الصّداقة في فكرنا الإسلاميّ
تبدو نظرة عمر الخيام – ذلك الشاعر والعالم الرياضيّ – للنّاس والصداقة نظرة ارتيابيّة يُحذّر فيها من الذين لا يحفظون الودّ وعهد الإخاء، فيذكر الخيّام:
إن الذي تأنس فيه الوفاء
لا يحفظ الودّ وعهد الإخاء
فعاشر الناس على ريبة
منهم ولا تكثر من الأصدقاء
وعلى الرغم من هذه الشّكوى المُقلقة التي يُبديها الشّاعر في عصورٍ يُخيّل إلينا أنها تنعمُ بالدفء والحبّ وحفظ المودّة والصّداقة نجدُ أنّ عصرنا هو الأكثر شكاية وتندّرًا في حالة العلاقات والرّوابط، حتّى أننا سنؤكد على دعوة الخيّام للعزلةٍ وبلادٍ نائية لو كان بيننا اليوم؛ إذ إن حياتنا قائمة اليوم على المنفعة والنظر إلى “الآخر” بوصفه عدوًّا سيُظهر سريرته عاجلًا. فما يربطني بالآخر ليسَ أمرًا خاليًا من المصالحِ المؤقتة، وأختصر علاقتي معه بوصفها تعاقدًا سياسيًّا خاليًا من تلك الألفةِ والوفاء للعهدِ.
وبإحساسٍ ارتيابيّ صرخ به الأعرابي ودوّن صرخته التوحيدي ” قيل لأعرابي: كيف أُنسُك بالصّديق؟ قال: وأين الصّديق، بل أين الشبيه به، بل أين الشبيه بالشبيه به؟ والله ما يوقد نار الضغائن والذحول في الحي إلا الذين يدّعون الصداقة، وينتحلون النّصيحة، وهم أعداء في مسوك الأصدقاء.” ولا يخرج التوحيدي عن هذا الكلام فيصرخ صرخة مُدوية:
“ينبغي أن نثق بأنه لا صديق ولا من يتشبّه بالصّديق!”
ولا يظهر لنا الحمدانيّ بسوداويّة أقلّ من تلك التي التمسناها عند الخيّام، فيذكر:
بِمَن يَثِقُ الإِنسانُ فيما يَنوبُهُ
وَمِن أَينَ لِلحُرِّ الكَريمِ صِحابُ
وَقَد صارَ هَذا الناسُ إِلّا أَقَلَّهُم
ذِئاباً عَلى أَجسادِهِنَّ ثِيابُ
وإن وجدنا الكثير من السّوداويّة في نصوص الأدباء المسلمين في هذا المفهوم، فإن آخرين أعطوه المكانة الجليلة، ورتّبوا عليه أمورًا، ووضعوا فلسفة في الصداقة، وشروطها، وآدابها، وجعلوا حدًّا للخصومةِ وأخلاقًا في الفراق والتّرك وغير ذلك.
ما هي الصّداقة؟
يُعرّف مسكويه الصّداقة فيقول: الصداقة نوع من المحبة إلا أنها أخص منها وهي المودّة بعينها وليس يمكن أن تقع بين جماعة كثيرين كما تقع المحبّة. فيفرّق بينها وبين المحبّة ويؤكّد أنّ الصّداقة لا تكون مع جمعٍ كثيرٍ، فما يُميّزها أنها خاصّة بين قليلٍ من النّاس، فأنت وإن أحببت أكثر النّاس فلا يعني ذلك أنهم باتوا أصدقاءً لك. ويُبيّن أنّ الصداقة الحقيقيّة هي الخالية من المنفعة، فيقول: ” الصداقة بين الأخيار تكون لأجل الخير وسببها هو الخير” ويُسمّي هذا النّوع من الصّداقة بـ “المحبّة الإلهيّة” وهي صداقة دائمة لا تنقضي لذّتها، في حين أنّ الصّداقات والمحبّات القائمة بسبب المنفعة تنقضي وتنحل مع تقضّي المنافع واللذائذ لأنها عرضية. ويرى أنّ “المحبّة الإلهيّة” لا تكون إلا بين الأخيار فقط، في حين أنّ باقي المحبّات تكون بين الأشرار وبين الأخيار والأشرارِ.
ويُعرّف ابن حزمٍ الصّداقة بأنّها: هو أنْ يكون المرء يسوءه ما ساءَ الآخر، ويسرّه ما سرّه. فما سفل عن هذا فليس صديقًا ومن حمل هذه الصّفة فهو صديقٌ. ويتّفق ابن حزم مع مسكويه في أنّ الصّداقة الحقيقية لا تكون لعلّة ومنفعة:
” أقصى غايات الصداقةِ التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه وماله لغير علة توجب ذلك، وآثرك على من سواك.”
ويرى أنّ من الرذيلةِ التي تشبه الفضيلة الاستكثار من الأصدقاء؛ فالصّداقة فضيلة تامة لا تُكتسبُ إلا بالحلم والجود والصبر والوفاء والاستضلاع. وقد نبّه الماوردي على أنّ النّاس مذاهب في اتّخاذِ الإخوان ويظهر أن مذهب ابن حزمٍ هو التّقلّل منهم. وممّا ذكره الماوردي في ذلك:
“قَدْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي اتِّخَاذِ الْإِخْوَانِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُمْ أَوْلَى؛ لِيَكُونُوا أَقْوَى مَنَعَةً وَيَدًا، وَأَوْفَرَ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا، وَأَكْثَرَ تَعَاوُنًا وَتَفَقُّدًا. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَا الْعَيْشُ؟ قَالَ: إقْبَالُ الزَّمَانِ، وَعِزُّ السُّلْطَانِ، وَكَثْرَةُ الْإِخْوَانِ. وَقِيلَ: حِلْيَةُ الْمَرْءِ كَثْرَةُ إخْوَانِهِ.”
ويرى ابن حزمٍ أنّ الرابطة التي تجمع النّاس على الرذائل والمعاصي والأطماعِ والنّيلِ من الأعراضِ والفضولِ وما لا فائدةَ منه لا تُسمّى صداقة فهذه قبائح زائلة لمّا تزولُ ينالُ هؤلاءِ الجمع من بعضهم بعضًا عند فقدها. والصّداقة الحقيقيّة يعني بها” إخوان الصفاء لغير معنى إلا لله عز وجل“.
كيفَ يجبُ أن يكونَ الصّديقُ؟
في الرّسالةِ الرّابعةِ لإخوان الصّفا يأتي فصلٌ عنوانه ” كيف يجب أن يكون الصديق؟” فينبغي للإنسان كما تشرح الرّسالة إذا أرادَ أن يتخذ صديقًا أن ينتقده كما تُنتقد الدّراهم والدّنانيرُ، والأرض الطيبة للزرعِ والغرسِ، وكما ينتقدُ أبناءُ الدّنيا أمر التّزويجِ وشراء المماليكِ والأمتعةِ. حتّى أن أمر اتخاذ الإخوان أجلّ وأعظم؛ ذلك أنهم أعوان على أمورِ الدّين والدّنيا جميعًا. وتذكر الرّسالة أنهم قليلون وأعزّ من الكبريت الأحمرِ.
ويشترطُ الغزالي في صفة الصّديق خمسَ خصالٍ: العقل، وحسن الخلقِ، والصّلاحِ، وألا يكون حريصًا على الدّنيا، والصّدق. فعلى الإنسانِ أن لا يؤاخ إلا من يصلحُ للإخوة والصّداقة، لقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
ويضعُ الماوردي في كتابه “أدب الدين والدّنيا” خصالًا للصّديق تشبه تلك التي وضعها الغزالي وعلّل كذلك كلّ صفة والسبب في التماسها بالصّديق، ومن تلك الخصالِ: “عَقْلٌ مَوْفُورٌ يَهْدِي إلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ. فَإِنَّ الْحُمْقَ لَا تَثْبُتُ مَعَهُ مَوَدَّةٌ، وَلَا تَدُومُ لِصَاحِبِهِ اسْتِقَامَةٌ”.
كما وييُنبّه ابن المقفّع العاقلَ إذا أراد أن يتّخذَ صديقًا أن يتخيّر ذلك الذي لديه فضلٌ في الدينِ والعلم والأخلاقِ.
وقيل لخالد بن صفوان: أيّ إخوانك أحبّ إليك؟ قال: الذي يغفر زللي، ويقبل عللي ويسدّ خللي.
حقُّ الصّحبة
يدعو النّووي في شرحه على حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- “لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” أن يُعافيه الله من القلبِ الدّغل وهو القلب المليء بالفسادِ والحسدِ الذي لا يستطيع أن يتمنّى لأخيهِ النّعمة ودوامها فلا يكتمل حينها إيمانه.
وهذه الأخلاقيّات على المسلمِ أن يتخلقها مع كلّ النّاس وهي في حقّ الصّديق أخصّ وأولى، ونجدُ هذه الرّوح الأخلاقيّة مُتجلّية في ما أروده الأقدمون في حقّ الصّاحبِ، فذكر ابن حزمٍ المسامحة والإيثار والتّغافل، وأن لا ينقل الصّديق لصديقه ما يؤلمُ نفسهُ ولا ينتفعُ بمعرفته ويسمّي هذا فعل الأراذل.
وممّا ذكره ابن المقفّع أنه إذا ناب الصديق إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية فقد ابتليت معه، فإما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار.
ويقول زين العابدين في رسالته “رسالة الحقوق”: “وأمّا حقّ الصّاحبِ فأن تصحبه بالفضلِ ما وجدت إليه سبيلًا، وإلا فلا أقل من الإنصافِ، وأن تكرمه كما يُكرمك، وتحفظهُ كما يحفظك، ولا يسبقكَ فيما بينكَ وبينه إلى مكرمةٍ..“.
وأجمل الغزالي في ذلك فقال: ” الايثار بالمال، فإن لم يكن هذا فبذل الفضل من المال عند الحاجة، والإعانة بالنفس في الحاجات، على سبيل المبادرة من غير احواج إلى التماس، وكتمان السر، وستر العيوب، والسكوت على تبليغ ما يسوؤه من مذمة الناس إياه، وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه، وحسن الإصغاء عند الحديث..“
وقال الأحنف: من حق الصديقِ أن يُحتملَ له ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة. على الصّديقِ أن يغفر هفوات صديقه ويضع لها مخارج لأقواله وأفعاله بالظنّ الحسن، ولا بأسَ إن عاتبه فكما قال ابن حزمٍ “استبقاكَ من عاتبك” ولا ينبغي له أن يزهد به لخلقٍ أنكره فإن كره واحدًا فقد رضي بسائرِ أخلاقه، وقد قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا … كَفَى الْمَرْءُ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ
والصديق ليس كالمملوكِ تعتقه وقت شئت، بل عليك أن توطّن نفسك أن لا سبيلَ إلى مقاطعةِ أخيكَ، فهو العرض والمروءة، ومروءة الرجل كما ذكر ابن المقفّعِ إخوانه وأخدانهُ.
وقد أفردَ ابن قتيبة نقولاتٍ ممّا يجبُ للصّديقِ على صديقه في كتاب “عيون الأخبار” فذكر كلامًا لابن سيرين: لا تكرم أخاك بما يكره. ونقل عن كثيّر:
ومن لا يغمّض عينه عن صديقه … وعن بعض ما فيه يمتْ وهو عاتب
——————————————–
المراجع:
-تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، مسكويه.
-مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق، ابن حزمٍ.
-الصّداقة والصديق، التوحيدي.
-بداية الهداية، الغزالي.
-أدب الدين والدنيا، الماوردي.
-الأدب الصغير، ابن المقفع.
-رسائل إخوان الصفا.
– الصداقة والأصدقاء في الشعر العربي.
-متطلبات الصداقة، محمد هادي.
-عيون الأخبار، ابن قتيبة.