التشكيلات المجتمعية البينية

345

هناك طروحات كثيرة من مفكرين وفلاسفة وعلماء عن تغيّر التشكيلات المجتمعية في مجتمع الحداثة وفي مرحلته المتأخرة بخاصّة والتي أُطلق عليها وصف ما-بعد-الحداثة. غير أن ما يدعو إلى التطرّق للموضوع في سياق المجتمعات المسلمة هو أن تلك التغيّرات ترسّخت إلى حدٍ بعيد من وجه، وتوطّنت في غير بلدان ثقافات المنشأ من وجه آخر. لكن ولو سلّمنا بأن التشكيلات الحديثة توطّنت في بلاد المسلمين وجرى تطبيعها فإننا نذهب إلى القول إنها لم تصبح طبيعيةً. وسبب ذلك أن هذه التشكيلات تتصادم مع ما يُفترض أن يولّده النسق الثقافي التاريخي للمسلمين. وبرغم توجّه جزءٍ من الخطاب الفقهي إلى التلفيق مع المعطيات المعاصرة، لا يفتأ أن يصل هذا حدّ الاصطدام والتنافر مع منطلقات الثقافة الإسلامية، فيحفز ردود فعلٍ ناضحةٍ وغير ناضجة، وهو الأمر الذي يُعيد فيُبرز إشكاليةَ المستورد الوافد.

التضارب بين الموروث والوافد صحيح على بلدان المسلمين وغير المسلمين، ولا يشذّ عن ذلك إلا بلدان الثقافة الأوربية (أوربة وأمريكا الشمالية وأستراليا وروسيا). فهذا التضارب شاخص في البلدان الأفريقية وبلدان المشرق الآسيوي على حدّ سواء. والهند شاهدٌ على ذلك من ناحيةٍ سياسيةٍ حيث كونها (أكبر ديمقراطية) لم يُلغِ طبيعةَ اجتماعها، والصين شاهدٌ آخر قويّ حيث كونها أكبر رأسمالية (وباعتبار أنّ البُغاث الرأسمالي هو محرّك ترسيخ التشكيلات المعاصرة) لم يُلغِ طبيعةَ اجتماعها. بلدان أمريكا اللاتينية حالةٌ أخرى تضيء المسألة، حيث أن مسيحيّتها تؤهلها لاستقبال الحداثة لكن تاريخها لا يؤهلها أن تكون جزءاً من نادي الثقافة الأوربية ويجعلها بلاد خليطٍ غير منسجم. المجتمعات المسلمة عامّة -التي تشهد جميعها تغييراً في الأعماق- تترنّح بين تشكيلاتٍ قديمة تقدّدت وجرى تسميمها وبين تشكيلاتٍ حداثيةٍ متنافرةٍ داخلياً.

باعتبار ما سبق من خصوصية النموذج الحداثي للحيّز الثقافي الحضاري الذي تترعرع فيه، وباعتبار انتشاره العالمي وترسيخه بِنياتٍ قاهرة وأذواقٍ ثقافية شائعة، نتفحّص أدناه طبيعة التشكيلات المجتمعية التي تدفع إليها المنظومة العالمية الراهنة. ونحدّدها في خمسة أوجه متوزّعة على صُعُد الفرد والأسرة والمهنة والمدينة والطائفة.

الفرد المستنفِر

لقد تأيّن (ionization) الفرد المعاصر ليقترب من صورة تشكيلة مجتمعية بنفسه. فبينما كان الفرد يُكيّف نفسه لصالح اجتماعٍ أكبر منه، يُسخّر له قواه ويُخضع له حتى ذوقه مُهذِّباً أنانيةَ مزاجه، أصبح الفردُ يرى أن من حقّه فرضَ نشوزِه على المجتمع وأن على المجتمع تكييفَ نفسِه معه وتلبيةَ مطلب الشذوذ الشخصي. وعبارة “الشخصي هو سياسي” في توجه (الفيمنست) لغةٌ دالّة على هذا.

وما مكّن تضخّم الفرد وتشبّهه بما هو من غير جنسه له طرفٌ ثقافي معروف وطرفٌ هيكلي أخفى. وتبرز إمكانية التواصل الافتراضي على رأس ذلك الطرف الهيكلي، تلك التي جعلت من الفرد هيكليةً وبنيةً متعدّية، ومعتديةً أيضاً. ولعلّه لا يشهد على ذلك مثل ظاهرة “ذوي التأثير وذواتي التأثير” (influencers). فذوو التأثير يمشون في الأرض مرحاً وكبراً واستعراضاً للفُحش، وذوات التأثير مائلاتٌ مُميلات يتبرّجن بأسنمة البختِ لاستقطاب السلفيّ من الناس. والنمط الذي نحن بصدده لا يتعلّق بمعنى الجمال الذي تعشقه النساء ويأخذ بلبّ الرجال، وإنما هو التفلّج للحُسن والنفخ بالسمّ. ووجه انتصاب ذلك تشكيلةً اجتماعيةً هو أنّ هذا الفرد النشاز مرتبطٌ عامودياً بشركاتٍ ضخمةٍ لها سيطرة كبيرة على الحياة. ففي حين كانت قوى الفرد تمرّ عبر طبقاتٍ متراتبة من الأسرة إلى الحيّ وعبر البلدة وإلى ما هو أكبر من ذلك، قوى أفراد النشوز اليوم تنفكّ عن مداراتها الأصلية وتنطلق ذرةً مخرّبةً فوضويةً أو تُنشئ مداراتٍ جديدة اصطناعية تنافس المداراتِ الأصلية أو تلغيها.

وزحف اللهو من الهامش إلى المركز يرصف التوقّعات ويستهلك الأوقات، وانحسرت ضوابطه الأخلاقية وبلغت فكرة اللذة مبلغ المبدأ الفلسفي. ففي حين أن نازع الاستجابة للشهوات أمرٌ قديم معروف للبشرية، ما يميّز هذه اللحظة التاريخية المعاصرة هو استحقاقية المتاع وشخصنة الأخلاق. والمقصود باستحقاقية المتاع هو أن التمتّع كان كالملح للطعام وأصبح الآن هو الإدام. فكل شيء ينبغي أن يتحوّل لعباً وتسلية، من التعليم وإلى التعبّد. تجاوز الحدود الأخلاقية إشباعاً للشهوات أمر مطّردٌ، ولكن الجديد فيه هو تطبيعه والسخرية من الأخلاقية على أنها مثالية وعلى أنها كبتية.

العالم الافتراضي أصبح تشكيلةً اجتماعيةً لأنه يُمرّر دواعي السيطرة الخارجية لتصل إلى شغاف المجتمع وأخصّ بِنياته. هذه الهيكلية الجديدة تُنشئ مجموعات أفرادٍ يلمّ بعضها بعضاً هوىً فاسداً أو عابثاً. فليست المسألة فحسب وجود أشخاصٍ لهم هوى غريب يتموقع على ضفاف المسخ النفسي، وإنما تعظيم هذا الهوى من خلال الإعلان والمجاهرة ومن خلال تراكم ألوان الغرابة والفجور.

والعالم الافتراضي هو تشكيلة اجتماعية أيضاً حيث أنه بسبب ترهّل مؤسسات المجتمع الأصيل (الذي يُقال له تقليدي) وبسبب تصلّب مؤسسات الحداثة وتعقلنها على نحوٍ تعوزه الرحمة ويُعجزه التعاطف، أصبح هذا العالم الافتراضي بديلاً يبدو ناجعاً لمساندة الفرد المسحوق من جهة والممسوخ من جهة أخرى. ولا عجب إذاً أن يتحوّل العالم الافتراضي في آنٍ منصّةً للتعلّم المبتور والعنف المسعور والعُجب المفتون.

الأسرة المجندرة

الأسرة هي محضنُ الوليد ومأمنُ المراهق وحقلُ زراعة البالغ ومَخدَمُ الـمُسنّ. ومنذ حلّت ظلمةُ عصر الأنوار تتلقّى هذه المؤسسة -التي صاحبت تاريخ الإنسانية- الضرباتِ الثقافية والهيكلية. ولقد جاءت الرماح الثقافية الطاعنة في الأسرة من جهتيّ طغيانٍ: طغيان فردي في الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية وطغيان جماعي في الأنظمة الشمولية الشيوعية. غير أن الأثر الأكبر أتى من جهة أسهمٍ رشيقةٍ متمثّلةٍ في الأعراف المعاصرة. فمن خلال تذويب الأعراف الأصيلة لمختلف الثقافات والتي كانت تحمي قوام الأسرة، بدت هذه الوحدةُ الفطرية وكأنها آسرةٌ للفرد وإنجازه وليست آسرةً للفردية وأنانيتها. وفي دورها الحديث المزمع تُدفع الأسرة لتكون مدجنةً لتفريخ منتجٍ ناجح. ومهمة هذا المنتج الناجح -لحظة بزوغ فرصة استغنائه- أن يركل العشّ الأول ليحقّق استقلاليةً مزعومة تُعتبر عنوان النضوج ودليله. والأعجب أنه يُطلب من الأبوين أنفسهما أن يقدّما لليافعين ما يساعد على هجرهما.

لقد أصحبت إيديولوجية تحقيق الذات هي المعيار الخلقي للتربية الحسنة. وتحقيق الذات لا يتوجّه إلى إنجاز خيرٍ يتطلّع لأن يعمّ، وإنما إلى إنجاز عُجبٍ يتطلّع لأن يخصّ. وبذلك يعكس بِنية اقتصادٍ ربويٍّ همّه التكاثر. وهذه البنية على الصعيد الكبروي للمعاش يقابلها على الصعيد الصغروي نمط حياة خاصٍ فردي (lifestyle). دور العائلة في الإنتاج الاقتصادي أمرٌ معروفٌ في تاريخ البشرية، وكان نشاطاً جماعياً لتحقيق التكافل ضمن الوحدة المعيشية. الحداثة المتأخرة حوّلت هذا النشاط إلى نشاطٍ فردي تُطارده رغباتُ تحقيق نمط حياةٍ خاصٍ بالفرد يجري فيه الانفصال الفيزيائي والشعوري عن الأهل والأقرباء لينضم هذا الفردُ الذي نجح (made it) إلى مجموعاتِ نمطِ حياةٍ ونوادٍ خاصة. وعندها تصبح غاية الإحسان أن يدعو الفردُ الناجحُ أهلَه إلى سياحةٍ ‑لساعاتٍ أو أيام- في الوِكر المترف الذي نجح في حيازته. وضمن هذا التوجه يتضاءل المعنى الأخلاقي للزواج ويصبح لاعقلانياً. لكن يضطر إليه الفرد فيتزوّج من أجل استدامة (اللايف ستايل) ولتكون الزوجة أحد أثاثاته كما هو أحد عجلاته، ويعيش كلاهما خبط سرعة الحياة في سباق مَسِّ (المعاظمة) لكلّ شيء. وحيث أن وصول غالبية الأفراد إلى فردوسٍ أرضيٍ ممتنعٌ سبباً وإحصاءً، يقتصر (النجاح) الناجح على فئاتٍ صغيرة، فتتشكّل عند الآخرين آليةُ التعويض من خلال التوجّه نحو الشذوذات -أياً كانت- على أنها تحقيقُ ذاتٍ. وعلى الطرف الآخر الذي تنعدم فيه وفرةُ الأسباب يتّخذ الشذوذُ أشكالاً أخرى خطيرةً بما في ذلك أعمال أذى إجرامية.

ومن جهة أخرى غاب التثقّف من مؤسسات التعلّم المؤلل الذي بدوره أصبح يساهم في طمس الإنسان الخُلقي الراقي لصالح صناعة الإنسان النفعي (الروباتي). وصحيحٌ أنه يوجد إلى جانب هذا التنميط الجائر هوامش إبداعٍ وخاصةً في رياض الأطفال، ولكن سرعان ما يتمّ تصريف الإبداع -منذ سنّ البلوغ- في مجاري معاديةٍ لفكرة الأسرة: حقول مهن فنّ النزوات وتسلّطات إدارة الأعمال وقوانينها وما شابهها من حقول.

أما ثلاثة الأثافي فهي الجندرة الناكرة لجوهرية الذكر والأنثى، في حين أن الإنسان خُلق ذكراً وأنثى تكويناً مقصوداً ضرورياً لاستمرار الحياة ولقيامها. والجندرة في جذرها هي تقليصٌ لتراكيبية الإنسان وتضخيمٌ وتحريفٌ لأبعاد وجوده.

والتناذر الجندري متضخّمٌ عند النساء خاصّةً لأن الفطرة الأنثوية أكثر تصادماً مع صلادة بِنية الحياة المعاصرة وديكتاتورية سوق العمل الكوربوريشنية. والرجل منذ قديم الزمان يغامر بعيداً عن محلّة الإقامة بحثاً عن صيدٍ يعود به محمّلاً بالفخر لتشترك فيه العائلة والمجتمع بأسره. أما الأنثى فهي منذ قديم الزمان تطوف حول مكان السكن تلتقط الثمار فتتكاملُ حمية الغِذاء وتتجمّلُ رقعة الحياة وتسكُن. وتابعت الأنثى أدوارَها في إنتاجٍ داعمٍ وقت الحلبِ وفي موسم الحصاد، أو في تطبيبٍ في لحظات مواجهة مع الأعداء. ولكن نمط الحداثة يدفع إلى تحويل النفس إلى دُسرٍ في عجلة الإنتاج. ولا بدّ في الطريق من الدَوس على رهيف الأنوثة وأُنسها، وذلك جنباً إلى جنب المتاجرة بهما ضمن آليات الاستهلاك الشهواني ورغبات السوق. وفي رحلة الأنوثة من الفطرة الطبيعية إلى الجندرة الاصطناعية، تمرّ المرأة بمرحلةٍ تظهر فيها البطولاتُ محاوِلةً المواءمةَ بين ما بقي من أدوارها الفطرية وبين ما قذفها فيه النمطُ الجندري المعاصر. وبطولات النساء مشهودٌ لها في التاريخ في لحظاتٍ خنسائية، لكنها الآن بطولاتٌ مجيّرةٌ لصالح هدم زوجية الذكر والأنثى في خدمة تنميطٍ يسعى إلى تعدين الناس وتحويلهم إلى أدواتٍ مُنتِجةٍ مُستهلِكة. والمرأة كانت تتزيّن استجابةً فطريةً في أحيازٍ خاصةٍ تقدِّر بنفسها -بحسٍّ فطري وعرفٍ ثقافي- مناسبةَ زينتها لدرجة مَأمنِ ذاك الحيّز وبراءته، فتزدان الحياة بهاءً وجمالاً. أما الآن تُدفع المرأة لأن تتبرّج بوقاحةٍ حين تخرج إلى الغابة، دفع المقايضة والتدييث. هو مقايضةٌ في سوق عملٍ تُعاظم الأنثى دورها في وجهٍ يعجز الذكرُ عنه جبراً لقصورها في أوجهٍ تتفوّق فيها الذكورة. وهو تدييث مزدوجٌ ضدّ الحياء المفطور في الأنوثة وضدّ انفراد الأسرة والأقارب بنعومة رعايتها.

أما التناذر الجندري الذكوري فيكون انسحاباً من أدوار الفتوّة المنوطة فطرةً بالرجولة، سعياً وراء نمط حياةٍ تتقلّص فيه المسؤوليةُ الأسرية والمجتمعية وتنعدم. وتبذل الجندرةُ قصارى جهدها في معاقبة الذكورة الطبيعية حين تحجزها عن ممارسة أدوار القوامة من الغيرة (الأخلاقية غير التعصبية) والحماية والريادة والكفاية، وحين تعتبر الشهامةَ غيرةً مَرَضيّة.

وضمن البيئة هذه تنقدح حرب الجنسين، ويقع كلٌ من الذكر والأنثى ضحية تشويه الفطرة، ويخضع كليهما إلى إكراهاتٍ من خارجهما، وتتراجع مركزية الأسرة وتتقلّص أدورُاها من عشٍّ للتراحم إلى جُحرٍ للتعايش المتوتّر. وبذلك تغدو الأسرة وكأنها مؤسسةٌ مؤقتة، حاضنةٌ في الصغر وفندقٌ في الكبر، ويُصبح فيها تأبيد الزواج أمراً غير عملي.

وبشكل عام، منطقُ ثنائية الإنتاج/الاستهلاك في الحداثة لا يناسبه الدفق الطبيعي للحياة، حيث تشرذم الزمنُ إلى لحظاتٍ فردية إن حملت معنى في أفرادها لم تحمل معنى جامعاً لها. فليس الزمن ذلك الممتدّ الذي يسعى فيه المرء نحو قِبلةٍ أخلاقية تتجمّع فيها جهود الاستقامة في الحياة، وإنما هو زمن (فلاشات) ملوّنةٍ في لحظاتٍ متقطّعة (كما في الديسكو)، ومضاتٍ متتابعة تتابعاً عشوائياً لكلٍ منها منطقها الذاتي المبرّر نفعياً بحسب أنانيات الظرف والأولويات العملية الخاصة.

فهذه حلقات ثلاث (غياب التثقيف وتحقيق الذات والجندرة) غيّرت وجه الأسرة كما عرفتها البشرية، كما أنها تتفاعل مع سوق عملٍ له أولويات تكاد تكون معاكسةً تماماً لأولويات الاجتماع الطبيعي. وهذا ما نناقشه فيما يلي.

المهنة الممتهِنة

يفقد العامل في النمط المعاصر حرّيته ساعة وضع قدمه في عتبة الشغل، ووصل الأمر إلى أن الشغل أضحى يتحكّم في هندام المرء وشاربه وقَصّة شعره وحتى وزنه أيضاً (ومن اللطيف الإشارة إلى ما يُقال من أن الشعب الأمريكي لا يتصوّر وصولَ رجلٍ بَدِين إلى منصّة الحكم). ونمط الاقتصاد الذي أحاط بالطفل منذ نعومة أظفاره والذي حوّل مناهج التعليم إلى طرقٍ مبسترة يستقبل في آخر الرحلة الفردَ المسترَقّ بعد أن تمّ ترويضه. المهنة الحديثة امتهانٌ بكل ما في الكلمة من معنى.

ولقد كانت المهن مصدراً لعزّ الفرد وأداةً لاستقلاليته. وفيما عدا المجتمعات الزراعية الكبرى التاريخية، كان معظم الإنتاج فردياً ومعظم ما يحتاجه العيش متوافراً في أحيازٍ قريبة. ولكن منذ انتشار التصنيع أصبحت المعامل مواضع لشغل أعدادٍ هائلة من الناس، وترافق هذا مع ظهور البيروقراطيات الضخمة. وتوسّعت البيروقراطيات خارج حيّز السياسة وأجهزة الحكم، فحتى الأعمال الربحية المحضة أصبحت تستند إلى بيروقراطياتٍ كثيفة. والبيروقراطية في دواوين الحكم لازمةٌ لأسبابٍ عدّة، أما حين دخلت القطاع الخاص فأحدثت تغيراتٍ شتى على رأسها أنانية الرسالة وتعويم المسؤولية. فمن ناحية أصبحت الشركات الكبرى آلات ضخمة تخدم أهدافها الخاصة بعيداً عن التواؤم مع أهداف المجتمع. ومن ناحية أخرى، أصبح من الصعب جداً تحديد الجهة المسؤولة فيما يسمى بـ(الكوربوريشن) حين يتعاظم أذاها. فلا يكفي أنها انفصلت عن المجتمع وطوّرت لنفسها أولوياتٍ غير ملتزمة بأولويات المجتمع، وإنما زيادة على ذلك حمتْ نفسها بحماياتٍ قانونية جعلتها فوق المجتمع وفوق السياسية أيضاً.

وبدورها امتلكت الشركات نفوذاً كبيراً في الاجتماع الإنساني. فمن وجه أصبح لها سيطرة كبيرة على أفراد الناس وعلى حياتهم، وحتى على أولويات أُسرهم. ومن وجه آخر أصبح لها أثرٌ كبير على السياسة التي يُفترض فيها خدمة الإرادة الجمعية للناس وإنفاذها. ووصل الأمر إلى أنه لم يعد غريباً خوض الدولة حروباً نيابة عن الشركات الكبرى.

ومن مفاسد أنماط المهن المعاصرة هو أن جدوى المهن ومردودها المادّي متناسب طرداً مع مدى هامشيتها أو إيذائها للمجتمع. وتأمّل مردود المهن لتجد أنها مرتّبة بحسب ذلك، وأول ما يخطر على البال هو فنّ اللهو والرياضة، وربما لا يشذّ عن هذه القاعدة إلا مهنة الطب. وحتى ضمن مهنة الطبّ، الأعم نفعاً من اختصاصاته هو الأقل نفعاً مادياً (قارن مردود اختصاص الطب العام أو طب الأطفال بمردود جراحة التجميل)، ناهيك عن خصخصة الطبّ وتموضع الطب العمومي (public health) في الهوامش فحسب.

وصناعة الإعلام تحوّلت إلى صناعة الإعماء. وأصبحت مختلف فرق الناس تستمع إلى المنافذ التي تعمّق التمحور الذاتي وترسّخ الأدلجة. وصناعات الوهم والاستحواذ على العقول أصبحت هي الرابحة، وترى الناس تستدرّ حِكمتها من المسارح الإذاعية (talk show)، وبقدر سخف هذه البرامج تعظُم قيمتُها.

وأضف إلى ذلك صناعات التجسّس على الناس. وحين نستحضر ما وصلت إليه صناعة الحرب تغدو الصورة مخيفة حقاً، من أكبرها القادر على تهديم مدن ومرافق وإلى أصغرها (درون) القادر على قتل معتزلٍ في شِعب. وتبعاً لذلك تعدّدت المهن المرتبطة بآلة إفناء الحياة، مهن مباشرة وغير مباشرة.

ولعلّ أكثر الأوجه خطراً هو أن جدوى مهن اليوم ومردودها المادّي متناسب طرداً مع انفصالها عن المجتمع وارتباطها بـ (كارتيلات) عالمية.

المدينة المغترِبة

المدينة موقع اجتماعي متميّز في كثير من النواحي يهمّنا منها هنا التحضّر والاسترزاق والتنوّع.

فما برحت المدن -والمدن الكبرى بخاصّة- أن تكون مسرحاً للتحضّر. ونقصد بالتحضّر هنا معنىً خاصّاً قريباً من معنى التمدّن وهو تفاعل التيارات الداخلية والعالمية الثقافية منها والبنيوية. ورغم أن عدداً معتبراً من المسلمين ما زال يعيش في أطر عيشٍ صغيرة، هناك أكثريات تعيش في مدن ما تفتأ أن تتعاظم. وبغض النظر عن الحجم المطلق لمدن دول الشعوب المسلمة، الحجم النسبي مقارنة بالبلدات الأخرى جدير بالتأمّل. بمعنى أن نسبة الذين يعيشون في المدينة الكبيرة أو أكبر مدينتين مقابل نسبة الذين يعيشون في البلدات والقرى يمشي باطرادٍ باتجاه الأول. (القاهرة 20 مليوناً رقم 6 عالمياً، دكا 19 مليوناً بترتيب 9، كراتشي 17 مليوناً بترتيب 12، إستانبول 14 مليوناً بترتيب 15 عالمياً).

وصحيح أن النمط العالمي لا تحجزه حواجز الجغرافية حيث أنه دخل المدن الكبرى والبلدات الصغرى على حدٍّ سواء، غير أنه يتوضّع في البلدات على الهوامش كزياداتٍ أو نوافذ للعالم، أما في المدن الكبرى فإنه يتوضّع في المركز فيساهم في إعادة صياغ الحياة. وهكذا تقوم المدن بدور الـمِرجل الذي يصهر الناس مع ثقافةٍ مقولبةٍ شديدة التنميط. ومن وجهٍ آخرٍ تُعرِّض المدينة ساكنيها إلى إكراهات العيش في مجموعات كبيرة. ولذا فإن ظاهرة (الحشد المتوحّد) (lonely crowd) ما تفتأ تصبغ حياة الناس. ونشير خصوصاً إلى أن نمط السكنى في شققٍ صغيرة في أبنيةٍ كبيرة يعتدي على مفهوم الجيرة وإمكانية المؤازرة.

ومن وجه آخر تلتقي المجموعات المختلفة للناس بعضها ببعض في المدن الكبرى فتتراجع الخصوصيات، ولكن يحدث ذلك في غياب مسارٍ جديد واضحٍ للبديل عن هذه الخصوصيات، فيسهم ذلك في تعزيز غربة الأفراد وتذرّر الاجتماع.

أما طلب الرزق فإنه في المدن قد ودّع الطرق القديمة التي تتميّز بنزعة الاكتفاء الذاتي. غير أن الاقتصاد غير الرسمي في بلداننا قد يقترب حجمه من الاقتصاد الرسمي المصرّح به. كما يمكننا تخيّل اقتصادٍ بين ذاك وذاك. والمفارقة أنه يتميّز الاقتصاد غير الرسمي بدرجةٍ كبيرة من اللصوقية بالحاجات الأساسية للمجتمع، وكذا لدرجة أقل الاقتصاد نصف الرسمي، في حين أن الاقتصاد الرسمي هو المرتبط كلّياً بالاقتصاد العالمي ويخضع إلى تحكّماته.

وعلينا تذكّر تراجع الأمن الغذائي وكذا الأمن المائي. وهذا مما يجعل الحياة مكشوفة اليوم على أخطار العوز الماحق، بكل ما يسبّبه هذا من اضطراب وابتعادٍ عن حال الاستقرار.

الطائفية المستأسِدة

هناك ظاهرتان متداخلتان ترصفان حياة الناس اليوم وتتفاعلان بعضهما مع بعض: التعددية والانكفاء المعولم. الظاهرة الأولى هي تعدّدية الانتماء تعدّديةً تُغيّب دواعي التكامل. ففئات الناس مرتّبة وفق طبقاتٍ وانتماءاتٍ مختلفة كثيراً ما يكون بينها تصادم وتنافر، ويميّزها الفقر في المضامين الأخلاقية. أما ظاهرة الانكفاء المُعولم فتتجلّى في قدرة تواصل فرقةٍ محلّية متمحورة حول نفسها مع غيرها في خارج حيزها وأن تنساح فكرتها عالمياً. ويحفز كلاً من التنضّد العمودي والانكفاء المعولم نرجسيةٌ جماعية. واخترنا تسمية هذا الظاهرة بالطائفية بسبب التعصّب الأناني المتمسّك بأهداب الحرّيات الفئوية المنابذة للاجتماع الأكبر.

ففي حين أن التنوّع معروفٌ في حياة البشر، كان مشفوعاً مع اعتباراتٍ أخلاقية متعالية أو تقصد التعالي، سواء صحّت تلك الاعتبارات أم لم تصحّ. أما في المجتمع المعاصر فأصبح مُرتجعُ الروابط والتنضيد مرتجعٌ نفعي بحت. ولا يعني هذا انتفاء أيّة قيمةٍ وإنما أن دفق المنظومة المعاصرة يدفع باتجاه تفريغ البِنيات المجتمعية من القيم ويحفز نحو اللصوق بالطين وفق نزعةٍ نفعيةٍ شديدة الاختزال.

الطائفية المعاصرة هي كذا انتماء عمياويٌ لطائفة وفق معايير مختزلة رقيقة أخلاقياً أو تدّعي أخلاقية خاليةً من الأخلاق كما عرفتها البشرية في تاريخها. وفوق ذلك، يتّسم معيار التوزّم الطائفي هذا بالآنية ويمكن أن ينقلب إلى ضدّه قريباً وسريعاً. ولْنتأمل كيف تنعكس الطائفية الجديدة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع.

في حقل السياسة يمكننا القول إن نسق الحداثة شيّد بِنيات شديدة الصلابة. فلقد أُودِع البشر في أقفاصٍ جغرافية تُعتبر دولاً ذات سيادة. وكم ساغ لهذه الدول أن تنكّل بشعبها لأنه ظهر فيه ما يكره هذه الأقفاص. وكم تخنق البيروقراطياتُ من أرواحٍ من جملة نمط تعاملها مع البشر وفق رشدانيةٍ مصمّمةٍ بإتقان. ولكن مع كل هذه الصلابة نرى أن ديناميكيات الطائفية هي التي تتحكّم بوجهة الدولة والسياسة. فلا المطالبةُ الديمقراطية ولا الحركاتُ الاجتماعية التي تستند إلى المثل هي التي تُحدث التغيير، وإنما الطائفية النفعية التي تستثير الناس بأدنى ما عندهم. الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترة تمثلان حالتين تُشخّصان الطائفية السياسية بشكل واضحٍ برغم رسوخ الطرق الديمقراطية فيها. والمفارقة أن الآليات الديمقراطية بذاتها أصبحت أداة طيّعةً للطائفية. وليس ما يجري في أوربا ببعيد عن هذا. هناك أزمة دستورية في إسكتلندا وأخرى في إسبانيا. ولا نستطيع القول إن إقليم كاتالونيا بكلّيته يرغب الانفصال، ولا أنه لا يرغب بذلك. ودواعي الانفصال ليست قومية متبلورة وإنما أنانية متأججة لدى فئة يجمعها (لايف ستايل) تُلوّح ببعض شعارات حقوق الإنسان فتكتسب قوةً سياسية في منظومة ديمقراطية، هي قوةٌ تمثيلية نظرياً وغير تمثيليةٍ عملياً، إذ لا يعدو علوّ صوتها وسيطرتها على النفوس والعقول إلا نتيجة النجاح في استنفار الموارد المالية وتحريك المشاعر الفئوية من جهة أخرى.

وننبّه إلى أنّ وصف هذه التيارات السياسية بالطائفية هو أصحّ بكثير من القول إنها تيارات محافظة، كما يتصوّرها المنطقُ اللبرالي. فلا الأخلاقي ولا الديني ولا القومي ولا القطري هو لبّ التوجّه، وإنما هو المنطق الطائفي النفعي (أو النفعاوي إن شئت) شديد الضيق، وفيه تماماً يتلبّس التيار اللبرالي الذي لم يعد يكترث بحقوق العمال بقدر الاحتفاء بحقوق الشهوات.

سلوك الأقليات شاهدٌ مركّب على ظاهرة الطائفية حيث تحوّلت هذه الأقليات من مجموعات ملّية/إثنية ذات ثقافة وتاريخ إلى مجموعاتٍ تدّعي المظلومية. وهي في آنٍ تطالب بالمساواة المواطنية وبحقوقها الخصوصية. وفي آنٍ تعتبر نفسها ناطقة باسم العَلمانية والعقلانية والدولة القُطرية، ثم لا تجد حرجاً في تأكيد حقّها استدعاءَ القوى الأجنبية للدفاع عنها. كما تقوم بتشكيل ميليشياتٍ وتدعي حقّها بأحيازٍ جغرافية، أو تعقد تحالفاتٍ خارجية لتعينها على سحق ثقافة البلد وسكانه.

الطائفية في حقل الاقتصاد والاستثمار ظاهرة أيضاً. يقعد شاردان من الشباب فيفكّران في صرعةٍ تأخذ الألباب لها نفعٌ بحجم رأس الدبّوس. فينجحان في تسويق المنتج ويصبح هو الممثّل للذّة الاستهلاك لفترة ما، استهلاكٍ عديمُ النفع أو قليلٌ غاطسٌ في فراغ ومتمحورٌ حول وهم. أرجوزة الأطفال/المراهقين Baby Shark الخالية من المعاني حقّقت السنة الماضية 3.8 بليون مشاهدة وجلبت ربحاً بقدر 34$ مليون دولار.

التجمعات الثقافية أضحت طائفية أيضاً. الطبقات العليا تجتمع نساؤها لحفلات ماءٍ يتمّ فيها تقديم الضيافة من أنواعٍ منه لتحسّس نقاوتها. وجوعة مجتمعات التميّز صارت ترى في التصفيق كما هو معروف من ضرب الأكفّ وخروج الصوت تصرفاً (سوفاج) يعتدي على راحة الآخرين وخياراتهم، وأن البديل الراقي هو التصفيق بالأصابع الثلاث. الشباب يجدون صداقةً حميمة في صالة الرياضة، وتنتهي هذه العلاقة بعد الانتهاء من التمارين لتعود وتتجدّد بعد يومين في تمرين آخر.

»             »             »

التشكيلات المجتمعية البينيّة ثنائية الفرص، فهي ليست مصمتة وتحوي في أحشائها على تناقضاتٍ يمكن أن تسمح بالخروج. وإذ أصبح العالم اليوم مثل دردور البحر الذي يمتصّ الروح والبدن معاً، فلا يمكن التعامل الجزئي معه وليس ثمة خيار إلا انتشال الذات تعالياً وصياغةً للحمة اجتماعٍ جديدة. وبرغم الحال الذي جرى وصفه، ثمة مفارقات تسمح بالانفكاك وتعِدُ بالجديد.

المفارقة الأولى أن التفقير والتنكيل يمكن أن يدفعا إلى الفطرة لأنهما يولّدان أحسن ما عند الإنسان علاوة على أسوأ ما عنده. وتصبح مهمة الإنقاذ (المعجزة الـمُمكنة) هي الحيلولة دون السقوط في اليأس وتحويل الشظف الجارح المنتقِم إلى بأسٍ فاعلٍ منتظم.

والمفارقة الثانية أن خنق الأسرة غير متساوٍ لا عبر طبقات المجتمع ولا بين البلدان. وبشكلٍ عامٍ يمشي العالم (وبمحاذاته الثقافة) إلى ثنائية مجتمعات الأسرة الطبيعية بأولادٍ وذرّية، مقابل مجتمعات الأقران (spouses) بحدٍ أدنى من عدد أعضاء الأسرة. والنمط الثاني يقود إلى الانمحاق وفقدان القوة الاقتصادية.

والمفارقة الثالثة هي أن المدينة التي تفرّغت من المدنيّة هي مركز تغيير بطيء. وفي حين لا يمكنها الثورة بسبب تراكيبية أجزائها، مغناطيس خيال سكّانها يدفع باتجاهاتٍ لا يمكن إيقافها، مثل كتل الجليد التي تنزلق ببطء فتُغيّر وتتغيّر. أوليسَ مفارقةً أن المدينة المسلمة المعاصرة التي تشبّعت بالوافد ليست أقل تديّناً من الريف، بل هي التي تعجّ بفاعليات التديّن. التديّن في الأطراف خاملٌ من ناحيةٍ ومسكوبٌ في تقاليد وأعراف غابت مناسبتُها من ناحية أخرى. وصحيح أن التديّن في المدن مطعّمٌ بطعمٍ ليبراليٍ، ولكن الشعائر تسوقه باتجاه المنبع، والمسجد الذي أُخضع إلى الإرادة السياسية ما يفتأ أن يبثّ رسائل عروةٍ وثقى. وتذكّر أن مدننا المسلمة موقع أنشط الحركات الإسلامية.

والمفارقة الرابعة أنه برغم التشويه للاجتماع البشري، تقود إفلاساتُ الشعورِ ونكدُ المعايشةِ الوجدانَ إلى استنقاذ الفطرة المغروسة في الخلق عبر الأديان والتراث المحافظ في الثقافات، فينقلب عالي الشذوذاتِ إلى سافلها بعد أن تُمطَر بسجّيلٍ يُطهّر وحجارةٍ تُعاقب.

والمفارقة الخامسة أن الكلف العالية للحياة تقود إلى حال الاستغناء اعتماداً على التقنيات الصغيرة، مما يمهّد للانفكاك عن مصادر الظلم: الدولة والمؤسسة الربوية والشركات الضخمة.

وإن أهمّ ما ينبغي إدراكه تجاه خصائص التشكيلات المعاصرة أنها بينيّة تتوضّع في فراغات المنظومة الرسمية وترتشح إلى مفاصلها. وهكذا تستمرّ المنظومة الرسمية تؤدي مهمّتها ظاهرياً في حين أن (السوفتوير) الذي يحركها شيءٌ آخر. وبناءً على ذلك، محاولة المعالجة من خلال البِنى الرسمية هي خداعٌ للنفس، والتحدّي هو الإقناع بجدوى البدائل.

2020-01-10