خير أمة أخرجت للناس

301

عندما نقرأ قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، نعلم من سياق الآيات أن المراد بهذه الأمة هم الجيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد خاطبت الآيات المؤمنين قبل هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، وكذلك خاطب سبحانه وتعالى ذلك الجيل المبارك: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.

وقد فهمت هذه الشهادة بالخيرية بطرق مختلفة متفاوتة، ولا بد من مناقشة ما فهمه المسلمون من مقتضيات هذه التزكية الربانية لتعود الأمور إلى نصابها من التوازن والاعتدال.

درج كثير من الوعاظ والخطباء على اعتبار هذه الآية وصفاً بالخيرية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لمجرد الانتماء والانتساب. فلا بد من الحذر والتحذير من الخطاب الديني الذي يتخذ مثل تلك الشهادة من رب العالمين مادة للتخدير والإلهاء والغفلة عن الإعداد والاستعداد والجدية في القيام بالواجبات والتكاليف لنيل فضيلة التشريف.

 ولهذا نبّه كثيرٌ من المفسرين إلى أهمية اعتبار شروط الخيرية المذكورة في الآية. فقد نقل الشيخ القاسمي في تفسيره ما رواه ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى من الناس تكاسلاً، فقرأ هذه الآية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم قال: من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها. ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: هذه الخيرية لها مواصفات وعناصر {تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ}. فإن تخلف عنصر من هذه العناصر، انحلت عنكم الخيرية، فالخيرية لكم بأشياء هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإيمان بالله. وأما الشيخ ابن عاشور رحمه الله فيقول:أي حصلت لكم هذه الخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان والدّعوة للإسلام وإقامته على وجهه والذبّ عنه النقصانَ والإضاعة.

ومن جهة أخرى، يقرر علماء مصطلح الحديث أن هذه الآية الكريمة تدل على أن الصحابة كلهم عدول. فهم الذين شهد لهم الله سبحانه وتعالى بالخيرية والسبق والفضل. فعلم الرجال والجرح والتعديل لا يتوقف عند جيل الصحابة لمناقشة أحوالهم فهم عدول يستوفون بصحبتهم شروط الصدق والقبول لما رووه بلا تحفظ.

وفي هذا المقام أرى من الضروري أن نستحضر ما ذكره الإمام الشاطبي في الموافقات من الفرق بين الأحكام الكلية والأحكام الجزئية. فهناك أحكام وقضايا كلية يمكن أن نثبتها ونقيم الدليل القاطع على صحتها ووجاهتها، مثل حجية القياس والإجماع وحجية السنة، وعدالة الصحابة، فإذا جئنا إلى قياس في الاستدلال على مسألة ما كان ذلك القياس ظنياً ولا ينسب منكره أو من لم يقبل به إلى إنكار القياس من أصله. وكذلك لا يصح أن نتهم من لم يقبل حديثاً نبوياً من مرويات أحد الصحابة لتعارض وجده أو توهمه أنه منكر للسنة أو منكر لعدالة جيل الصحابة. فلا بد من التمييز بين الحكم الكلي وبين الحكم الجزئي. فعدالة الصحابة حكم كلي تشهد له الآية {كنتم خير أمة} لكن هذه الشهادة هي حكم كلي يجب أن لا يُفهم منها أن جميع أفراد الصحابة يرتقون إلى ما يشبه العصمة، بل العصمة هي لمجموعهم والصبغة التي صاغت حياتهم ومجتمعهم.

 ففي ذلك الجيل المبارك درجات من الفضل والسمو، وفيه ملامح ضعف وقصور إنساني نستشفه من الآيات التي نزلت للتوجيه والتعقيب على ما كان من الصحابة في مواجهاتهم مع الجاهلية من حولهم لتربيتهم وتوجيههم.  {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، {إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].

ومن هنا لا بد أن ينتبه الدارسون والباحثون إلى ضرورة التزام الجدية العلمية في تطبيق قواعد نقد المتون ونصوص المرويات ولو أدى ذلك إلى ترك رواية عن الفضلاء لمعارضتها لقاعدة قرآنية كلية أو دليل أرجح. فنحن لا ننسب الصحابة الكرام إلى العصمة ولا نستبعد أن يصيبهم الوهم أو الخطأ والنسيان الإنساني. وليس في رد الرواية لدليل أقوى طعن في جيل الصحابة أو قدح في عدالتهم وسبقهم وفضلهم. ومن الضروري أن نعلم أن الذين يقومون بالترجيح بين الأدلة هم أهل المعرفة والاختصاص. أما من لم يكن منهم فلا بد من أن يحذر من الخوض في نقد الروايات والأحاديث أو الطعن في الصحابة أو انتقاصهم بغير علم.

وقد تورّط متأخرو الشيعة في شناعة انتقاص الصحابة وحصروا شهادة الآية الكريمة في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم مع استثناء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الشهادة بالخيرية بطريقة انتقائية مزاجية اعتباطية، وتجاهلوا ما كان لجيل الصحابة بمجموعه من البذل والجهاد لنشر دين الله وتحقيق النموذج القدوة.

ولا ندري إلى أين يصل افتراء الكذب على الصحابة الأبرار بالشيعة المتعصبين الذين يتورطون في موالاة أعداء الأمة ويغربون في اختراع وسائل تشرذمهم وانسلاخهم عن جسم الأمة. وقد أنصف ابن القيم رحمه الله عندما وصف الذين يستسهلون سبّ الصحابة وانتقاصهم بأنهم شرّ من اليهود والنصارى، فقال: لو سألنا اليهود من خير الناس بعد نبيكم لقالوا أصحاب نبينا، ولو سألنا النصارى من خير الناس بعد نبيكم لقالوا أصحاب نبينا، ولو سألنا الشيعة المتعصبين من شر الناس بعد نبيكم لقالوا أصحاب نبينا. وقال ابن القيم في موضع آخر من “زاد المعاد”: “ومن ظن بالله أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطاً مستقراً دائماً في حياته وفي مماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية وظلموا أهل بيته وسلبوهم حقهم وأذلوهم وكانت العزة والغلبة لأعدائه وأعدائهم… ثم جعلوا أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة، فقد ظنوا بالله أقبح ظن وأسوأه”. (ص 221)

إن شهادة الله سبحانه لذلك الجيل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية هي حكم كلي جماعي يدلّ على أن هذا الجيل بمجموعه قد أدى مهمته الكونية التي أوكلت إليه. لقد تمثل هذا الجيل بمجموعه وأغلبيته قيم الوحي وعاشها وشعر بنعمة الله عليه بها، فساح في الأرض يبلغ الدعوة ويضرب المثل الصالح الذي يغري بالاقتداء ويتربّع على قمة أخلاقية ربانية سامقة تجاوبت الفطرة الإنسانية معها فدخل الناس في دين الله أفواجاً.

ومن المدهش حقاً أن يرى المرء العرب الذين كانوا يفتخرون بالأنساب ويقيمون وزناً كبيراً لشرف الانتماء إلى القبيلة، وتدور حياتهم وشعرهم وثقافتهم حول مآثر ذلك الانتماء، يتمثلون قيمة المساواة الإنسانية ويتمثلون معيار الكرامة القرآني {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] بشكل يبرز سابقة تاريخية وقمة سامقة تتشوف الإنسانية إليها على مدى العصور.

ذكر عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد دعاه عيسى بن موسى وكان من أمراء بني العباس وهو ابن أخي أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس، قال: دخلت عليه وكان شديد العصبية للعرب. فقال: من كان فقيه البصرة؟ فقال ابن أبي ليلى: الحسن البصري، قال ثم من؟ قال: محمد ابن سيرين. قال فما كان هذان؟ قال: من الموالي. قال فمن كان فقيه مكة؟ قال: عطاء بن يسار ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار. قال فما كان هؤلاء؟ قال: من الموالي. قال: فمن كان فقيه المدينة؟ قال: محمد بن المنكدر وزيد بن أسلم. (وهم من طبقة شيوخ الإمام مالك) قال فما كان هذان؟ قال : موليان. قال فتغير لونه. قال فمن كان فقيه قباء؟ قال : ربيعة الرأي وأبو الزناد. قال فما كان هذان؟ قال: من الموالي. قال : فاربدّ وجهه. قال فمن كان فقيه اليمن؟ قال: طاووس وابنه ووهب بن منبّه. قال فما كان هؤلاء؟ قال : موالي. قال فتغير لونه وانتصب قاعداً. قال فمن كان فقيه خراسان؟ قال عطاء الخراساني. قال فما كان هذا؟ قال مولى. قال : فازداد وجهه تربداً. قال فمن كان فقيه الشام؟ قال مكحول. قال فما كان مكحول هذا؟ قال : مولى. قال فاسود وجهه اسوداداً حتى خفته. فقال من كان فقيه الكوفة؟ قال ابن أبي ليلى: ولولا أنني خفته لقلت الحكم بن عيينة وعمار ابن أبي سليمان، ولكن رأيت في وجهه الشر، فقلت إبراهيم والشعبي. قال فما كان هذان؟ قال عربيان. فقال الله أكبر و سكن جأشه.

لقد تبوّأ أبناء البلاد المفتوحة من الموالي مراكز القيادة العلمية والدينية في المجتمع الجديد لأنهم وجدوا أن العرب الفاتحين هم حملة رسالة ربانية عالمية وحملة هدي رباني يتعالى على تفاهات القهر والاستعباد. وإذا كان قول الخليفة عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” يمثل أحد القمم في تربية ذلك الجيل، فإن إقبال أهل البلاد المفتوحة (الموالي) على القرآن واهتمامهم بعلومه ولغته وكل ما يتعلق به هو أبلغ في الدلالة على نجاح الجيل الأول بجملته في مهمته لتقديم رسالة إنسانية عالمية تستقطب الناس دون تمييز للمشاركة في بناء حضارة عالمية بلسان عربي وثقافة قرآنية ونموذج تربية نبوية، فكان بذلك جديراً بشهادة رب العالمين بالفضل والخيرية.

ولو تصور أحدهم أن السكان الأصليين من قبائل الهنود الحمر في أمريكا تمكنوا بعد وصول المهاجرين الأوروبيين أن يكونوا الأغلبية في المحكمة الدستورية العليا وأن يصل بعضهم إلى مرتبة رئاسة الكنيسة في مدينة أو ناحية من النواحي، لما شك عاقل أن ذلك هزل وتندر بمصير أولئك المساكين الذين لم يتسع الضمير العنصري الغربي لوجودهم ولم يرَ فيهم إلا ما يستحق الإبادة والتدمير. وإذا كان المؤرخ توينبي يقول: “لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب” فقد أخطأ الوصف، فالفاتحون لم يخرجوا إلى الناس بهويتهم العربية بل كانوا أرحم ما عرفه التاريخ من الفاتحين لأنهم مسلمون بتربيةٍ قرآنيةٍ نبويةٍ ورسالة إنقاذٍ إنسانية لم تحركهم دعوى العصبية أو استعلاء العنصرية، فتلقت القلوب والعقول رسالتهم ونموذج حياتهم بالرضا والقبول.