربيع المدخلي في السعودية، ومقبل الوادعي في اليمن، وأتباع ناصر الدين الألباني في الأردن، ومحمد سعيد رسلان في مصر.

        الاتجاه الثالث: في المقابل يقف تيار السلفية الجهادية، والذي تقوم مقاربته السياسية على تكفير الحكومات العربية العلمانية المعاصرة، ويتخذ موقف التغيير الراديكالي والمسلح، ويمثل خطابه الحاضنة الأيديولوجية لشبكة القاعدة.

وقد مثَّل هذا الاتجاه فكرياً في الأردن أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، وفي سورية أبو بصير الطرطوسي.

        الاتجاه الرابع: وفي وسط هذه التيارات تقع السلفية الحركية التي تجمع ما بين العقائد والأفكار الدينية السلفية من جهة، والعمل الحركي والمنظم والسياسي من جهة أخرى، ويؤمن بالإصلاح السياسي وسلمية التغيير.

وقد مثَّل هذا الاتجاه عبد الرحمن عبد الخالق في الكويت، ومحمد بن سرور (السرورية) وتيار الصحوة في السعودية، والشيخ محمد بن عبد المقصود وتياره الفكري في مصر.

على الرغم من هذه الخلافات الواسعة بين الاتجاهات السلفية، إلا أن هناك مجموعة من القواسم المشتركة في العقيدة والفقه، وإن اُختلف في مسألة العمل السياسي، وتتمثل هذه القواسم المشتركة بالتالي:

        يمنح السلفيون على اختلاف توجههم أهمية كبيرة للجانب العقائدي، فهم يعودون تاريخياً لدائرة أهل السنة والجماعة، وأهل الحديث تحديداً، وهي مدرسة تشكلت في إطار الرد على الفرق والجماعات الأخرى التي يعتبرونها منحرفة مثل الشيعة والخوارج وغيرهم.

حيث يلتزم السلفيون برؤية عقائدية موحدة تقوم على إثبات الصفات لله، من دون تأويلها كما يفعل الأشاعرة مثلاً، ويمنحون التوحيد مكانة أساسية، فتراهم يخصصون في أدبياتهم ردوداً على مظاهر الشرك لدى الصوفية مثل علاقتهم مع قبور الأولياء.

        أحد المفاهيم الرئيسة لدى السلفية هو مفهوم الاتباع لا الابتداع، وإذ يؤكدون على أهمية اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثل كل المسلمين، فإن هذا يأخذ عندهم معنى الالتزام بفهم الصحابة الأوائل تحديداً، ويوسعون رقعة ما يعتبرونه ابتداعاً في الدين.

        تقديم النص على العقل، يحث يؤكدون على قيمة النص الصريح المتمثل بالقرآن والسنة في مقابل العقل والرأي.

        تمسكهم واهتمامهم بالسنة النبوية وتقفي سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو ما يظهر على هيئتهم الشخصية، مثل ارتداء الثوب العربي وإطلاق اللحية، وارتداء النساء للباس الأسود الكامل (على اختلاف وجود الخمار أو دونه).

لماذا صعد التيار السلفي؟

يطرح أبو رمان في نهاية الكتاب تساؤلاً حول الأسباب التي جعلت الرؤية السلفية الإصلاحية المنفتحة تتراجع على حساب الصيغة الراهنة من السلفية المعاصرة القائمة على مبدأ تحصين الهوية، على اعتبار أن السلفية الإصلاحية هي التي برزت في بدايات القرن العشرين مع رشيد رضا والسلفية الوطنية في المغرب، حيث تعتبر امتداداً للتراث الفكري لمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وسعت إلى عمل قراءات للدين تعود به إلى الأصول بالاستناد إلى معطيات العقل وبالتوفيق مع الفكر الغربي الحديث، وكانت النهضة هي الهدف الذي ترمي إليه (على عكس الهوية التي تتمسك بها السلفية المعاصرة)، ووصفها بالسلفية نابع من كونها تستند إلى أصول في الماضي والسلف، ولكن يختلف شكل تعاطيها مع هذا الماضي عن السلفية المعاصرة.

يُضَمِّن الكاتب مجموعة من العوامل التي أدت إلى هذه الصعود، وفي مقدمتها العامل السعودي، حيث حرصت الحكومة السعودية خلال العقود الماضية على نمشر السلفية، بحكم زواجها مع نظام الحكم هناك، وذلك في مواجهة مد الأفكار القومية واليسارية في فترة الخمسينات والستينات، وقدمت الدعم المالي والمؤسساتي والتعليمي والدعوي اللازم لنشرها.

والسلفية السعودية تغلب عليها النزعة الإحيائية (أي إحياء الماضي) بدلاً من الإصلاحية، أي أنها أخذت طابعاً تقليدياً، وكانت الأردن الأكثر تأثيراً بها بحكم القرب الجغرافي، بالإضافة للخليج.

والعامل الثاني هو اللحظة التاريخية التي رافقت صعود السلفية، فقد واجهت السلفية الإصلاحية أسئلة مختلفة وظروفاً سياسية مختلفة، فقد كان سؤال المرحلة التي عايشتها هو سؤال النهضة والإصلاح والتقدم، لكن مع بروز الدولة القومية والأنظمة السياسية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، والهزائم السياسية المتكررة والمعضلات الداخلية، أدى كل ذلك إلى إعادة صياغة الأسئلة لتأخذ توجهاً نحو أسئلة الهوية والصراع السياسي بين التيارات السياسية، لينسحب سؤال النهضة ويحل مكانه سؤال الهوية.

أما العامل الثالث فمرتبط بالظروف العامة، والذي دفع بحسب الكاتب إلى “نمط من الجواب الاحتجاجي والرد الثقافي المبسَّط على التحديات والتهديدات والمشكلات والمعضلات التي تواجه المجتمعات العربية؛ فالمدرسة الإصلاحية لا تحمل إجابات بسيطة فورية حاسمة، بقدر ما تقوم بعملية نقد للذات، بينما تقدم المدرسة السلفية جواباً محسوماً، بسيطاً للشارع، فثمة فرق بين أن تقول بأن السبب هو البعد عن الله وعن الإسلام الصحيح، والحل بالعودة إليه،… وبين أن تقول بأن لدينا مشكلات ثقافية ومجتمعية، حتى في الموروث الديني والثقافي، وعلينا القيام بعملية تنوير وإصلاح ديني داخلية”.

*** *** ***

يهدف الطرح الذي قدمه أبو رمان في هذا الكتاب إلى تقديم تصور عن السلفية المعاصرة وأسباب صعودها وطبيعة هويتها، وبالرغم من أنه استند إلى مقابلات مع ممثلين للسلفية في الأردن، إلا أن نتائجها يمكن أن تنطبق على حالة السلفية المعاصرة في العالم العربي.

وتجدر الإشارة في الختام إلى أن السلفية ستبقى جزءاً مؤثراً وحاضراً في المجال العام الإسلامي، وبالتالي فإن أي عملية نقد أو تحليل لن تؤدي إلى نفي وجودهم بقدر ما تعمل على فهمهم وتبيان مواضع الخلل في تصوراتهم وممارستهم، وذلك يهدف بطريقة أو بأخرى إلى تقويم المسارات وتسهيل إمكانية إدماج جميع التيارات والأطراف ضمن دائرة الحوار في المجال العام، بدل العيش في جزر معزولة.