ابن تيمية وعصره

886

اسم الكتاب: ابن تيمية وعصره

الكاتب: مجموعة باحثين

تحرير: يوسف ربوبورت وشهاب أحمد

دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر (عدد الصفحات: 413)

تميل التيارات المعاصرة في قراءة التراث الإسلامي لاختيار شخصيات تراثية معينة لتمثيلها والدفاع عن آرائها، وقد يشوب هذا الميل أحياناً بعض الاختزال لهذه الشخصيات، ومن ثم احتكارها من قبل هذه التيارات، مما يسد الأبواب أمام إعادة فهم وتأويل هذه الشخصيات التراثية.

ولعل ابن تيمية من أهم الشخصيات التي وقعت في هذا المأزق. وفي هذه المراجعة لكتاب “ابن تيمية وعصره”، سنسلط الضوء على أبرز القضايا التي ناقشها الكتاب فيما يتعلق بهذه الشخصية الجدلية.

تكمن الإضافة الأساسية لهذا الكتاب في كشف العديد من الصور المغلوطة عن ابن تيمية في عدة جوانب، هذه الصور المغلوطة التي تجعل ابن تيمية مُحتكراً من قبل التيار السلفي المعاصر بتأويلاته المختلفة، وتقصيه في المقابل تيارات فكرية أخرى.

ستناقش هذه المراجعة هذه الصور المغلوطة التي تناولها الكتاب، حيث يتألف هذا الكتاب من عدة دراسات كتبها مجموعة من الباحثين المتخصصين في التراث الإسلامي والواقع الإسلامي المعاصر، ويمتلكون اهتماماً خاصاً بابن تيمية وعصره وحضوره المعاصر.

يعرض الكتاب صورة لابن تيمية تُظهر دوره التفاعلي مع المجتمع والبيئة المحيطة، حيث تبين مقدمة الكتاب التي كتبها شهاب أحمد ويوسف ربوبورت دور ابن تيمية في فترة الزحف المغولي، والذي كان من العلماء القلائل الذين مكثوا في دمشق خلافاً لكثير من العلماء، وفاوض المغول نيابة عن أهل المدينة، وكانت تلك الأحداث هي التي مهدت لتدشين خطابه الإصلاحي الراديكالي. ويشيران إلى أن جهاده ووقوفه في وجه المستعمر هو الذي بوأه مكانته المتميزة.

مع ذلك، لم يكن لابن تيمية حضوراً كبيراً في الماضي مقابل حضوره الكثيف في العصر الحالي.

كما يبينان أن ابن تيمية “غالباً ما يُستشهد به دون أن يُفهم كلامه، وتُستدعى نصوصه لكن من دون أن يُدرس دراسة وافية، ويرجع ذلك بصفة جزئية إلى سعة اهتمامات ابن تيمية وضخامة إنتاجه العلمي”.

ابن تيمية والمدرسة الحنبلية

تناقش كاترينا بوري في أول دراسة من هذا الكتاب مغالطة كون ابن تيمية ممثلاً للمدرسة الحنبلية وعدم خروج هذه المدرسة عن فكر ابن تيمية، وتؤكد أن “الناظر في المصادر الحنبلية وغيرها من الكتب المناصرة للمذهب الحنبلي يكتشف تعدداً واختلافاً في الموقف من ابن تيمية”، وتظهر معارضة مجموعة من العلماء الحنابلة لفكر ابن تيمية، مثل شمس الدين بن مسلم الحنبلي الذي منع ابن تيمية من الفتوى والطلاق وكل المسائل التي تتعلق بالفتاوى الحنبلية، بالإضافة لغيره من العلماء.

وتعرض أيضاً خلاف ابن رجب الحنبلي مع ابن تيمية، حيث كان يرى ابن تيمية أن الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة أولى من الرجوع إلى أقوال أئمة المذاهب، أما ابن رجب فقد وقف ضد هذا التوجه.

وعلاوة على ذلك، تسلط بوري الضوء على تلاميذ ابن تيمية الذين كانوا من اتجاهات متعددة، فنجد مثلاً تلميذه الشهير ابن قيم الجوزية، والواسطي الصوفي، والذي كان يُجِلُّ ابن تيمية واعتبره من “الجماعة”، وابن كثير الشافعي، والحافظ الذهبي. وتؤكد أن “الانتماء المذهبي الفقهي لم يكن يؤخذ في عين الاعتبار في محيط جماعة ابن تيمية ومقربيه”.

والخلاصة ان ابن تيمية ينتمي انتماءً اختيارياً للمدرسة الحنبلية، وهو انتماءٌ مبنيٌّ على قواعد مستقلة للنظر الفقهي وليس على مجرد التقليد، وهو ما لا يردعه عن الاختلاف مع الحنابلة، وعن تشجيعه لمبدأ الاجتهاد.

المنهج العقلاني لابن تيمية

بالرغم من مكانة ابن تيمية القوية في السلفية المعاصرة، واعتباره من قبل العديد من المفكرين والباحثين كمؤثر في الفكر السلفي، إلا أن هذا يُغيب الجانب النقدي والعقلي في منهجه الفكري وانفتاحه، والذي يدلل عليه تعدد مشارب تلامذته وتنوع توجهاتهم.

يشرح محمد سعيد أوزوفارلي المنهج العقلي لابن تيمية، فقد كان يرى ابن تيمية أن أصول الدين التي شرعها الله تحتوي في ذاتها كل الأصول العقلية، كما تحتوي نصوص القرآن والسنة على كل الدلائل العقلية الكافية، وهو ما يجعلنا في غنى عن دلائل المتكلمين والفلاسفة، حيث يعد هذا مدخلاً لنقده للمتكلمين.

جوهر فكر ابن تيمية يقوم على أن المبادئ والأسس العقلية لأصول الدين يجب أن تتوافق مع نصوص الشرع حتى لا تنحرف هذه الأصول عن طبيعتها، وكان يتبنى منظوراً عقلانياً يستند إلى الكتاب والسنة، ويرى أن العقل لا يمكن أن يعارض النقل.

وينسحب هذا على تصوره عن حرية الاختيار، حيث ينكر نظرية الكسب الأشعرية ويعتبرها موافقة للمذهب الجبري. وكان يرى في المقابل أن الله هو الخالق، وأن العبد هو الفاعل، فالله يخلق أفعال العباد بقدرته وتوفير أسبابها، لكن العبد مسؤولٌ عن أفعاله، لأنه حرٌ فيما يشاء.

وعلى صعيد آخر، كان جوهر خلاف أهل الحديث مع ابن تيمية هو استعمال ابن تيمية للعقل، حيث كانت هذه النقطة هي أكثر ما تعرض له ابن تيمية بالنقد، بسبب مزاوجته بين العقل والنقل في المجال العقدي.

ويتحسر أوزوفارلي في نهاية بحثه على الوصمة الملتصقة بتراث ابن تيمية ووصفه بالتشدد، بالرغم من أن مقاربته اتسمت بالتعددية وبالنظر الفلسفي.

الفقه الراديكالي لابن تيمية

بناءً على فكرة استحالة التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية لدى ابن تيمية، يُعمل ابن تيمية أدلة عقلية أخرى، مثل دليل الاستحسان والمصلحة، ويوسع دلالاتها.

وعلى صعيد التفاصيل الفقهية، يعيد ابن تيمية الاعتبار إلى مبدأ النية في مسائل مثل العقود والبيع والتجارة، حيث يرى أن العقود تكون صحيحة ما دامت النية صحيحة، وهو ما فتح لها باب النقد للحيل الفقهية التي كانت سائدة في عصره.

كان يعتبر ابن تيمية معارضاً لبعض الممارسات الاجتماعية والدينية، إلا أنه كان مراعياً للواقع المنتشر وهو ما كان يحكم منهجه الفقهي، حيث كان ينظر لاحتياجات الناس، ويخاف في نفس الوقت من أن تتحول أحكام الدين إلى مجرد حبر على ورق، وهو ما تجلى في أحكامه الفقهية في العقود والبيع، وذلك بحسب يوسف روبرت.

كما وجه ابن تيمية النقد لحالة الورع الزائد واعتبره مرض عصره، حيث يرى أن مفهوم الورع قد وقع عليه سوء فهم أدى إلى إحداث مشقة كبرى على المكلفين.

وفي خاتمة دراسة روبرت، يشير إلى سعة تأثير ابن تيمية في العصر الحالي، بالرغم من ادعاء السلفية المعاصرة احتكارها له.

ابن تيمية والتصوف

يلفت راكيل يوكلاس النظر إلى جانب مهم ومغفل عن ابن تيمية، ألا وهو علاقته بالتصوف. فيشير إلى أن ابن تيمية يحضر كقوة لا يستهان بها ومرجعية قوية، فمن جهة، تنظر الجماعات السلفية إلى ابن تيمية على أنه مصلح كبير دافع عن السنة وجاهد ضد البدع، ومن جهة أخرى، يتردد العلماء والكتاب المتصوفة بين إنكارهم على ابن تيمية فيما يتعلق بحملاته ضد الممارسات الدينية التقليدية، وتقديرهم له باعتباره صوفياً منتمياً للطريقة القادرية.

بل إن بعض الصوفية يحاولون “استرداد” آراء ابن تيمية باعتبارها موافقة للتصوف، ومن هنا يشير يوكلاس إلى وجود تنافس صوفي سلفي معاصر على إرث ابن تيمية، حيث يأخذ مسألة المولد النبوي كنموذج لهذا التنافس.

فقد ذهب ابن تيمية إلى بدعية المولد النبوي، نظراً لأن السلف لم يفعلوا ذلك، لكنه رأى في الوقت نفسه أن من يحتفل بمولد النبي رغبة منه في إظهار حبه، فإنه يستحق عليه أجراً عظيماً حسب نيته.

ثمة شقان لمقاربة ابن تيمية، الأول يكمن في تفسيره الحرفي والصارم لفقه العبادات، والثاني في اعتباره للنية في تعظيم النبي.

تتجلى المنافسة السلفية الصوفية على ابن تيمية في النقاش حول مسألة المولد النبوي، حيث كتب عالم الحديث السعودي إسماعيل بن محمد الأنصاري مؤلفاً في إنكار المولد النبوي مستشهداً بموقف ابن تيمية السلبي منه، في حين رد عليه محمد علوي المنتمي للطريقة العلوية رداً على إحدى فتاوى ابن باز رأى فيه عدم شرعية المولد النبوي، واستشهد في رسالته بثناء ابن تيمية على بعض من يحتفلون به، وذلك في صدد دفاع العلوي عن المولد النبوي.

يمكن اعتبار علاقة ابن تيمية بالتصوف علاقةً مركبة ونقدية في نفس الوقت، فهو يقدر الجوانب الروحية والعاطفية في التصوف، ولا ينكر انتماءه إلى الطريقة القادرية، لكنه يتبنى في نفس الوقت موقفاً نقدياً من بعض الممارسات الصوفية التي وجد أنها تؤثر سلباً على مجريات الواقع المحيطة به، خاصة مع وجود الغزوات المتكررة من الخارج.