الحداثة الناشزة ودولتها

101

من المداخل العلمية لدراسة المجتمع البشري على طول التاريخ القول إنه حضرت دوماً خمس مؤسسات: مؤسسة القرابة ‑ مؤسسة الاقتصاد ‑ مؤسسة التعليم ‑ مؤسسة القانون ‑ مؤسسة السياسية. وليس المقصود بالـ “مؤسسة” وجود هيكلية رسمية بالضرورة، وإنما اطّراد نشاطاتٍ بشرية تحوم حول حزمة الاهتمامات المذكورة، ويحفّ “المؤسسة” أدوارٌ متوقّعة ومراتب متفاوتة وأعرافٌ ناظمة وقيمٌ دافعة.

ومن أوجه دوام حضور مؤسسة القرابة من أوائل الوجود البشري وجود قواعد للزواج وتقاسم الأدوار بين الجنسين. ومن أوجه مؤسسة الاقتصاد في الماضي استعمال الثور في الحرث والأحصنة في الحرب، ولذلك قواعد وأصول. ومن أوجه مؤسسة التعليم نقل الخبرات الفنّية في الصيد أو في نسج خيوط الخيمة أو في زرع البذور وسقي النبات وحصد الثمار.  ومن أوجه مؤسسة القانون وجود ضوابط عرفية للسلوك يتشرّبها الأفراد ويعاقب المخالفون وفق سُلَّمٍ متدرّجٍ في القسوة. ومن أوجه مؤسسة السياسة التشاور الذي يجري من خلال المفاوضات العفوية الطبيعية في التعامل اليومي وفي مجالس تشاور الرؤوس البارزة في القبيلة.

ولا يخفى أن في هذا المدخل عموميةٌ شديدة، ولكن ميّزته أنه يساعد في دراسة المشتركات البشرية ورصد تطوّراتها. وتكمن فضيلة ملاحظة الأنساق التاريخية في حفزنا على التواضع وعدم العجب بأنفسنا وغرورنا بما هو حديث، فكثير مما في حياتنا المعاصرة وُجدِت شبيهاته ‑على وجه العموم‑ في الماضي القريب أو السحيق، ناهيك بوضع الماضي بذورَ اللاحق في الأمور التقنية. ولكن تتحوّل هذه الفضيلة إلى إشكالية إذا لم نلحظ التغيّرات النوعية من جهة، وإذا لم نمحّص المضامين الأخلاقية التي تستصحبها الهياكل والمؤسسات.

والدراسات الناضجة في علم التاريخ توازن بين بُعدين منهجيين: (١) ملاحظة “الاستمرارية” في أنساق السلوك البشري الجمعي، والمؤسّسات الاعتبارية وغير الاعتبارية التي يتمّ تطويرها ضمن محاولة حلّ القضايا الكبرى للمعاش وتيسيرها، والمسلّمات والثقافة والأعراف التي تحفّ كل هذا. (٢) ملاحظة “التغيّر” والخصائص الحاسمة التي تفرّق مجتمعاً عن آخر وحضارة عن أخرى. والتغيّرات تحصل على الصعيد المادي (مثلاً تقنية زوارق تساعد على التحكّم بالريح عند الإبحار)، أو على الصعيد الاجتماعي (مثلاً النمط الخاص في التعليم في الإمبراطورية الصينية)، أو على الصعيد الثقافي (مثلاً موضع البقرة في الثقافة الهندوسية). وتعقّب هذين البُعدين هو معقل العمق في الدراسات.

إن القول كل شيء تغيّر فلا صلة بين الحاضر بالماضي قولٌ غير صحيح. وكذا ليس صواباً القول إنه لم يتغيّر شيء ألبته بناءً على محض وجود التشابه، وذلك من وجهين واحدٌ مادي وآخر ثقافي.

الوجه المادّي

علينا ملاحظة ضربين من التغيّرات في الوجه المادي للحياة: تغيرات كمية (عدد وحجم)، وتغيرات نوعية (طبيعة مختلفة).

وتجاه الوجه المادي، لا يصحّ القول ‑مثلاً‑ إن وسائل المواصلات اليوم هي مجرّد وسائل أسرع وأقدر من الأحصنة. فالحصان الحيوان كان يتغذّى من علفٍ محلّي، ويعتني به صاحبه، وربما باع واحداً إذا كان عنده بضعة منهم فيكتسب مالاً ينفقه في بعض احتياجاته. وربما اشتهر فرسٌ برشاقته وسرعته فارتفع ثمنه وعلا صيت صاحبه. ويمكن أن نرى لهذه الأمور مقابلاتٍ في سيارات اليوم. ولكن سيارات اليوم دخلت في تصميمها علومٌ، وتجري حروبٌ من أجل وقودها، ومن وسائل مواصلات اليوم ما ينقل ما هو بحجم قرى كاملة من قرى الزمان الفائت، ومنها بواخر حربية وطائرات مدنية أو استطلاعية. وكذا المؤسسة السياسية، جرت فيها تغيّرات نوعية لأسباب عديدة، منها الأحجام الضخمة للشعوب.

فهذه تغيّرات نوعية وليست كمية، مما يجعل القول بالتشابه يخصّ الوظيفة العامة للمؤسسة وللممارسة، ولا يحيط باحتمال التغير النوعي الذي قد يغيّر من طبيعة المؤسسة، وقد يغيّر مضامينها الأخلاقية.

الوجه الثقافي

عند الحديث عن التطورات التاريخية من الوجه الثقافي، علينا التمحيص في المضامين الأخلاقية ومدى سموّها وأحقيّتها.

مثلاً مؤسسة الأسرة والقرابة موجودة من التاريخ القديم. لكن النسق الثقافي يمكن أن يعزّزها أو يقهرها ويُفسدها. في الأسرة الهندوسية كان متوقعاً أن تُحرَق الزوجة بعد موت زوجها، ولذلك علاقة بالثقافة والمفاهيم الدينية يومذاك. لذا لا يصحّ القول إنه لم يتغيّر حال الأسرة عبر التاريخ لمجرد أساس وجودها. وكم من الفساد القول إن علائق القرابة أيام الجاهلية بقت نفسها بعد الإسلام، لمجرّد وجود متشابهات (مثلاً أب وعم وخالة). وكم من الفساد القول إن وضع الأسرة الغربية اليوم هو مثله فيما قبل حتى في تاريخ المجتمعات الأوربية نفسها. فطرية مؤسسة الأسرة شيء، وتصورّها الثقافي شيء آخر. ألا ترى أن الأسرة في الثقافة الأوربية المعاصرة تحوّلت ‑إلى حدّ كبير‑ إلى محضنٍ مؤقتٍ للأولاد وإلى موضع استراحةٍ لمتابعة الإنتاجٍ يوم غد.

أي في الوجه الثقافي، علينا تقييم الفكرة المركزية في المؤسسة، تلك الفكرة الناتجة عمّا كسبت عقول الناس وفلسفاتهم.

وحيث أن الفكرة المركزية المودعة في المؤسسة هي العهدة في تقييم الوجه الثقافي، وإذا ظهر هذا حتى في مؤسسة فطرية مثل الأسرة، فمن باب أولى أن نتفحّص الفكرة المركزية للمؤسسة السياسية في طور الحداثة. وإن من أخصّ خصائص دولة الحداثة: (١) استقلاليتها عن مجرى الحياة الطبيعية، (٢) وحيازتها على ما كان تاريخياً في عهدة المجتمع، (٣) وإحالة الشرعية إلى نفسها بعد انتزاعها من الأمة.

ويمكننا تحديد السبع الكبائر للنموذج الحداثي بالتالي:

  • تدمير التوازن البيئي. وشاهده والمثال عليه ذوبان جليد القطب، ودواعي ظهور فيروس كورونا.
  • رفض الآخر. والمثال عليه وضع الأقليات في البلدان الديمقراطية.
  • خنق الاجتماع الفطري والجماعة الأهلية (community)، المتمثّلة بالأسرة وروابط القرابة والحي وأمكنة العبادة. ومثاله تفكّك هذه المؤسسات لصالح مواطنة موهومة.
  • السيطرة المطلقة للدولة وانسلال أجهزتها في الأوجه الأهلية للحياة. ومثاله السيطرة على التعليم وكذا ممارسات التدّين في بعض الأنظمة، والتجسس على كل سكنةٍ وحركةٍ للفرد العادي.
  • مأسسة المادية والتملّك والحيازة. والمثال عليه نموذج الكورپوريشِن وتسليع الحياة وبيع الرياضيين.
  • ترسيخ نمط النفعانية التعاقدية التي تعتبر محض حرّية التراضي والاختيار فضيلةً بذاتها بعيداً عن أي معيارية. ومثاله تطبيع الربا والزنى وعقود الإذعان والغبن المُقنون واللوبيات الغاشّة.
  • تمكين الأخلاق اللبرالية العبثية الاستهوائية الرافضة لأي مرجعٍ تقيميّ خارجها، مما يجعل سائغاً تمرير أي سلوك. ومثاله تطبيع الفاحشة والعهر والشذوذ.

القول إن الدولة الحديثة ما هي إلا الدولة القديمة مع تغيّراتٍ في الشكل والوسائل فحسب، قول يغشاه الوهم، حيث أنه تغوّلت دولة الحداثة، وأصبحت أجهزتها (حتى في النظم الديمقراطية) وسائل للسيطرة والتحكّم رغماً عن المجتمع وإرادته، وبعيداً عن القيم الدينية المشتركة للبشرية. ووصفها بالتغوّل ليس مبالغةً اعتباطية، حيث أن دولة الحداثة أصبحت فعلاً تسيطر على مختلف نواحي الحياة، أو لها نفوذ بالغ فيها، من خلال تقنياتٍ حديثة ومن خلال بيروقراطيات صمّاء بعيدة عن الوقع العملي لحياة الناس. وليس أن هذه التغيّرات النوعية حصلت كيفما، بل هي نتيجة فلسفاتٍ جرى تبنّيها. كما تتيه فكرة دولة الحداثة بعقلانيةٍ مدّعاة، وتتفاخر بمفارقتها لماضٍ تعتبره “متخلّفاً”، كان فيه للـ”محلّي” وللـ”عرفي غير الرسمي” دور كبير.

ولكن الرفض الإسلامي (والديني عامة) لنموذج دولة الحداثة لا يعني أن البديل المتخيّل هو دولةٌ بلا مؤسسات وبلا نظام وبلا تقنيات، دولةٌ نسخة طبق الأصل عن الصور التاريخية للدول. بل يستعمل هذا البديل الأدواتِ الحديثة لأغراضٍ مختلفة ووفق معادلة مختلقة، وتكون فيه الشرعية للأمّة والمجتمع حقيقةً غير مستلبة.

إن إشكالية نموذج دولة الحداثة هي في عجزه عن احتضان قيم الرسالات السماوية، حيث أن الصيغة الجينية لدولة الحداثة مناقضة للصيغ الدينية. ولذا فدولة القيم الربّانية “مستحيلة” التمثّل في هياكل تمّ بناؤها وفق معمارٍ عَلماني. ولا يمكن “تحسين” دولة الحداثة ولا مداواتها، لأن العطب في روحها وليس في عرَضها فحسب. بل لا بدّ من تفكيك هذا النموذج وإعادة بناءٍ مستأنف، يستعملُ مادّة الزمن الحاضر ويستصحبُ خبراته المتراكمة، ولكن يُشيِّد ويبني وفق صيغة عمرانٍ مختلف.

بقي علينا الانتباه إلى أن الذي هو أشدّ وهماً من الغفلة عن طبيعة دولة الحداثة، الادعاء بأن “أزمة” أصابت حضارة الدّين الخاتم، عقب عهد النبوة وإلى عصرنا الحاضر.

2021-12-31