زمن المذلولين

389

اسم الكتاب: زمن المذلولين- باثولوجيا العلاقات الدولية
الكاتب: برتران بادي
المترجم: جان ماجد جبور
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2015)


الإذلال الدولي هو “فرضٌ تسلطي لمكانة أدنى من تلك التي يتمناها فريقٌ لنفسه والتي لا تكون متطابقة مع المعايير المعلن عنها”. والإذلال الاستراتيجي هو تلك العملية التي تركز “على الحطّ من منزلة الآخر وعلى إفقاده مكانته درامتيكياً أكثر من التركيز على إعادة تحديد موازين القوة”. الإذلال نمطٌ لممارسة السلطة، إنه نتاج الحداثة… هذه التعريفات وغيرها زاخرة بكتاب برتران بادي
(Bertrand Badie) أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس: “زمن المذلولين، باثولوجيا العلاقات الدولية” (2016). حيث يحلل العلاقات الدولية من منظور علم الاجتماع، ومن خلال الأمثلة والمعلومات التاريخية يرسم لنا مسار اختلال العلاقات الدولية وتصاعد نشوء حالات مرضية في النظام الدولي ما ينعكس بشكل عنيف على الحياة الاجتماعية، خاصة وأن أبحاثاً حديثة ربطت بين الإذلال والعنف بوصفه ‑الإذلال‑ “خميرة النزاعات العنفية” في محاولة لتفسير تصاعد أعمال العنف في العالم.

في تحليله لظاهرة “الإذلال” الاجتماعية يُرجع “بادي” رسوخ الإذلال في النظام الدولي إلى ثلاثة عوامل: لامساواة تأسيسية، لامساواة مهيكلة، ولامساواة وظيفية. وتغدو مظاهر مثل؛ الإقصاء وإنزال العقاب والمضايقة أو توجيه الإهانة… أدوات الدبلوماسية الرسمية التي تحدد العلاقات بين الدول وتُستخدم باسم تفوق مكتسب بالتسلط والعنف.

ما يميز هذا الكتاب أنه يُرجع كل ممارسة وتطبيق في الحياة السياسة والعلاقات الدولية إلى أُسسها الفكرية لفلاسفة غربيين كان لهم أكبر الأثر في رسم قيم الغرب وأخلاقه. هذه الأفكار سيبقى أثرها المدمر جاثماً على العالم جيلاً بعد جيل وستساهم في زعزعة العالم وبؤسه، (على حد تعبير د. بنيامين وايكر في كتابه عشرة كتب أفسدت العالم).   

سنقف سريعاً على أجزاءٍ من الكتاب باعتقادنا أنها تشكل محور الكتاب، مع التنويه بوجود فقرات وأجزاء أخرى مهمة وجديرة بالوقوف عليها لفهم التصور الكامل لنشوء ظاهرة الإذلال الدولي وتطورها.

نادي الوحوش الباردة:

في عام 1840م عندما أحرق امبراطور الصين شحنات الأفيون التي كانت سفن ملكة بريطانيا فكتوريا تنقلها إلى بلاده من أجل إعادة التوازن التجاري لإمبراطورية الهند، شجبت الملكة هذا الفعل واعتبرته “إهانة لكرامتها الشخصية”، وأعدت حملات تأديبية لمعاقبة إمبراطور الصين الذي فَقَدَ ثلاثة من أبناءه بسبب الأفيون.

إن شعارات الانفتاح على الآخر مؤسسة على مبدأ “عدم المعاملة بالمثل”؛ فالمخدرات شرٌ بالنسبة للمجتمعات الأوربية ويجرّم من يتاجر بها، بينما هي خيرٌ إذا ما اشترتها مجتمعات أخرى. ولتحقيق هذا الانفتاح تُستخدم القوة ضد مجتمعات لا تهتم بالحداثة ومسيرة التحديث حسب المفهوم الغربي.

في القديم كانت الحروب أشبه بمبارزة سياسية عليا يتمايز فيها الغالب عن المغلوب، وفي الزمن الوستفالي الذي ثُبتت ركائزه في أوربا عام 1648م على شكل تعايش بين سيادات الدولة الوطنية تم تحديد علاقات القوة التي اقتصرت على عدد محدود من القوى المتشابهة والمتساوية، والتي ترتبط فيما بينها بوشائج عائلية وأسرية، وأصبحت اللعبة داخل حلبة تتصارع فيها النخب الحاكمة، بينما بقي كل من هو خارج هذه الحلبة، خارج اللعبة وفوقها مورس عليه الإذلال.

من هنا بدأت حكاية طويلة من الإذلال، ارتكزت إلى حملات تأديبية وأعمال نهب وسلب ومعاهدات غير متكافئة.

في القرن التاسع عشر كانت الأمور مرهونة بتسلط الأقوياء. مبدأ “القوة من أجل القوة” هو المقاربة الفضلى للواقع الدولي؛ فالقوة حددت نوع العلاقات الدولية الذي صنع أوربا وجزءاً كبيراً من الحداثة. وأصبحت الحياة الدولية معركة مستمرة لتحديد مكانة الدول، ورهينة مأزق دائم بين التسلط والفوضى.

فلاسفة عصر الإذلال العالمي:

من خلال استعراضه لتاريخ الأحداث السياسية الأبرز والدالة على نشوء ظاهرة الإذلال وتطورها يأتي “بادي” على ذكر أهم الفلاسفة الذين أسسوا لنمط الحياة المُذلة العامة والسياسية على حد سواء. حيث شكلت نظرياتهم الحجر الأساس الذي استندت إليه القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة فيما بعد.

ويبدأ المؤلف بطرح التساؤل نفسه الذي طرحه دوركهايم عن أسس النظام الاجتماعي للعالم في زمانه والذي شَهِد تقدماً صناعياً وانقلابات سياسية وعسكرية. فعالم الأمس يلقي بظلاله على عالم اليوم الذي اجتمع فيه كل ما يمكن أن يبلغ الإذلال ذروته؛ إنه عصر العولمة الذي يقسم ويجمع، يدمج ويميز، ينادي بالمساواة في المبادئ بينما يهدمها في الممارسات. وعندما يلج إلى عالم الفلسفة ليفسر جذور ظاهرة الإذلال في الفكر الغربي يجد أن الإذلال الدولي اليوم يتخطى أخلاق العبيد/ المحكومين والسادة كما عند نيتشه، ومشاعر الحقد للمحكومين كما عند شيلر. ويدلل على ذلك خروج “الربيع العربي” الذي يُعد نشيداً حقيقياً للكرامة المستعادة، ليثبت عدم الارتباط الحكمي بين مفهومي الإذلال والحقد.

عندما وجد روسو أن الإنسان في خروجه من الحالة الأصلية (الطبيعية) إلى الحالة الاجتماعية يقضي على غريزة البقاء والرأفة (لأنه ينفي الأخلاق ويعتبرها أمراً زائفاً أتت مع المجتمع البشري) مما يدفع بالإنسان إلى حالة من الغطرسة يسعى فيها إلى تأمين وجود مميز له، فإن هذه الغطرسة والغرور ‑كما يقول الكاتب‑ هي عنفٌ يتلبس شكل الإذلال، لأن الإذلال في اللعبة الدولية هو نوعٌ من استراتيجية سيطرة أو بقاء. وهو تماماً ما ترتكز إليه السياسات الخارجية المتنافسة؛ فنجاح أي امرئ مرتبط بمقدرته على إذلال الآخر، وقوة أي امرئ لا تثبت وجوده إلا بالحطّ من قدر الآخر والمتمثل اليوم بمظهر “الأُبهة الدبلوماسية” و “القوة العسكرية”، مجالا التأثير في الأمم الأخرى. يوهان فيخته بأفكاره الممهدة لفلسفة هيجل يرى أن الغيرية والمواجهة مع الآخر مصدر الحرية الأساس التي يحملها كل شخص. وهو ما أكد عليه هيجل الفيلسوف الألماني حين صور الوضع البشري على أنه صراعٌ يسعى فيه كل امرئ إلى انتزاع الاعتراف من الآخر؛ بين المتشابهين والمنتسبين إلى لون واحد بالطبع.

تحولات القوة هنا تتجه نحو التطرف والإذلال والانغلاق والرفض بدلاً من أن ترسي القوة التوازن. يضرب “بادي” مثالاً على ذلك مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية أو مجموعة الدول الصناعية الثماني… (أو غيرها من المجموعات كما يحلو للعبة الدولية الخروج علينا بمسميات مختلفة)، فأن تكون عضواً في هذا النادي أو هذه المجموعة إنما هو تأكيد على إقصاء الآخر وترسيخ فكرة أنه غير مقبول به إلا بمنحة كرم من هؤلاء الأعضاء.

فكرة الأمم المتحدة تُنسب إلى فرانكلين روزفلت الذي كان يريد “أمماً متحدة” شرط أن تكون منظمة المنتصرين، لا بل المنتصر. فابتكر صيغة يحظى التداول الجماعي للأمم المتحدة برضى القوى العظمى الخمس التي اُعتبرت منتصرة في عام 1945، فنشأ مفهوم “عضو دائم في مجلس الأمم” يتمتع بحق النقض “الفيتو”. ما أدى إلى تقسيم الدول إلى صنفين: الممسك باللعبة الجماعية، والدول الخاضعة لشروط الأولى. وعند بدء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي تحولت الحرب إلى حكم مشترك افتراضي ثم واقعي ما منح القوة العسكرية الكلمة الفصل. مثّلت هذه الثنائية القطبية نوعاً من الإذلال المعتدل بما أنه لا زال العالم كله يخضع لها بالتساوي. ولما أُجبرت روسيا على التخلي عن دورها في إدارة شؤون العالم، سعت ‑وتسعى‑ جاهدة للانضمام إلى لعبة جديدة لتحكم العالم من جديد ربما على العكس لزعزعة استقراره‑إن وجد.

من هنا تحديداً أصبحت الحرب (أو العنف) تحدياً اجتماعياً أساسياً، وسيادة الدولة وسيلة لبلوغ ذلك. وهذا يعني أنه لما كانت السيادة ضرورية للأمن فما من أحد يمكنه أن يحدّ منها، وعليه يظل المتصارعون في مواجهة مستمرة. وبقاؤهم مرتبط بقوتهم وبقدرتهم على تحقيق التوازن بينهم، والحرب وحدها هي من ستحدد الوضيع الذليل في هذه اللعبة. فكرة الدور الوظيفي للحرب أتت مع هوبز (صاحب فكرة الصراع بين الأقوياء والتنافس بين المتصارعين الكبار)، فبما أن الإنسان غير طيّب في طبيعته ولديه غرائز عدوانية ووحشية، فإنه من البدهي استخدام هذه الغريزة ليحافظ على بقاءه ومن ثم فإن الجماعات السياسية تحتاج إليها كي تكون موجودة لا معترف بها وحسب. الحرب هنا وسيلة لخدمة السياسة بما أن حالة السلم غير طبيعية والسياسة بدورها تقرر من سيكون العدو.

في القرن العشرين ومع كارل سميث، انتهت الحرب كوسيلة وظيفية وانتقلت من “حرب واقعية” يقتصر عنفها على الجنود إلى “حرب شاملة” لا تفرق بين المدنيين والعسكريين. فسميث يعلن عن هذه الحرب لحظة شعور المجتمعات بالإذلال ودخولها في رقصات الموت التي تتسبب بها الحروب. انتقل العالم إذن من “الحرب الوظيفية” المراعية لنظام الفروسية والتي لم تتعد الأعمال العسكرية ضمن الحدود دون تمزيق المجتمعات وبممارسة ضيقة للإذلال إلى “حرب مدمرة” فُتح الباب لانضواء كافة أنواع المرتزقة تحتها. وأصبحت الحرب وسيلة للتخلص من الأمراء باسم الشعوب أولاً وباسم الفتوح ثانياً، ما أدى إلى توريط المجتمعات للتوجه إلى حرب “مطلقة” كالحروب التي رافقت الثورة الفرنسية والحكم الإمبراطوري (نابليون الأول). حتى أن مفهوم “الحرب العادلة” التي لا تكون إلا بواجب الإغاثة في وجه المعتدي الظالم، تغير في عصر النهضة ومع ميكافيلي الذي أعطى الدولة وحدها الحق في تقدير شرعيتها وقانونيتها. “إن الحرب ضرورية بالنسبة لمن يراها ضرورية” والأمير في حاجة إلى الحرب كي يستمر وينمي قدراته العسكرية، والشر مهما بلغ مداه وفظاعته مبرر ومقبول بما أنه سببٌ للمنفعة. وبينما انتظر كانط السلم الدائم من تجربة الحرب الضرورية، ربط روسو هذه الضرورة بالوضع الاجتماعي.

وعلى سبيل المثال، كما يشير بادي تتحرك آلة الإذلال حينما يتم تصوير عملية شنق صدام حسين الذي يُقدم على أنه هتلر الشرق الأوسط ويُلف تمثاله بالعلم الأمريكي قبل تدميره. إنها حرب تحولت من إبراز القوة إلى التجريم والإلغاء والحط من مكانة الآخر… إنه الإذلال.

وباتت الدعوى بواجب دفع الأمم المتوحشة إلى تبني مبادئ أخلاقية أكثر تحضراً تخفي وراءها طمع ووحشية الآخرين. ويتحول الاستبداد إلى “نمط مشروع في الحكم حينما يتعلق الأمر بالبرابرة” كما عند ستيورات مِل الذي جعل من حرب الأفيون “حملة من أجل حرية التجارة، ومن أجل الحرية بحدِّ ذاتها”.

هذه الأفكار وغيرها سوف تلقي بظلالها طويلاً على النظام الدولي واستراتيجيته في استخدام الإذلال.

عولمة الإذلال:

بعد التغير الضخم الذي أصاب المجتمعات، لم تعد السياسة ميداناً للصراع بين الوحوش الباردة، بل حُرمت النخب الحاكمة من الانفراد باللعبة. العجز عن إدماج الصغار والضعفاء والدخلاء ومهمشي النظام العالمي ومحدثي النعمة، ومع جهل الدول أو تجاهلها لمقومات المجتمعات الاجتماعية، ثم الولوج إلى فضاءات التجارة العالمية وثورة الاتصالات… أصبح كل العالم مرتبط بكل العالم، وغدا أرضية صالحة لنشوء ظاهرة اجتماعية جديدة عُرفت بـ”الإذلال الدولي”. هذا النظام الدولي فرض بالقوة القيم الوستفالية القديمة على الذين أنكروها، كمسألة حظر امتلال الأسلحة النووية (أو الصراع على امتلاك قوة الفضاء كما نسمع اليوم بين أمريكا وروسيا والصين) على فريق وتجويز امتلاكها لآخر.

يزخر الكتاب بالأمثلة عن وجوه الإذلال في العالم إلا أننا نكتفي بالوقوف على المفارقة الكبيرة التي يصورها الكاتب بين الإعلام الغربي وبين إعلام عالم الجنوب أو دول العالم الثالث. فبينما نشاهد امرأة فلسطينية محتجزة على إحدى نقاط التفتيش وهي على وشك الولادة، وحيث يشاهد العراقيون (والعالم كله) أفظع الانتهاكات في سجن أبو غريب، وذلك الأفغاني يشاهد جنوداً أمريكان يبولون على جثث ثلاثة أشخاص من طالبان (2012). وبينما ‑أضيف بدوري‑ يتابع السوريون والعالم أجمع وفي كل دقيقة منذ 2011 صور وأخبار عشرات الجثث المقطعة الأجزاء المنتشلة من تحت أنقاض براميل الأسد وآلاف المنتهكين جسدياً وروحياً في سجون الأسد… فبينما نشاهد ونتعايش بذلّ مع كل هذه المشاهد، تحرص كل محطات التلفزة الغربية على تذكيرنا أنه ولأسباب تتعلق باحترام “الكرامة الإنسانية” عند وقوع حادثة مأساوية تدمي قلب أوربا وأمريكا الشمالية أنه من غير الملائم إظهار صور الجثث والضحايا. هذه الانتقائية للمشاهد لا تنم إلا عن انحطاط أخلاقي: إنه الوجه الآخر للإذلال.

ولا ينسى الكاتب أن يعرّج على اللحظة الحرجة في تاريخ العلاقات الدولية منذ 11 أيلول 2001 والتي دخل فيها الإسلام إلى دائرة السياسة الخارجية، تحت المسمى الضبابي عمداً الذي عُرف بـ”الإسلاموية”. ولأنها مرحلة إعلان لحرب غامضة وملتبسة ومغايرة للحروب الدينية المعروفة في التاريخ الغربي بين البروتستانت والكاثوليك المتصارعين بقوى من المستوى نفسه، كان لا بد أن تُربط هذه الحرب بألفاظ ودلالات جديدة تقدم وصفة جاهزة وأحكام مسبقة لا تحتاج إلى أي تفكير أو تحليل من قبل الرأي العام، مثل هذه الألفاظ: “إرهاب إسلامي” “فاشية إسلامية” و”إجرام سلفي”… إلى آخر هذه التراكيب اللفظية التي تصنف الآخر، وكل من يشبهه، ضمن العدو المحتمل للسلم والحق والديمقراطية. ومع إضفاء الطابع الاجتماعي للحروب وعلى العلاقات الدولية فُتح الباب أمام ما عُرف بـ”رهاب الأجانب” ومعاداتهم لمجرد مواصفاتهم الاجتماعية أو الثقافية والعادات والتقاليد واللغة والدين.

طريقان تقليديان لمواجهة الإذلال العالمي:

في طرف العالم الآخر لقوى النظام العالمي، وُجد طريقان لمواجهة الإذلال العالمي حسب الكاتب؛ إما تقليد هؤلاء الذين يمثلون اليد العليا أو الحفاظ على الهوية الوطنية التي ‑في رأيه‑ أدت إلى راديكالية صارمة. ويعتبر الكاتب أن النخب الفكرية لعبت دوراً مهماً في تعبئة الشعوب وحشدها لاختيار إحدى هاتين الطريقين. فالنخب الفكرية التي كان شعارها “يكفي تقليد من يحتقرك لتسكب احترامه” حصلت على برامج للبقاء وللصعود والانتشار الدولي، بل وأُعطيت لها الامتيازات في مقابل النخب التقليدية. النخب المتفرنجة لم تعتبر الغرب عدواً لها وأرادت تقليدها بشكل كامل، بل ولا بد من الذهاب إلى الغرب لتلقي العلوم والتعليم ووضع حد للانحطاط في بلادهم. هذا الانحطاط مرده إلى التنظيم المؤسسي ولا دخل للنظم الحاكمة أو السلطات، بل ويمكن الاعتماد على أفكار مونتسكيو وميثاق أورليان من أجل تحرير السلطة.

في المقابل كان هناك فئة نخبوية رأت أنها لن تستطيع بلوغ غايتها إلا على حدود “التطرف الديني”، على حد تعبير الكاتب. ويعتبر بادي أن التشدد الإسلامي كان الرد الثائر في وجه تغريب أقل ما يوصف بالمُذل، ويعرّج على بعض الشخصيات الإسلامية (مثل حسن البنا) التي اتخذت من “الوعظ الديني” مساحة للعودة إلى الذات وازدراء السياسة التقليدية والوسيلة للتمايز عن غربٍ لا يكف عن السعي للسيطرة، وفرض عولمة قذفت بمجتمعات العالم العربي إلى أجواء تتخطى فيها مشاعر التنازل والهيمنة والإذلال والإطار المحلي أو الوطني.

مجتمعات في مواجهة الإذلال:

هذا النظام من الإذلال غير المستقر والهشّ كما يصفه الكاتب، يعمل وعمل على إنتاج نظام آخر خارج دائرته، يتشكل من المطامح التفاعلية التي ينميها أولئك الذين يقعون ضحية الإذلال لتأمين البقاء والاستمرارية.

إن المجتمعات تفرض نفسها بوصفها ضابط الإيقاع الأساس للإذلال الدولي، والدبلوماسيات تتمايز بقدرتها على التشكل والتحرك في منطقة التماس بين المجتمعات والنظم السياسية المعنية. فللمجتمعات وزن بقدر ما تكون المؤسسات القائمة في البلد ضعيفة وهشة وغير متمتعة بالشرعية. وحينما يكون للحاكم توجه سياسي موالٍ للغرب هنا يجب التستر على الإذلال أو نكرانه كما كان في المحاولات الخجولة لانتفاضات حسني مبارك حينما كان أقرانه الغربيون يطالبونه بإجراء بعض الإصلاحات. ويفسر الكاتب أن الالتحاق بالجيش (كما فعل حافظ الأسد) والعمل النقابي ما هي إلا وسائط لإدارة عمليات الإذلال الفردية والجماعية الرمزية والمادية، ما يؤدي إلى تسييسها إلى أقصى الحدود. فالمؤسسة العسكرية بشكل خاص عززت من دورها بأن استعملت موقعها كوسيلة لممارسة السلطة وأداة ثابتة لصوغ السياسة الخارجية.

وفي حالات أخرى ‑في الدول العربية خاصة‑ يصبح القمع باسم “محاربة الإرهاب” هو الطريقة الوحيدة لاحتواء الضغط الاجتماعي… ونظراً لنبالة الهدف يمكن طلب المساعدة من الغرب والذي سيسارع بدوره إلى التعبير عن ثقته بهذه النُظم وينعم عليها وسم “المعتدلين”.

لم تكن للنظم العربية أي دور إلا كما رسمه الغرب؛ أداة لتأمين تسليم النفط، واحتواء موجات المهاجرين والسهر على أمن الحوض الغربي المتوسط وبشكل أكبر الحفاظ على أمن الدولة العبرية. وعندما انخرطت المجتمعات أكثر فأكثر في اللعبة الدولية التي كانت محدودة ومقتصرة على النخب الحاكمة للعالم، أدى ذلك إلى بروز أشكال جديدة من الإذلال ونشأت دبلوماسيات غير مسبوقة.

ورغم أن الكاتب لم يأتِ كثيراً على ثورة المجتمعات العربية إلا أنه أشار إلى التوافق الذي أُطلق على هذه الثورات باسم ثورة “الكرامة” التي مثلت الرد الحديث بل رد ما بعد الحداثة على الإذلال.

“الثورات العربية” حركة مجتمعية بالغة القوة وانتفاضة في غاية الشجاعة خسر فيها عشرات الآلاف أرواحهم الثائرة. هي حركة قلّ أن نشهد لها مثيلاً في التاريخ الإنساني، كما يؤكد الكاتب.

ونختتم جولتنا معه بالتأكيد على أن العالم لم يعد نتاج لعبة تجري في نادٍ مقفل بين وحوش باردة إنما هو حصيلة تداخل وقائع مجتمعية لم يعد في الإمكان اختزالها بـ”الرجل السيء” الذي يشدّ الخيوط من وراء الستارة. وأصبح العالم في أمس الحاجة إلى إدماج سبعة مليارات إنسان اجتماعياً من أجل تلبية المتطلبات الأمنية المستجدة، العالم الذي انقسم إلى مُمارِس للإذلال وإلى مُمارَس عليه الإذلال، هذا الأخير سرعان ما يجدد نفسه ويلعب الدور نفسه ليمارس الإذلال ويأخذ بالثأر. وسنظل ندور في حلقة مفرغة إلا من الإذلال إلى أن يخرج علينا حكمٌ رشيد أو تفنى البشرية.