الخطاب الإسلامي ومنهجية المقاصد

389

تعيش أمة الإسلام أزمة، ويكثر الحديث عن مظاهر هذه الأزمة في حياة الأمة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ويكاد الحديث عن مظاهر الأزمة أن يصل إلى حالة مَرَضية يظن الناس فيها أن الشكوى والتذمر والاحتجاج هو أقصى ما يمكن فعله، أو هو ما تسقط به تبـِعَة الرضى بالخطأ ويرتفع به إثم الإقرار بالظلم والفساد.

وفي هذا الوضع المتأزم تتطلع الأمة إلى دينها وقرآنها وسنة نبيها لتجد المخرج والعلاج، ولكن المفارقة المحزنة حقاً أن الخطاب الإسلامي وهو يحاول أن يتبوأ مكان المنقذ بتوظيف رصيد الأصالة والمرجعية متورط في الأزمة بكل أعراضها ومظاهرها وكأنه جزءٌ من المشكلة لا يستطيع أن يقدم بديلاً أو توجهاً يعود بالأمة إلى الصلاح والرشاد.

فالخطاب الديني في استجابته للظروف والتحديات متورط في الانفعال الذي تغيب معه الروية، ومتورط بطرح جزئيات وفرعيات تغيب معها الرؤية الكلية الجامعة حيث تختزل الأمور إلى تبسيط مُـخِـل وتغيب الأولويات ويتبدى الجهل بالواقع والتيارات الفاعلة فيه ويكثر الهروب إلى الماضي والوقوف على الأطلال.

ورغم هذه المظاهر المتعددة لأزمة الأمة أحسب أن أزمة الخطاب الإسلامي -بكل تجلياتها- يمكن أن تتلخص في أمرين متداخلين:

  • فشل في فهم مواطن التزكية في الشريعة.
  • وفشل في فهم الواقع وعناصره وملابساته ومآلات الأفعال والتصرفات فيه.

فالفهم الحرفي للنصوص والالتزام بالأشكال والطقوس والارتهان لأقوال السلف الماضين أحال الشريعة إلى أغلال وآصار. فغابت معاني التشريع وروح الأحكام وانكفأت التزكية إلى نمطية شكلية قاتلة لا تحس ضرورة التغيير في شيء ولو اختلفت أحوال الزمان والمكان والظروف والعوائد. أما الواقع وعناصره والتيارات التي تصوغ توجهات الناس في هذا الواقع، فالخطاب الديني يتجاوزه ويقفز فوقه ولا يلمس منه عندما يحاوره ويتعامل معه إلا المظاهر والأشكال. وفي كلا الأمرين يتوقف العقل عن العمل، ويحس من يحاول أن يتعامل مع الواقع المحزن للأمة بما يمليه العقل والمنطق أنه غريب محاصر مـتَّهم في إيمانه وولائه تطوله أسلحة الإرهاب الفكري التي يشهرها الخطاب الديني على المخالفين.

وقد حاول كثير من الكتـَّاب والباحثين معالجة الفجوة بين العقل والواقع في الخطاب الإسلامي وجاؤوا في ذلك بمعالجات قيّمة وأبحاث مفيدة ولكنها لم تترك أثراً عميقاً في الحياة الفكرية وتوجهات الصحوة الدينية التي ما زالت تنظر إلى العقل والعقلانية بتوجس وارتياب. وما يزال الباب مفتوحاً لمزيد من المحاولات والمعالجات للوصول بالخطاب الإسلامي إلى القدرة على طرح حقائق التدين وعقيدة التوحيد لإحياء الأمة ولتزكية واقعها والنهوض بأحوالها وأداء دورها بعيداً عن الغلو الذي يفسد الحياة ويخرج الدين عن مهمته ووظيفته، وللوصول بالخطاب الإسلامي إلى القدرة على تجنيد الأمة – بكل فئاتها – لتتكامل أدوار العاملين وتنمو قدرتهم على التحاور والتعاون. فالخطاب الذي يعني نفسه بشريحة واحدة من الأمة ويحتكر إمكانيات النهوض في فئة أو توجه لا يستطيع أن يقدم شيئاً ذا بال.

وفي العقود الأخيرة، وجدتْ الدعوة إلى إحياء منهجية مقاصد الشريعة صدىً طيباً في أوساط الدراسات الشرعية والأكاديمية وصدرت دراسات كثيرة تعنى باستخراج معالم هذه المنهجية في تراث العلماء الأقدمين ابتداءً من عصر الصحابة والتابعين ومروراً بالإمام الجويني والإمام الغزالي والقرافي والعزّ بن عبد السلام وانتهاءً بالإمام الشاطبي وابن عاشور وعلال الفاسي. وأرى أنّ منهجية – مقاصد الشريعة – تحمل كموناً وقدرة على معالجة أزمة الخطاب الإسلامي، إذ تقدم الأدوات التي يستخدمها العقل ليربط بين الشريعة – بنصوصها وأحكامها وتراث علمائها – وبين وظيفتها في تزكية الواقع ورفع الضنك والشقاء وتأصيل الحياة الطيبة ونشر الرحمة للعالمين. ولكن هذه الدعوة المباركة ما تزال متأثرة بطبيعة الخطاب الديني الذي يُـغرَم بالجزئيات والإجرائيات ويميل إلى التاريخ ولا يستطيع تفعيل الأدوات المعرفية لتشكيل خطاب جماهيري يلف الأمة بكل شرائحها وفئاتها.

وسأحاول في هذا البحث رسم بعض معالم منهجية المقاصد وتوسيع آفاقها بما يضمن توظيف إمكانيات هذه المنهجية في معالجة الشق الأول من أزمة الخطاب الإسلامي وتجليات فشله وقصوره في اكتشاف كنوز الشريعة وآفاق تزكيتها للنفس والعقل وأحوال الأمة. ثم أتوقف عند قضية فهم الواقع محاولاً إعادة الإعتبار لمقدمات هذه القضية لسد بعض الثغرات في فهم العلاقة بين الشريعة والواقع وبما يُعين على استكمال الخطاب الإسلامي لمقومات التأثير والفعل والتحريك.

وأول ما أود أن ألفت النظر إليه في منهجية المقاصد أنها تربط بين العقل والشريعة والواقع برباط ينطلق وينضبط بما حددته الشريعة ذاتها من أهداف ومقاصد وضوابط والتي تشكـِّل المنطق الداخلي المتماسك الذي نتحاكم إليه لتصويب الفهم وتقييم الوسائل. وبهذا المدخل نأمل أن نمهد الطريق لحل عقدة التوجس من العقل والعقلانية في الخطاب الديني إذ أننا ندعو إلى التحاكم إلى منطق القرآن وكليات القرآن وما حدده الوحي من أوصاف للشريعة الخاتمة أو مقاصد للتشريع.

وهنا أرى أن من المفيد أن نشير إلى أن الدلالة اللغوية وحدها للمصطلحات والعناوين لا تستقل بتشكيل المعاني وتحديد ردود الفعل والاستجابة لمصطلح أو عنوان. فلا بد من استحضار المخزون الثقافي الذي تحمله المصطلحات، ولا بد من اعتبار السياق الثقافي والحضاري الذي أحاط بالمصطلح لنتمكن من تقدير فرص النجاح لنقل المضمون المراد دون استدعاء ظروف وملابسات تفتح أبواباً من سوء الفهم أو الخلط بين المفاهيم. فمصطلحات التخلف والتأخر والتقدم والنهضة والحضارة والانفتاح وغيرها تحمل عبئاً ثقيلاً من ذكريات العهد الاستعماري في بلاد المسلمين إذ يـقـفز إلى المخيلة الثقافية للشعوب السياق الأليم الذي صاحب طرح هذه المصطلحات وما تستبطنه من فوقية وهيمنة ومرجعية يصبح فيها الغرب المستعمِـر -بكل شراسة وعنصرية علاقته بالشعوب- القبلة والوجهة والمعيار. فلا عجب -والحال هذه- أن لا تتفاعل الأمة مع هذه المصطلحات وتتوجس من استعمالها، وبذلك تضيع جهود المصلحين وتضيع أوقاتهم في بيان فك الارتباط بين ما يريدون بالأمة من صلاح وبين ما تستلزمه مصطلحاتهم في أذهان الناس وذاكرتهم الثقافية. وأرى أنه لا بد من بذل الجهود لاستثمار وتفعيل وتأصيل مصطلحات تراثية مفيدة ومرتبطة بأمجاد حضارة المسلمين وصلتهم الغضة بتراث النبوة ومحكمات القرآن، وذلك مثل التجديد والاتقان والوهن والكفاية والتزكية والشورى والإجماع وغيرها بما يضمن طرح معاني التغيـير المطلوب بقالب لغوي ذي رصيد إيجابي وفعال.

ومن هنا فإن ما نأمله من منهجية المقاصد هو أن تكون قادرة على تفعيل العملية العقلية اللازمة للربط بين الشريعة وتزكية الواقع بمصطلحات ومعالجات لا تحمل العبء الثقيل للمعارك الكلامية بين الفرق وما آلت إليه من استقطاب وتحـزّب ووقوع في ثنائيات العقل والنقل أو الدين والرأي أو الشريعة والحكمة أو غير ذلك، ولا تحمل كذلك عبء المواجهات التي صاحبت عهد الاستعمار والهيمنة الغربية بكل ما حملته هذه الحقبة من التمسك بكل قديم الذي أصبح رمزاً للمقاومة والدفاع عن الهوية، والنفور عن كل جديد إلى حدّ الغلوّ والتطرف.

وعند مراجعة الطرح التاريخي لمنهجية المقاصد من خلال ما كتبه الذين تحدثوا عن مقاصد الشريعة من علماء أقدمين أو معاصرين، يبدو أنهم يحصرون هذا العلم بالمشتغلين بالفتوى والاستنباط من علماء الشريعة. وقد صرّح الإمام محمد الطاهر بن عاشور أن علم مقاصد الشريعة هو مما يختص بحملة الشريعة وعلمائها، فإن الأصل في العاميّ أن يتلقى الشريعة بدون المقصد لأنه لا يحسن ضبطه ولا تنزيله، ثم يتوسع للناس في تعريفهم بالمقاصد بمقدار ازدياد حظهم من العلوم الشرعية.

فهل يسوغ في منطق الشريعة الخاتمة أن يبقى المكلفون بمعزل كامل عن منهجية المقاصد؟ وكيف يتم الوصول إلى التدين الصحيح بقيم الشريعة وأحكامها؟ وكيف سيكون أمر الأمة وعلاقتها بالشريعة إذا بقي العلم بالمقاصد بعيداً عن الحياة اليومية لجمهور المتدينين والملتزمين؟              

وللإجابة عن هذا الأسئلة سأذكر بعض ما نقله العلماء مما له صلة بالموضوع ثم نخلص إلى استفادة بعض النتائج:

◄ ذكر الإمام الشاطبي في كتاب المقاصد من “الموافقات” قاعدة شرعية مهمة وهي أن كل من قصد بالفعل المشروع غير ما قصده الشارع من تشريع ذلك الفعل فعمله باطل. ويظهر من كلام الإمام أن معرفة ما قصد الشارع تحقيقه في حياة الناس من أحكامه وشرائعه أمر ضروريّ لكل مكلف حتى لا يقع فيما يحبط عمله ويبطل سعيه، وأنّ هذه المعرفة لا تختص بمن يفتي أو يقضي بين الناس، بل تجب معرفة مقاصد الأحكام في كل ما يمارسه الفرد المكلف من أمور حياته اليومية، لتتم المطابقة بين أعماله ومقاصدها ومآلاتها وبين مقاصد الشارع فيها. فالالتزام بالأوامر الشرعية دون معرفة مقاصدها في تزكية الحياة وتحقيق العدل ونشر الرحمة، سرعان ما يختزل الشريعة إلى أشكال ورسوم ويمسخ الشريعة إلى أغلال وقيود يتحين الناس الفرص للتفلت منها وطرحها لأدنى شبهة أو سبب.

◄ تَحدَث كثيرٌ من العلماء عن التحيل وعن الحيل في الدين. وبينوا أن استحلال محارم الله بأفعال وأعمال لها صورة الأعمال المشروعة هو مخادعة لله ومكر وتلبيس. وقد حرّر الإمام ابن القيم الكلام في الحيل فجاء بكلام نفيس وأمثلة كثيرة وجعل الكلام في الحيل شرحاً وتعقيباً على القاعدة الشرعية “العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات” فقال رحمه الله: وقد فصل قوله صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” الأمر في هذه الحيل وأنواعها، فأخبر أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره. اه

 ويعجب المرء من انتشار مرض الحيل والتحيل ولا يكاد يرى له سبباً إلا الحرفية والطقوسية التي سيطرت على صياغة الفقه وفهمه والتي أبعدت الأمة عن الوعي بالمقاصد وعن الاهتمام بالنيات والنظر إلى مآلات الأفعال عند التدين بالأحكام الشرعية ومحاولة تنزيلها في واقع الناس. وقد أورد الإمام ابن القيم عند كلامه عن الحيل أكثر من مائة مثال من الأحكام التي يتحيل المتحيلون لإبطالها، وكل الأمثلة هي تصرفات مكلفين في أعمالهم وأحوالهم ومعاشهم، وفي كل مثال يصدق الكلام عن وجوب فهم مقاصد الشارع في أحكامه على المكلف العادي في خاصة نفسه وعلى من يستفتى في هذه المسائل على حد سواء.

◄ كتب الإمام الغزالي كتابه المشهور “إحياء علوم الدين” الذي شرح فيه كيف يتدين المسلم في أعمال العبادات والمعاملات، والكتاب كله يدور حول المقاصد والنيات وكيف يعمل المسلم ليجعل من صور عباداته ومعاملاته وأشكالها ورسومها أعمالاً فيها روح الخضوع والخشوع وحقائق المنافع والمصالح فلا يخرجه التمسك بالأشكال إلى الوسوسة والعنت. وربع العادات من الكتاب طافح بذكر المقاصد وبيان مراد الشارع من الأحكام وكيف تجب المحافظة على الحلال مع بقاء مصالح الدنيا ودوامها واستقرار تبادلها.

◄ ذكر الإمام الشاطبي في كتاب الاجتهاد من “الموافقات” أن الاجتهاد في تحقيق المناط لا بد منه لكل مكلف ليستقيم تدينه بالأوامر الشرعية التي تعلمها فقال رحمه الله: …فالحاصل أنه لا بد منه إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه، فإن العاميّ إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة إن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له المناط فأجراه عليه… فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاّ بالمحال وهو غير ممكن شرعاّ. اه

  وذكر الإمام الشاطبي في موضع آخر عند شرح متطلبات الاجتهاد لتحقيق المناط فأثبت ضرورة معرفة المكلف بمقاصد الأحكام التي يجتهد في تنزيلها وتحقيق مناطها في واقعه فقال: والحاصل أنه يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتَـهَد فيه.

◄ ذكر الإمام الشاطبي في كتاب الاجتهاد من “الموافقات” أنه لا بد عند التدين بالأوامر والنواهي الشرعية من النظر إلى مآلات الأفعال، وأن هذا النظر أمرٌ ينبغي لكل مكلف معرفته في خاصة نفسه لما ينبني عليه من سدّ الذرائع ومنع التحايل. ويبدو جلياً من استعراض الأمثلة التي ساقها الإمام أن هذا النظر في مآلات الأفعال لا ينحصر بمن يتصدى للفتوى والقضاء. والنص في هذه المسألة هو قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وهو نص له صفة العموم والشمول لكافة المكلفين بالشريعة وأحكامها، فالنظر إلى عواقب الأمور ومآلاتها هو أمر في صلب قضية النظر إلى المقاصد والمعاني التي تطلب الشريعة تأصيلها في الحياة.

◄ صنف الإمام “الجويني” كتابه – غياث الأمم في التياث الظلم – وشرح في نهايته ما يجب على المكلفين فعله إذا خلا الزمان عن المفتين وقلة مذاهب الأئمة الماضين، وقد بينّ سبب كتابته في هذا الموضوع فقال: … وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون، والمتسمون بالطلب يرضون بالاستطراف ويقنعون بالأطراف، وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها أو فصول مغلفة وكلم مزيفة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام، فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة عن قرب وكثب ولا يخلفهم إلا التصانيف والكتب. وحاصل كلام الإمام في هذه المحاولة هو إرجاع تفاصيل الشرائع والتكاليف إلى الكليات والمقاصد والأصول التي لا يصعب معرفتها على كافة الناس، وقال في آخر محاولته: فجمعت هذه الفصول وآملت أن تشيع منها نسخ في الأقطار والأمصار، لو عثر عليها بنو الزمان لأوشكوا أن يفهموها لأنها قواطع، ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاذهم ومعاذهم فيحيطوا بما عليهم من التكاليف في زمانهم. اه                                    

وعند النظر في هذه المحاولة الرائدة للإمام الجويني نجد أنها تمثل تأصيلاً لمنهج في الخطاب بتكاليف الشريعة وأحكامها يبدأ بالكليات والمقاصد التي تمثل المعاني الأساسية للدين والتي يسع كل الناس فهمها ومعرفتها، ثم يتوسع للناس في التفاصيل والفروع حسب ما تسمح به ظروفهم وحاجاتهم وأوضاعهم. ويبدو أن هذه المحاولة الرائدة لصياغة الفقه -بمعناه الاصطلاحي- تضع المقاصد وفهم المقاصد والكليات الشرعية في مكانها الصحيح على سلم الأولويات في تعليم الناس وتلقينهم حقائق الشريعة وما يجب عليهم معرفته، وبهذا يخرج الناس من حرج الوهم بوجوب البدء باستظهار الفروع والتفاصيل فلا ينحل تمسكهم بالشريعة ويستسهلون الهجوم على مخالفتها لاعتقادهم أن الترتيب المنكوس للأولويات هو الواجب في حقهم وهو غير ممكن لأكثر الخلق.

◄ يؤكد العلماء أنّ من أهم شروط الفتوى في الدين معرفة الواقع بقرائنه وعوارضه وأحواله، وأن أهم موارد الاختلاف بين العلماء هو مدى معرفتهم بالواقع ومآلات الأفعال فيه. وقد شرح ذلك الإمام ابن القيم في -إعلام الموقعين- فقال رحمه الله: ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلّ وأضل.

 وفي كتاب عمر ابن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: الفهم الفهم فيما أدلي إليك فإنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له. وقد قال الإمام ابن القيم عند شرح ذلك: لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر. اه

 وفي عصر – الانفجار المعلوماتي – حيث أصبح كل فن وكل عمل وكل مهنة، اختصاص له فروع متشعبة من التطبيقات لا يكاد يستوعب آحادها جماعات المتفرغين المتخصصين، انتهى عصر العلماء الموسوعيين الذين يحسنون القول ويستطيعون استخراج الفتاوى والأحكام بفهم عميق للواقع وما يجري فيه في كل مجال وفن وكل اختصاص. ولا مخرج من هذه الأزمة إلا بنشر الوعي بالمقاصد والكليات من القواعد الشرعية بين المتخصصين والعاملين في كل فرع من فروع المعرفة أو ضروب الأعمال والتجارات والخدمات أو الكفايات من جمهور الأمة، وعندها فقط يمكن الحوار بين علماء الشريعة وبين أصحاب العلم بالواقع من المسلمين لتكون نتيجة الحوار وتبادل الرأي والمشورة إثبات حيوية المسلمين وقدرتهم على الحياة بهدي دينهم وشريعتهم الخالدة ومقاصدها الكلية الثابتة.

 إنّ التجديد الذي يعيد نضارة وحيوية الدين للأمة التي أشقتها متاهات التجارب البشرية لا يمكن إلا بجناحين: علم الشريعة وعلم الواقع، ولا يمكن أن يتم الحوار المجدي بين الطرفين إلا أن يكون علم المقاصد هو اللغة التي يفكر بها عالم الشريعة فيخرج من حرفية النصوص وشكلية الفهم، ويتقنها كذلك كل عامل في حرفته ومجال علمه وخبرته ليرى كيف يوجه الواقع ليحقق مقاصد الشريعة في مهنته ومجاله، ويقترح من خلال فهمه للواقع طرقاً ووسائل لتحقيق الخدمات وتأمين الكفايات بفهم المسلم وانتماء المسلم وضوابط شريعته ومقاصدها. وعند ذلك فقط يمكن أن يكون للتجديد معنى، ويمكن أن تترجم الشعارات إلى واقع ممكن يستمد عطاءه ووجوده من جمهور عريض من أصحاب الكفايات والخبرات من المسلمين الملتزمين.

إن كليّات الدين وأساسيات الشريعة والمفاهيم المرجعية والعقدية هي موضع اتفاق بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وغالباً ما يقع الخلاف في وسائل تحقيق وتنزيل القيم والمفاهيم. وفي أكثر الأحيان يمكن إعادة الخلاف إلى تباين في فهم الواقع ودراية حقيقة ما يجري فيه. فإذا بدأنا بتقرير الكليات والأساسيات وشملت دعوة الاجتهاد والتجديد كل مسلم ليدلي بدلوه في المساهمة في فهم الواقع وحقيقة ما يجري فيه فيما يتعلق بمهنته وعمله والكفاية التي يتولاها من أمور الأمة فإننا بهذا قد أعدنا الدين وهدايته إلى المكان الطبيعي من حياة الفرد والأمة.

وعندما تبدأ الأمة هذا التوجه يتحرك كل مسلم مهما كان نصيبه من العلم والثقافة على محورين: الأول منهما يتمثل في محاولة فهم الكليات والأساسيات وذلك عبر تلقٍ وحوار دائم مع علماء الشريعة ومصادر التشريع، ويتمثل الثاني منهما في محاولة إتقان وفهم واقع المهنة والحرفة والكفاية التي يشارك في القيام على تأمينها في الأمة. ومن خلال هذين المحورين يحاول كل مسلم بالتشاور مع زملاء مهنته وشركاء خبرته أن يبحث عن وسائل تنزيل الكليات والأساسيات وطرق تحقيق المصلحة العامة ورفع الفساد.

فإذا عَلِم المرء أن من كليات الشريعة في العقود والمبادلات رفع الغرر والغشِّ والخداع مثلاً، فليس هناك من هو أقدر على معرفة وسائل تحقيق هذه الكلية الشرعية في واقع أية مهنة ممن يزاول هذه المهنة ويتعاطى مداخلها ومخارجها كلَّ يوم، ابتداءً من البائع البسيط ومروراً بالتاجر والصانع والإداري والعامل والعالم إلى آخر هذا الطيف الواسع من المهن والحرف والخدمات والصناعات. وإذا علم المرء أن من المقاصد الشرعية للعقود والمبادلات الوضوح والابتعاد عن كل جهالة تؤدي إلى الخلاف، تحرى من وسائل الضبط والتوثيق ما يتناسب مع واقع مهنته وما يثق بفعاليته في توضيح الأمور وإزالة الإيهام.

إنّ هذا التوجه يعيد الأمور إلى نصابها في تصور الإسلام رسالة خاتمة تقرر المبادئ والقيم والكليات الأساسية وتترك الباب مفتوحاً لتجدد الوسائل وتغير الأساليب. ومتى استقرت هذه الحقيقة غدا تاريخ المجتمعات المسلمة منذ عصر الرسالة إلى اليوم محاولات نستلهمها ونضعها في سياقها من الزمان والمكان لنفهم كيف حاول المسلمون عبر العصور تمثل قيم الدين ومبادئه، فيغدو التاريخ مثالاً ونموذجاً تطبيقياً وليس بديلاً عن القيم نحاول أن نعيده ونعيشه مرة أخرى كما هو بتفصيلاته ووسائله بكل ما تحمله هذه المحاولة من عنت وما تؤدي إليه من إحباط.

إنّ هذا التوجه يعيد الثقة إلى المسلم بأنه المسؤول عما استرعاه الله من كفايات ومهارات وخبرات وأنه المكلف أصالة عن إقامة وتمثيل القيم الشرعية في مجاله وليس هناك من ينوب عنه في هذا كائناً من كان.

إن هذا التوجه يرفع الحرج عن علماء الشريعة ويعفيهم من الظن أن عليهم أن يقرروا التفاصيل ويعالجوا كل المسائل فيحملهم ذلك على التكلف والتنطع والقول فيما لا يحسنون. فأمور الحياة قد أصبحت على درجة من التوسع والتعقيد لا يمكن معه تناولها باقتدار وإتقان إلا من أصحاب الخبرة والممارسة والدراية. أما المبادئ والقيم والكليات والأساسيات والضوابط فهي مجال علماء الشريعة يستلهمونها من النصوص الكلية والتراث ونجاحات التجارب التاريخية لمجتمعات المسلمين. وتبقى قضية معالجة الواقع وتزكيته، وتنزيل القيم بكل ما تحتاج إليه، مجال سجال وحوار وتشاور وتعاون بين طبقات الأمة وقادة الرأي والخبرة فيها في كل مجالات النظر والعمل والمهن والحرف والخدمات وجميع وجوه الارتفاق والمصالح.

إن هذا التوجه في الانطلاق من المقاصد والكليات لتحديد الوسائل وترتيب الأولويات يعطي أصحاب الفكر والناشطين من أهل الحركة بصيرة واضحة لمعرفة نقاط الاتفاق ومجالات الافتراق والتمايز بعيداً عن مجرد الاعتراض لتأكيد الحزبيات والعصبيات التي تستهلك الطاقات وتدفع بالأمة إلى التشرذم والتفرق.

وعند ذلك تعود ثقة الأمة بدينها ويتمكن المسلم من أداء دوره في تزكية الحياة وترقية أحوال الأمة سواء كان في أعلى درجات المسؤولية الاجتماعية والسياسية أو في قضايا التنزيل والتطبيق حيث يكون قادراً على استلهام روح القانون ومقاصد التشريعات وقادراً على التحاور وإبداء الرأي والنصح عندما يلاحظ ما يند عن تحقيق المصلحة في عمله ومجال خبرته على الوجه المقبول.

 ومن المفيد أن نذكر أنه لم يعد مقبولاً في ممارسة مهنة الطب والعلاج الطبي أن يبقى المريض في معزل عن القرار الذي يراه الطبيب، وأصبح من واجب الطبيب أن يشرح للمريض بلغة بسيطة يفهمها كل ما يعين المريض على الفهم لمراحل العلاج ومتطلباته وأثره على صحته وإنهاء معاناته وآلامه، ويشجعه على التعاون وتحمل نصيبه من المسؤولية.

◄وعلم المقاصد الذي نرجو له التأصيل والانتشار هو العلم بالقواعد الكلية الضابطة للنظر في كل باب من أبواب التصرفات والعقود، بحيث يتجلى الفرق بين الوسائل والمقاصد، وبين المعاني الكلية المتفق عليها وبين الفروع والجزئيات التي تحتمل التنوع والاختلاف، وبين قيم الشريعة الخالدة وبين صور تطبيقاتها في امتداد الزمان والمكان.

فلا بدّ من فهم التصرفات في سياقها وعلاقاتها بالنموذج الحضاري والسلوك الذي تستدعيه أو تؤصله فإن الفتوى -في القضايا المالية مثلاً- والتي تتجاهل وظيفة المال في الأمة أو نموذج التوزيع للثروة كما حددها القرآن الكريم {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] {كي لَا يَكُونَ دُولَةَ بَينَ الأغنِيَاءِ مِنكُم} [الحشر: 7]، لا يمكن إلا أن تكون قاصرة مبتورة عن القيم التي نزل القرآن الكريم لتحقيقها وتأسيسها مهما اجتهد المفتون في محاولة تحقيق معنى النصوص الجزئية التي يستندون إليها. فعند معالجة أية قضية لا بدّ من جمع كل النصوص والأخبار المتعلقة بالقضية المدروسة ومحاولة الخروج بفهم كلي للمسألة في ضوء خصائص الشريعة العامة ومقاصدها الكلية وذلك بمحاولة اكتشاف المعنى الجامع لآحاد الجزئيات بظروفها وملابساتها وقرائنها، وبذلك نتخلص من الفهم الجزئي المبتور الذي يستند إلى آحاد النصوص والأدلة.

 وقد حاول الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور هذا التأصيل لعلم المقاصد في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” وعقد فصولاً مهمة في آخر الكتاب عن مقاصد أبواب من العقود والمعاملات وجاءت محاولته عملاً رائداً يمثل توجهاً تجديدياً في صياغة فقه المعاملات والذي نأمل أن يكثر فيه المساهمون والدارسون لإعادة التفاعل بين الحياة الواقعية ومناهج صياغة ونشر قيم الوحي وهدايته.

◄ إن منهجية المقاصد في بعدها -الجماعي- الجمهوري والذي يجمع عالم الشريعة وكافة شرائح الأمة في المسؤولية عن إقامة الدين وتزكية الحياة به -كما نحاول تأصيله- هي الرد على من يخشى أن تختلط المقاصد التي نريد تحريرها وتأصيلها بالمصالح الفردية الأنانية. وليس مستغرباً على الخطاب الديني التقليدي أن يتوجس من الطرح المقاصدي ويرتاب، فالفقه قلما اهتم بالبعد الجماعي للتشريع وغالباً ما انحصر في القضايا التكليفية الفردية. وعندما قام الإمام ابن عاشور بإدخال واعتبار بُعد الأمة -أي البُعد الجماعي- بدلاً من الانحصار في اعتبار المكلف الفرد عند النظر في التشريع، نحسب أن هذه الإضافة النوعية هي التي قدمها الإمام الشيخ الطاهر بن عاشور حول مقاصد الشريعة على ما قدمه الإمام الشاطبي في هذا الباب.

إن إضافة بُعدِ الأمة عند ابن عاشور مكَّنهُ من حلّ أكثر من مشكلة في آنٍ واحد. فمن الأسطر الأولى في مقدمة كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” يقرر الإمام أن “مصطلحي إذا أطلقتُ لفظ التشريع أني أريدُ به ما هو قانون الأمة ولا أريد به مطلق الشيء المشروع، فالمندوب والمكروه ليسا بِمُراديْنِ لي”. (ص8). وبهذا فهو يقررُ أن علم مقاصد الشريعة علمٌ يتناول الموضوعات العامة ذات الصبغة الجماعية، وأن الأحكام التي يأمل أن يؤسس قواعدها هي أحكامٌ تتناول المجتمع والأمة والجامعة الإسلامية، ثم إنه يتابع قائلاً: “كما أرى أن أحكام العبادات جديرةٌ بأن تُسمى بالديانة ولها أسرارٌ أخرى تتعلق بسياسة النفس وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع”. (ص8).

وأحسب أن هذا المدخل الذي أصَّلهُ ابن عاشور رحمه الله قادرٌ على حل مشكلةٍ كبرى في تاريخ الفقه والأصول تتعلق بالمقابلة بين فكرة التعبد وبين معقولية التكليف. وتظهر ملامح هذا الحل عند مقارنة طرح ابن عاشور بما قدَّمهُ الشاطبي في هذا الباب.

فلقد مزج الشاطبي رحمه الله في كتابه “الموافقات” تعريفه للمقاصد الضرورية بين الدنيا والآخرة لأن بُعدَ الأمة لم يكن حاضراً في كتابته. أما ابن عاشور فإنه يقرر بوضوح: “فالشرائع كلها وبخاصةٍ شريعة الإسلام جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، أي في حاضر الأمور وعواقبها، وليس المراد بالآجل أمور الآخرة لأن الشرائع لا تُحددُ للناس سيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا”. (ص 10). ومن هنا لا نرى غرابةً في أن الشاطبي يكتب للفرد ويُحددُ مقصد الشريعة بأنه إخراج العبد عن داعيةِ هواهُ ليكون عبداً لله، ويمزج بين الدنيا والآخرة ويتكلم عن التكاليف بأن منها ما هو معقول المعنى – أي أنّ باستطاعة البشر إدراك المعاني والحِكَمْ الكامنة وراء تكليفهم بها – ومنها ما هو غير معقول المعنى..

أما ابن عاشور فحيث أنه وضع الأمة كإطارٍ للبحث في المقاصد فقد كان من المناسب تماماً أن يَفْصل بين الحديث عن المقاصد وبين أحكام الآخرة، لأن الآخرة هي جزاءٌ للأفراد {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95]. وهو لذلك يكتب عن الأمة، والجزاء الجماعي للأمة هو في الدنيا، كما أن المسؤولية عما تتورط فيه الأمة مسؤولية جماعية: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] ومن الصعب إدخال النيات ومقاصد الأفراد في صياغة الأحكام الجماعية. ولذلك فقد وصف ابن عاشور التشريع بأنه قانون الأمة.

وإن من الواضح أنه عندما يكون الحديث عن الأفراد كإطارٍ للمقاصد (كما فعل الشاطبي) فإن من الطبيعي أن تتوسع دائرة التعبد أو غير معقول المعنى، لأن الفرد مُطالبٌ بمخالفة الهوى، ومُطالبٌ بإصلاح النية والقصد والتوجه ولو لم يعلم على التفصيل حكمة ما طُولبَ به من عبادات وشعائر ونُسكٍ وأوامر ونواهٍ. وكلما تجاوز الأمر الشرعي الفرد المكلف ودلت صيغـة الأمر على موضوع يمس الأمة والجماعة ضاقت مساحة غير معقول المعنى، وتوسَّع العلماء في الحديث عن المصالح والحِكَم. ولا تجد من ينكر المعاني والمصالح الكامنة وراء اجتماع المسلمين للصلاة والجمعة والأعياد والزكاة والصدقات وصلة الأرحام وعيادة المرضى والمواساة وغير ذلك من الأمور.. حتى إذا وصل الأمر إلى ترتيب مصالح المسلمين العامة في الدنيا كان من الطبيعي أن تضيق بل تنتهي دائرة غير معقول المعنى لأن ذلك ألصقُ بطبيعة التدين الفردي الذي مال ابن عاشور إلى تسمية أحكامه بالديانة تمييزاً لها عن التشريع الذي خصّهُ بمجال الأمة.

فالأصل في القضايا العامة وإطار الأمة أن تضيق مساحة ما يُدعى – غير معقول المعنى- لأنّ أمر الأمة في الدنيا مبنيٌ على المصالح، والمصالح في الدنيا بطبيعتها معقولة المعنى يتسلطُ عقل الإنسان عليها بالفهم والترجيح والموازنة، ويسترشد بضوابط الوحي المعقولة في إجراء ذلك الترجيح وتلك الموازنة.

◄ من استقراء آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الأمة ومهمتها، يمكن أن نستخلص تعريفاً للمقصد الأعلى للشريعة، يُدخل فيه بُعد الأمة والتكاليف الجماعية المنوطة بها والذي يمكن صياغته على أنه:

إنشاء أمة متمثلة لمقتضيات الإيمان، قادرة على الحضور الذي يمكن من الشهادة ويقيم الحجة ويبعث على الاحترام ويغري بالاقتداء، أمة قادرة على عمارة الأرض وتسخير الكون لتكون الحياة على الأرض طيبة لا عسر فيها ولا ضنك، تحكمها الرحمة والتخفيف والسماحة، وتتوجه إلى البناء والعمران والتواصل والتعارف“.

ومجمل المعاني الواردة في هذا التعريف نجدها في كلام ابن عاشور رحمه الله، إلا أنه لم يجمعها في تعريفه المحدد الذي قدمه، وإنما كانت متناثرة في مواضع مختلفة وتحت عناوين متنوعة. ووفقاً لهذا التعريف فإن الحياة الطيبة ممكنة إذا هيمنت عليها قيم الإيمان التي تضع الإنسان في مكانه الصحيح من خالقه ومن الكون من حوله، والحياة الطيبة ممكنة باستقرار واستمرار الوجود الإنساني القادر على التواصل والتعاون والتسخير والإعمار.

ولا يظهر الدين إلا بوجود أمة قادرة على استحضار منهج الإيمان في التعامل مع الكون والحياة بوضوح يقيم الحجة، وفعالية تمكن من الشهادة، وجدية تبعث على الاحترام وتُغري بالاقتداء، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.

وعند فهم مقصد الشريعة على هذا النحو، تصبح التكاليف الفردية والجماعية انعكاساً لمتطلبات تكوين الأمة بالمواصفات القرآنية ابتداءً من عقدة الإيمان في القلب -لا إله إلا الله – وانتهاءً بآخر مقتضيات الخير في القلب -إماطة الأذى عن الطريق-، والذي يعكس الطبيعة الجماعية لمقتضيات الإيمان. وعندما يتضح المقصد الأعلى للشريعة، تصبح الإنسانية كلها والكون كله بؤرة اهتمام المسلم، ينظر إلى ما يخصه من التكاليف من منظار كوني عالمي يعرف موضع مشاركته وواجبه من الصورة الإجمالية، فلا يحقر صغيراً ولا يتجاهل ما حوله وهو يؤدي واجبه في الإعداد.

إن فهم الشريعة في هذا الإطار الجامع الذي يعطي الأهمية للهدف العملي والآثار الواقعية المرتقبة لكل ما يجب اعتقاده أو الالتزام به من الأوامر والأحكام هو الضامن -بإذن الله- لإخراج الخطاب الإسلامي من الدوائر النظرية والحرفية التي انحصر فيها ففقد القدرة على التأثير والإثارة وفتح بهذا باب الفتنة بالزخرف وبالغرور من القول والعمل.

أما الشق الثاني من تجليات أزمة الخطاب الإسلامي والمتمثلة في الفشل في فهم الواقع والتعامل معه، فلا بد من البيان لإزالة الوهم الذي يتطرق إلى بعض الأذهان فيحملها على التسوية بين الدعوة إلى فهم الواقع وبين الدعوة إلى اتخاذ الواقع الراهن في عصر من العصور مقياساً للصواب والحق مع الإنكار لوجود قيم مطلقة ذات مصدر علوي. إن هذا الوهم هو الذي صبغ الخطاب الإسلامي بصبغة المثالية والتحليق في الأبراج العاجية والحديث عما يجب، مع التأثم من معاناة الواقع كما هو بعقلية يغلب عليها الانتقائية والجزئية والإقصاء والإنكار والتجاهل. إننا ندعو إلى النظر إلى الواقع كما هو، لتحري وسائل تنـزيل القيم فيه وتزكيته والارتقاء به إلى الحياة الطيبة التي تعيش وترتبط بالقيم.

وهنا أستعرض بعض النقاط التي تساعد على اكتساب البصيرة الشرعية في النظر إلى الواقع والتعامل معه:

 – إنّ طريقة القرآن في عرض الأحكام تدل على واقعية صارمة لا تتجاهل أحوال المخاطبين أو تقفز فوقها. فليس في القرآن الكريم تشريع أو تكليف مقطوع عن الظروف والملابسات بل كان اعتبار الواقع والظروف هو الأمر الذي لم تنفك عنه الأحكام.

فآيات الصيام اتصلت بدون إمهال لبيان الحكم عند طروء السفر والمرض: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. وفي آيات الحج جاء بلا تراخ حكم شعيرة الحلق عند المرض: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].

وجاءت الآية التي تبـين وجوب أداء الصلاة على وقـتها في سياق الاستـثناء الذي تـمثله آيـة صلاة الخوف: {إِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103].وبيان المحرمات من الأطعمة تبعـه مباشرة في أكثر من موضع أمر باعتـبار ظروف التـطبيـق: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]. فطريقة القرآن في كل هذه الأمثلة توجه المؤمن لأخذ الظروف والملابسات بعين الاعتبار والبعد عن التجاهل والتجاوز. فليس من التقوى والورع أن ندير الظهر للواقع الذي نتعامل معه ونبني صورة عن المجتمع ليس لها من الحقيقة نصيب، بل إن هذا هو بطر الحق الذي يحمل أرباب الخطاب الديني على التورط في الكبر والترفع على الناس.

– ومن الخصائص المهمة للشريعة التدرج في تطبيق الأحكام، هذا التدرج الذي توضحه الآيات التي نتلوها ونحن نعلم أنها لا تمثل الحكم النهائي في موضوعها مما يوضح صبغة واقعية مهمة وبياناً لأهمية اعتبار حال الناس وأوضاعهم عند الأخذ بيدهم للوصول إلى الحالة السوية التي تبينها الأحكام النهائية. وما أحكام الخمر والميسر والميراث والقصاص والجهاد إلا أمثلة واضحة لطريقة القرآن في التدرج واعتبار الواقع وعدم تجاهله وإقصائه عند محاولة تـنزيل القيم.

– أوضح الإمام الشاطبي في المقدمة الثالثة عشرة من “الموافقات” أن من أمارات الحكم الشرعي المعتبر أن يطابق الواقع، وأن كل ما لم يجر على استقامة واطراد مع الواقع فلا يمكن اعتباره أصلاً شرعياً، وأن من لم يلاحظ هذا التطابق لم يأمن الغلط. وقد جاء للدلالة على هذه القاعدة بأمثلة لطيفة تبين طريقة فهم آيات القرآن وتأويلها حتى لا نقع في التناقض بإثبات ما يتعارض مع الواقع وحتى يقع الاطراد في معنى الآيات وما يلزم منها. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] فقال: إن حمل معنى الآية على أنه إخبار لم يستمر مخبره (أي لم يصح معناه) لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيراً بأسره وإذلاله، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعي فعليه يجب أن يحمل. (أي لا تجعلوا للكافرين عليكم سبيلاً).

وذكر الشاطبي مذاكرة بينه وبين أحد شيوخ عصره فقال: كتب إليّ بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه والشغل به، فقال فيه: وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته فرَغ سرَه منه بالخروج عنه ولو كان خمسون ألفاً كما فعله المتقون. فاستشكلت هذا الكلام وكتبت إليه بأن قلت: أما أنه مطالب بتفريغ السر منه فصحيح، أما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب فلا أدري ما هذا الوجوب. ولو كان واجباً بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم وديارهم وقراهم وأزواجهم وذرياتهم وغير ذلك مما يقع به الشغل في الصلاة. وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سبباً للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال. وأيضاً فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل؟ هذا ما لا يفهم. وعقب الشيخ الشاطبي على ذلك بقوله: فلما وصل إليه ذلك كتب إليَ بما يقتضي التسليم فيه وهو صحيح. لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جارٍ في الواقع على استقامة لاختلاف أحوال الناس فلا يصح اعتماده أصلاً فقهياً البتة.

وفي موضع آخر من “الموافقات” قرر الإمام الشاطبي في كتاب الاجتهاد أن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً. فلا يصح إطلاق القول بمشروعية عمل إذا أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها. وكذلك لا يصح إطلاق القول بعدم مشروعية عمل إذا أدى دفع المفسدة فيه إلى مفسدة وضرر يساوي المفسدة أو يزيد عليها. وقد ذكر الشيخ العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام” كلاماً نفيساً عن اختلاط المصالح والمفاسد وأحوال اجتماعها وكيف تتغير الأحكام بغلبة المصلحة أو المفسدة على التصرفات حسب الأحوال والقرائن. وكل ذلك يتطلب معرفةً وبصيرة بالواقع ومآلات الأفعال فيه. فالعلم بالواقع والبصيرة فيه ومعرفة نتائج وعواقب أي فعل في البيئة والعرف السائد أمر لازم ولا يجوز إهماله حتى تحقق الأفعال والتصرفات غاياتها من المصالح أو درء المفاسد.

وذكر العلامة ابن خلدون في مواضع كثيرة من مقدمته أهمية الرجوع إلى طبائع العمران والأشياء للتحقق من صدق الأخبار والروايات. ومن ذلك قوله: “فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميـز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتـضى طبـعه وما يكون عارضاً لا يعـتد به وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان لنا ذلك قانوناً في تمـييز الحـق والباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه”. وذكر ابن خلدون في سياق آخر أن من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتـبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده.

– والناظر في هذا الكلام يدرك أن المنهاج الذي أسس عليه العلامة ابن خلدون علم الاجتماع أو علم العمران يعتمد بشكل كبير على المعرفة بالواقع والبصيرة بتبدل أحواله والثابت من طبائعه وما بث الله سبحانه فيه من نواميس وسنن وأسباب ووسائل. وهذا منه رحمه الله فهم لأهمية الاتصال بالواقع عند محاولة التأثير فيه، وفي الوقت نفسه، رفض ورد للمنهج التاريخي الحرفي الذي لا يتصل بالواقع عند محاولة الفهم لدروس وعبر التاريخ وقفز فوق خصوصيات الزمان والمكان.

وقد ذكر الإمام الغزالي أنّ الشيء في الوجود له أربع مراتب: حقيقته في نفسه، وثبوت مثال حقيقته في الذهن، وتأليف صوت بحروف تدل عليه وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس، وتأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة. وقال: اعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعاني أولاً في عقله ثم اتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. وقد علَق الأستاذ جودت سعيد في كتابه “اقرأ” على ذلك بقوله: “هذا معنى شريف يحسن أن نبحثه مرة أخرى بأسلوبنا وحسب طاقتنا وذلك بأن نشرح المرتبة الأولى من مراتب الوجود الذي سماه الغزالي حقيقته في نفسه أو الوجود الخارجي أو العيني حسب تعبير ابن تيمية. فالرعد مثلاً له وجود خارجي يظهر في الجلجلة التي نسمعها بعد وميض البرق في السحاب، فهذا الوجود الخارجي هو حقيقة الرعد. أما ما يحصل عند الناس من صور ذهنية عن الرعد والبرق أو الشمس والنبات والحيوان متفاوت تفاوتاً كبيراً عريضاً طويلاً وعميقاً. فلهذا نختار أن نقول إن الوجود الخارجي لكل من الفيزياء والمجتمع له حقيقة واقعة، أما تصور الناس لها فهو الذي يتفاوت الناس فيه فكل يرى حسب خلفيته الفكرية وهذا ما يميز الناس عن آلة التصوير والتسجيل ويجعلهم يختلفون في فهم الأمور على مر العصور. هذه هي العلاقة بين الوجود الخارجي والصور الذهنية، فالوجود الخارجي هو الثابت الذي كلما اختلفنا في تفسيره رجعنا إليه ودققنا النظر والبحث والتعامل معه لنصحح الصورة الذهنية. وهذا ما أردنا اثباته هنا في حديثنا عن كلام الإمام الغزالي في هذا الموضوع”. وعند التأمل في هذا الكلام نجد تطابقاً في النظرة إلى الواقع كمعيار لصدق وصحة فهمنا للنصوص، مع ما قدمه الإمام الشاطبي في هذا الموضوع. فمن طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، فلا يجوز حمل معاني النصوص على ما لا يصدقه الواقع ولا يطَرد ولا يستقيم فيه. فلا بد من التوسط والتكامل ولا بد من فقه بالواقع لتبدأ رحلة التزكية من أساس متين.

– وذكر الإمام ابن القيم في “إعلام الموقعين” تعليقاً على قول سيدنا عمر ابن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري في القضاء (الفهم الفهم فيما أدلي إليك). قال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والقضاء إلا بنوعين من الفهم، أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني هو فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر.

من مجمل هذا العرض نخلص إلى حقيقة التجديد الذي ندعو إليه للخروج بالخطاب الإسلامي من أزمته وتجليات فشله: إنه لا بد من تقرير القيم والمبادئ الشرعية الخالدة في القرآن والسنة، ولا بد من فهم التطبيقات العملية لهذه القيم والمبادئ في عهد النبوة من خلال الإلمام والاستيعاب لظروف وأحوال عصر النبوة، ولا بد من استنباط فقه التـنزيل الذي أصَله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون من بعده وذلك ببيان المنهجية العملية الواقعية المقاصدية للربط بين القيم والمبادئ وبين واقع عصرهم وزمانهم. وبعد التمكن من هذه المنهجية – الوظيفية – المقاصدية في فهم النصوص والتعامل مع التراث لا بد من فهم عميق لواقع عصرنا وأحواله ومداخله لتتم عملية تـنزيل القيم وتتم محاولة تزكية هذا الواقع من أرض البنية الواقعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا من الخيال والأوهام. فالخطاب الذي يقوم بمهمة البلاغ المبين هو الخطاب الذي يصدر عن عقلية واقعية مقاصدية منضبطة في النظر إلى النصوص والتراث والواقع، والتجديد كذلك هو الجهد المبدع لاستنباط الوسائل المؤثرة المناسبة لتزكية الواقع بمبادئ الوحي الخالدة. أما محاولة شدّ ومدّ أقوال الأقدمين للخروج بها من نسبيتها وبشريتها لتغطي -بزعمنا – ما استجد من أحوال وأوضاع والقفز بذلك فوق حقائق ومعطيات واقع الحياة فلن يأتي إلا بالإحباط والخيبة.

والناظر إلى ما تطرحه الحياة من مشكلات وإلى محاولات الخطاب الإسلامي والفكر الإسلامي لمعالجة هذه المشكلات يرى كثيراً من العجلة وقليلاً من الصبر على مكابدة الواقع وفهمه بأبعاده وأعماقه، استناداً إلى عمومات وشعارات نزعم لها الإطلاق والشمول، ومن ثم تأتي النتائج فجة لا تسهم في صلاح فكر ولا تزكية واقع ولا تسهم كذلك في صياغة خطاب يضع الشريعة الخاتمة كما أرادها الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

إن التعامل مع الواقع بالطريقة التي أشرنا إليها غير ممكن إلا أن يتولى هذا الأمر في كل شأن من شؤون الحياة من يحسنه ويتقنه. أما علماء الشريعة فلا بد من الإشارة إلى أن الإعداد العلمي والعملي لطلاب كليات الشريعة في أنحاء العالم الإسلامي يشكو من البعد عن الاتصال بالواقع وتاريخية التوجه والانفصال عن مكابدة قضايا الحياة.

وإذا كان العلماء يقررون أن من شروط التصدر للفتوى والقضاء العلم والدراية بالواقع وأحوال الزمان، أفليس من الطبيعي أن نتساءل عن آليات ووسائل فهم الواقع التي تلقاها من درس الشريعة وتدرب عليها أثناء رحلة التأهيل العلمي في المعاهد والجامعات؟ وإذا كان الجواب عن هذا التساؤل المشروع هو النفي المطلق -على لسان من يدرس في كليات الشريعة من الأساتذة والعلماء – فلا بد من إعادة الثقة بجمهور المؤمنين من أهل الكفاية فليس كل من لم يدرس الشريعة بالطريقة التقليدية عوام وطغام أو مما هبّ ودبّ بل الأمة كلها بكل فئاتها وما أقامها الله فيه من أعمال هي معيار مناسبة الخطاب الإسلامي ومعيار قدرة هذا الخطاب على تحريك كوامن الانتماء وتحمل مسؤوليات هذا الانتماء.