“تأنيسُ الإلهيّ”: أديانُ ما بعد الحداثة تجوب بلاد المسلمين

1٬440

غداة كل مرّةٍ يموت فيها مُلحدٍ يَشهدُ على نفسه بالإلحاد وعدم الإيمان بالله، ويُشهد الآخرين على ذلك من خلال مواقفه وأحاديثه وتغريداته، وربّما مؤلفاته ومقابلاته التلفزيونية، تتجدّدُ معارك مواقع التواصل الاجتماعي في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، بجواز “الترحّم” عليه من عدمه، فيذهب بعضهم إلى جواز طلب الرحمة له، فيما يرى آخرون بأنها لا تجوز. يُمكن هنا استذكار “هوكينج” مثلاً، أو سارة حجازي الناشطة النسويّة التي ماتت منتحرة موخرًا.

وبالرغم من استدعاء الإطار الفقهيّ في المُداولات التي تُجرى، وتوظيف النصوص الشرعية من خلال إعمال الأدوات الأصوليّة في فهم المسألة لاستخلاص “الحُكم الشرعي”، تبدو تلك المحاولات بعيدةً عن المجال الذي تنتمي إليه طروحات مَن يُجيز الترحّم عموماً؛ فهو يستخلصُ الحُكم بعيداً عن دوائر الاشتغال الفقهيّ – الأصوليّ. فإذا لم تكن المسألة اجتهاداً فقهياً، فإلى أيّ إطارٍ تنتمي؟

ابتداءً، لا بُدّ من ملاحظة أن مَن يجيزون “الترحّم” يستندون إلى محاولة الفصل بين عمل المرء في الدنيا، وبين مصيره الأخرويّ! ويُبرّرون ذلك بأسبابٍ مُختلفة، منها أن موقفُ المرء في باطنه موكولٌ إلى الله، ولا يُمكن الكشف عنه ولا معرفة حقيقته بوصفه غيباً لا يمكن الاطّلاعُ عليه.

الفصل بوصفه أداةً من أدوات ما بعد الحداثة

يُشير المفكّر المغربيّ طه عبد الرحمن في كتابه “بؤس الدهرانيّة” إلى أن من أبرز الآليات التي توسّلت بها الحداثة في إقامة مشروعها الدنيويّ “آلية تفريق المجموع” أو “آلية فصل المتصل”، وهكذا فقد شرعت الحداثة بمشروعات الفصل لتُعطّل قانون الدين عن مجالات الحياة الحيوية، ففصلت بين الدين والعلم، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والأخلاق. يُطلق طه على أشكال الفصل المُختلفة “الدُنيانيّة“.

ولما كان العقلُ فعلاً إدراكيّاً، وليس ذاتاً مُدركة، جاز القول بأن عقل الحداثة ليس عقلَ ما قبل الحداثة، ولا عقلَ ما بعدها، لأن الأفعال يغلب عليها التغيُّر، بينما يغلب الثبات على الذوات. يستطردُ طه عبد الرحمن باعتبار أن عقل ما قبل الحداثة، يصلُ الأشياء ببعضها ويعمل على تركيبها بُغية فهمها، فبقدر ما تصل الأشياء ببعضها بقدر ما تعقلها. وهو ما يفيده معنى “عقل” في معاجم اللغة العربية بل وحتى في اليونانية، إذ يعني العقل “الجمع“. لكن عقل الحداثة اختُصّ بأن يفصل الأشياء عن بعضها ليفهمها، فبقدر ما تفصل بقدر ما تعقل! فيكون عقل ما قبل الحداثة هو عقل “الوصل“، ويكون عقل الحداثة عقل “الفصل“. أما عقل ما بعد الحداثة فاختُصّ بأن يبلغ بهذا الفصل إلى مُنتهاه، حتى يطال التفكيك كلّ شيء.

وفيما نحسب بأنّ هذا سيكون مدخلاً جيّداً لإدراك مرامي الخطاب الذي يفصلُ بين حال مَن يموت مُلحداً في الدنيا، وبين مآله في الآخرة! لأن مسألة الفصل هنا، هي آلية من آليات ما بعد الحداثة في تفكيك المرء، والقطع بين حاضره الدنيويّ ومُستقبله الأخرويّ، وبالتالي نُدرك أن استدعاء المُقاربة الفقهية في تناول المسألة، على غرار ما يُستدعى من نصوص “هل شققت عن صدره”؟ ليست مفتاحاً لفهم الإشكال مُطلقاً، ولا مدخلاً لتناوله، لأنها اشتغال بأداة فقهيّة – أصوليّة ضمن سياقها الدينيّ في معالجة ظواهر في سياق ما بعد حداثيّ.

“تأنيسُ الإلهيّ”.. السعيُ نحو دهرَنة الدين

وإذا ما أدركنا سياقات الاعتراك ومضامينه المُضمرة في جواز “الترحّم” على مَن لم يمُت مؤمناً، بات ضرورياً الانتقال إلى مربع آخر من مربعات المسألة، فليس الأمر حكراً على “آليّة”، وإنما هو استنادٌ إلى فلسفة مُعاصرة حاولت التأسيس لـ “تأنيس الإلهي“.

تنطلق رغبة الفيلسوف الفرنسي المُعاصر “لوك فيري” بوضع أُسس “الناسوتيّة الثانية” استئنافاً لـ”الناسوتيّة الأولى” لرفع التحديات الأخلاقية والروحانية، بعد أن تقطّعت السُبل بالناسوتية الأولى التي نشأت مع النهضة الأوروبية ورسخت مع فلاسفة الأنوار، وازدادت رسوخاً منذ الثورة الفرنسية بفضل إقرارها بحقوق الإنسان إلى أن جاء عهد التفكيكيات التي هدمت المُثل التي قامت عليها الناسوتية الأولى.

يُفرّق “فيري” بين الديني الفلسفي والديني التاريخي، فالأولُ دينٌ باعتباره استعداداً ما-ورائياً، مُلازماً للإنسان لا ينفكُّ عنه، وأما الديني التاريخي فهو الدين بوصفه تنظيماً اجتماعياً وسياسياً مرتبطاً بلحظة تاريخية مخصوصة. غير أن هذا التنظيم لا تزالُ آثارهُ تضمحّلُ حتى يغدو ماضياً لا يعود، بسبب ما يُطلق عليه “فيري” “تأنيس الديني”، الذي يعمل على تدهير الدين بإخراج كلّ ما هو إلهيّ إلى ما هو إنسانيّ.

عند هذه النقطة تحديداً، يمكن إدراك فلسفة الخطاب الذي يوظّف آلية الفصل بين المرء في الدنيا ومآله في الآخرة، ذلك أن ما بعد الحداثة عملت على “تأنيس الإلهيّ”، وَسَعَت إلى دهرنة الدين، فأخرجت كلّ ما هو إلهيّ فيه، إلى ما هو إنسانيّ، وبناءً على هذا التصوّر تُصبحُ “الرحمة” قيمة إنسانية حداثيّة، لا قيمة إلهيّة شرعية! لأن “تأنيس الإلهيّ” يقوم على حفظ المعاني الوجدانية جزئياً، ويُلغي المباني الشعائرية. وفقاً لـ”طه عبد الرحمن”.

يؤكد “فيري”، بأن الفكر الفلسفيّ ساهم بقوّة في هذه الدهرنة، فقد ظلّ يعمل على نقل هذه المعاني الميتافيزيقيّة والقيم الأخلاقية التي تضمّنتها الأديان إلى لغة العقل، ولذلك يعتبر أن إعلان حقوق الإنسان ليس في أكثر الأحيان شيئاً آخر عن مسيحيّة مُدهرنة ومُعقلنة!

بحسب لوك فيري فقد كان للمسيحية عظيم الأثر في “تأنيس الإلهيّ” بما لا يُقارن بغيرها من الأديان الأخرى. ورغم صحة قول فيري عامّةً؛ لكن يحسُنُ بنا هَهنا الالتفات إلى إشارة الفيلسوف الألماني-الأمريكيّ “بول تيليش” في أنّ اليهوديّة سبقت المسيحيّة في إذكاء هاته النزعة عبر عقيدة “شعب الله المختار“.

يسوق “فيري” للتدليل على ذلك غير واحدٍ من أقوالٍ وأفعالٍ منقولة عن المسيح عليه السلام؛ مثل تمييزه بين “عالم الإله وعالم قيصر“، واعتماده على روح النصّ لا على ظاهره، وإحالته على باطن الإنسان في واقعة الزنا المعلومة. تبدو هذه الأخيرة مُشابهة للخطاب الذي يدعو إلى الإحالة على باطن مَن يموت مُلحداً بعيداً عن حاله الدنيويّ الذي يدعو ويجاهر بالشذوذ والإلحاد.

الرؤية القرآنية تجاه “تأنيس الإلهي”

ذكر المُفسّرون في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، أن مُشركي قريش كانوا قد عدلوا بأسماء الله تعالى عمّا هي عليه، فسمّوا بها أوثانهم بعد الزيادة والنقصان، فاشتقّوا اللاّت من الله، والعُزّى من العزيز، ومَناة من المنّان.

فالإلحادُ لغة: هو العدولُ عن الحقّ وإدخالُ ما ليس منه فيه، ولئن كان أولئك قد عدلوا بأسماء الله تعالى عمّا هي عليه في مبنى اللفظ، فإن ما هو أخطر، أن تَعدِلَ ما بعد الحداثة عن أسماء الله في معنى اللفظ، فَتُؤّنِّسَ الإلهيّ فيها، وتُقيم صرح ما كان “فيري” وغيره أمثال “أندريه كونت-سبونفيل” لإقامته من “روحانيّات دهريّة”، فتجعلَ من الرحمة قيمة إنسانيّة، تتخرّج عن إعلان حقوق الإنسان، لا من حيثّ نصّ الشرع والقرآن!

وبذلك، فإن ما بين مظاهر الشرك في العصور الغابرة، وما بين مظاهر دهرنة الدين في عصور ما بعد الحداثة كبيرُ صلة في محاولة الإلحاد، الذي يعني العدول عن الحق فيما جاء به الدين من تصوّرات ومبادىء وقيم، إلى صورة مُحرّفة باستدخال الرؤى الإنسيّة وتصوراتها لمزاحمة الدين.

إن إشارة القرآن الكريم إلى الإلحاد في أسماء الله، مسألة ينبغي الالتفاتُ لها في سياق الاعتراك الحالي لاعتبارين: أولاً: على مُقتضى أن الدلالة اللغوية للفظ الإلحاد تتسعُ لكلّ أشكال الانحراف عن صورة الدين الفطرية، سواء أكانت تلك الانحرافاتُ انحرافاتٍ حداثية وما بعد حداثية، أو انحرافاتٍ ما قبل حداثية. ولذا فقد لفت ابن عاشور في “التحرير والتنوير” بأن الإلحاد الميل عن وسط الشيء إلى جانبه، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها، ولما كان وسط الشيء يشبه به الحق والصواب، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد. وهو ما قد يقال أيضاً على “دهرنة الدين” وسائر أدوات ما بعد الحداثة. ثانياً: على مُقتضى أن أسماء الله تعالى هي المدارُ في كلّ ما يجري في الكون من التدبير. فأسماء الله هي الألفاظ المجعولة أعلاماً على الذات بالتخصيص أو بالغلبة. فاسم الجلالة وهو (الله) علم على ذات الإله الحق بالتخصيص. و(الرحمن) و(الرحيم) اسمان لله بالغلبة، وكذلك كل لفظ مفرد دلّ على صفة من صفات الله، وأطلق إطلاق الإعلام نحو الرب، والخالق، والعزيز، والحكيم، والغفور. وبالتالي فإن مدار كلّ ما في الإسلام مُعتقداً وتشريعاً لا يخرجُ عن أسماء الله تعالى وصفاته.

وليس من شكّ أن تأويل الرحمة بما هي صفة للرحمن على مُقتضى ما بعد حداثي إنما هي محاولة من محاولات “تأنيس الإلهي”، ومحاولة إيجاد “روحانيات بلا دين” أو “أخلاقية بلا ألوهية”، وهذه كلها تأتي في سياق وضع أخلاق دهرية مستقلة، وهي لذلك ستنتظم في إطار العقل ما بعد الحداثي، “بإخراجها من سياقها الغيبي المتعالي إلى سياق مرئي غير متعال”، ومن خلال التفرقة بين الروحي والديني، بأن تكون الرحمة قيمة من قيم “الروحانيات الدهرية” لا من قيم “الروحانيات الدينية”.

“روحانيات بلا دين”.. مأزق إنسان ما بعد الحداثة في الحاجة إلى الدين

 إن بحث “ما بعد الحداثة” عن روحانيات بلا دين، يكشفُ عن مأزقها إزاء التعاطي مع شعور الإنسان بضرورة الروحانيات. فما الذي يبتغيه مُلحد من إقرار “رحمة” من نوعٍ ما، وأين تُصرّفُ هذه الرحمة إلم يكن هناك يوم آخر في نظره؟ ألا ينطوي هذا على تناقض صارخ؟

لقد اضطر مُفكّرو الحداثة وما بعدها، إلى الإقرار باستثناء الروحيات من معول هدم الديني، وجعلوها أمراً مُستقلاً عن الديني، يتساءل طه عبد الرحمن في “بؤس الدهرانية”: كيف يُعقل أن تهرع الحداثة إلى الروحانيات؟ وهي بالأمس قامت على أنقاضها، إلا أن تُنكر نفسها، منقلبة على ضدّها؟

انتبهت الحداثة إلى ذاتها في الانقلاب على ذاتها فيما قامت عليه من مبادىء، وأرادت أن تتخفّف من التناقض في مشروعها، فأوجدت لذلك محاولة خلاصٍ من خلال “هابرماس” الذي رأى أن الحداثة مشروعٌ مفتوحٌ، أو أنها مشروع غير مكتمل، ولذلك ستبقى الحداثة مفتوحة على مسار متواصل ولانهائيّ من التحوّلات، حتى وإن أنتجت نُسخاً مُشوّهة باعتبار ما هو لا-فطري كاللواطة والسحاق، أمراً مقبولاً في سياق ما بعد الحداثة.

على أيّ حال، يكشف السعي لتأسيس “روحانيات دهرية” بعيداً عن الدين، عن مأزق الحداثة وما بعدها في التعاطي مع فطرة الإنسان بما هي دين، ولذا فقد حاولت التكيّف بمزاحمة الدين لتعبئة الفراغ الذي يشعر به إنسان ما بعد الحداثة وإيجاد “روحانيات دهرية” تُطفىء لظى تخوّفاته وتستجيب لرغباته التي تُلحُّ عليه باليوم الآخر ومُقتضياته!

لا تبتعد مساعي إيجاد “روحانيات دهرية” عن محاولات سابقة لإيجاد “الدين الطبيعي“، ذلك الذي سيطر على ساحة نقاشات المفكرين لمدة تناهز ثلاثة قرون، ولم يتراجع إلى حدّ الاضمحلال إلا منذ فجر القرن العشرين. ولئن علّل طه عبد الرحمن تراجعه بترسّخ مفهوم “الدنيانية” الذي يحمل مضموناً يشترك في بعض جوانبه مع مضمون الدين الطبيعي. إلا أننا نرى بأن إيجاد “روحانيات دهريّة” في مشروع ما بعد الحداثة، هو استئنافٌ لفشل “الدين الطبيعي” في مشروع الحداثة في تلبية حاجة الإنسان الفطرية.

____________________________________

المراجع:          


1- طه عبر الرحمن، بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014.
2- لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، ترجمة: محمد هشام، دار افريقيا الشرق، 2002.
3- بول تيليش، بحثي عن المطلقات، ترجمة: ناصر مصطفى أبو الهيجاء، دار الرافدين، 2020.
4- محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسيّة للنشر، 1984.
5- يورغن هابرماس، الخطاب الفلسفي للحداثة، ترجمة: حسن صقر، دار الحوار للنشر، 2019.
6- Andre Comte-Sponville, The Little Book of Atheist Spirituality, penguin publisher, 2008