سوسيولوجيا الإسلام

586

اسم الكتاب: سوسيولوجيا الإسلام

الكاتب: أرماندو سالفاتوري

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر (2017)

من مر على سيرة ابن خلدون، يجد فيها أمراً عجيباً، فقد استطاع هذا الرجل أن يتنقَّل بين عدة بلدان في العالم الإسلامي وأن يستمر بالمحافظة على دوره الوظيفي في كل مرةٍ ينتقل بها، فقد عمل في مراكز عالية المسؤولية في دول كان قد مر بها لأول مرَّة، واستطاع التكيف مع التنوع الاجتماعي بين هذه البلدان وبكل سهولة، سواءً في وسط العالم الإسلامي أم في غربه.

يشير ألبرت حوراني بعد عرضه لسيرة ابن خلدون إلى مسألة مهمة، وهي أن حياته تخبرنا عن طبيعة العالم الذي كان يعيش فيه، فبالرغم من تحول السلالات الحاكمة وتأزمها بين بعضها مع بعض في كثير من الأحيان، إلا أن ذلك لم يشكل حاجزاً أمام التنقل والشعور بالوحدة المجتمعية بين البلاد، فقد كانت منظومة الدين واللغة والمعرفة خيطاً ناظماً لهذه المجتمعات على اختلافها، بحيث يستطيع الفرد الانخراط بها بمجرد حمله لهذه المفاتيح التي صارت جزءاً من ميراث الأجيال.

نورد هذه الملاحظة لأنها شديدة الصلة بموضوع هذه المراجعة، فالإشارة التي نوَّه إليها حوراني تعبر عن خصوصية المجتمعات الإسلامية، وبالتالي الخصوصية التي يجب أن تُفهَم به، فهناك وحدة مميزة وطبيعة اجتماعية خاصة وواقع سياسي خاص ميَّز الفترة الأطول من عمر المجتمعات الإسلامية، وبالتالي فإن دراستها لا بد أن تنطلق من معايير جديدة.

ومن هذه النقطة تنطلق مقاربة أرماندو سالفاتوري في كتابه “سوسيولوجيا الإسلام”، والذي يحاول أن يجيب فيه عن سؤال كيف ندرس المجتمعات الإسلامية عن وعي ودراية بخصوصيتها.

سأركِّز في هذه المراجعة على المقاربات المنهجية التي يقيمها الكاتب، والتي ينبغي ‑من وجهة نظره ‑ أن تقوم عليها دراسة المجتمعات الإسلامية تاريخياً.

أولى هذه النقاط هي أنه لا يمكن الاكتفاء بتطبيق نظريات علم الاجتماع الغربية لدراسة المجتمعات الإسلامية، فنظريات علم الاجتماع نشأت ضمن سياق مختلف وخاص نوعاً ما؛ سياق يرتبط بالحداثة وتشكُّلها وما رافقها من تحولات وما تبعها من أزمات، كبروز المجتمعات الصناعية وتقسيم العمل والرأسمالية والعلمانية وغيرها، وهي تحولات ترتبط بالشكل الكبير بالسياق الغربي الحديث.

لذا سيكون من الخطأ الاكتفاء بتطبيق نظريات ماركس عن الصراع الطبقي أو نظرياته عن الدين لدراسة المجتمعات الإسلامية، فالسياقان مختلفان. أو تطبيق نظرية تقسيم العمل الخاصة بدوركايم وغيرها.

ولعل نقطة الافتراق الأولى بين السياق الغربي والسياق الإسلامي هو التصور عن الدين ذاته، فتصور الدين في السياق الغربي ارتبط بالمسيحية، وهذا الارتباط جعل مفهوم الدين مرتهناً بالمنظومة الكنسية، أي أن الدين موجود في الكنيسة، وهناك رجال دين يمثلونه، وما هو خارج الكنيسة فهو العالم العلماني، أي أن هناك فصلاً بين ما هو ديني (والذي تم حصره في الكنيسة) وبين ما هو دنيوي مرتبط بالحياة.

ولكن الأمر يختلف في السياق الإسلامي، حيث يصعب الفصل بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية، فالدين يوجِّه العمل الدنيوي ويسن له التشريعات ويملأه بالقيم، كما ينبغي أن يكون العمل الدنيوي شكلاً من أشكال العبادة. فالإنسان مستخلف في الأرض، وهذا الأمر هو الذي دعا علي عزت بيجوفيتش للتفريق بين الدين والإسلام، على اعتبار أن الإسلام يجسُّد مستوىً أعلى من الدين الذي يدور في العقل الغربي ويحيل للمسيحية.

وبناء على نقطة الافتراق هذه، ستتغير جميع الأمور المتعلقة بدراسة الدين في المجتمعات الإسلامية، مثل نظريات العلمنة أو العلاقة بين الدين والمجتمع أو الدين والسياسة، أو واقع العلماء في المجتمع وطبيعة دورهم، وموقع الفرد من الدين وغيرها من الأمور التي يمكن أن تُدرس.

وبالإضافة إلى ذلك، يخصص الكاتب مصطلح “المعمورة” ليصف الواقع الاجتماعي الذي خلقه الإسلام، ويقوم باختيار هذا المصطلح عن وعي. فهو مصطلح يتميز عن الحضارة التي قد ترتبط بأشكال محددة من التقدم الاجتماعي، ويتميز أيضاً عن مفهوم المجتمع، والمجتمع المدني تحديداً، فمصطلح المجتمع بهذا المعنى يشير إلى حالة مجتمع يقوم على التعاقد بين الأفراد، وهو تعاقد يقوم على أساس المصالح وحفظ الأمن وعدم الاحتراب الداخلي.

أما مصطلح المعمورة فيشير إلى ما هو أعمق من ذلك، ويعبر عن خصوصية هذا الواقع الاجتماعي، فالمقصود هو الإشارة إلى جسد الجماعة “العضوي” الذي يتجمع عبر عدة تجمعات محلية وعالمية، وتدل كلمة “عضوي” هنا إلى طبيعة الرابطة الاجتماعية التي تنتج التماسك المتشعب القائم على أبعاد روحية وأخلاقية أصيلة.

وتقوم المعمورة على مجموعة من الشبكات المحلية التي تغذي الحياة الاجتماعية من خلال ما تسنُّه من تشريعات وما تبينه من مؤسسات تلبي حاجات المجتمع، من التعاون والتعليم والصحة والعمل الخيري وتدبير الشأن العام.

هناك العديد من هذه الشبكات التي يشير إليها الكاتب، فمثلاً توجد مجموعات الأصناف وجماعات الحرفيين، وهو مجموعة من الناس الذي يحترفون حرفة معينة، ويتناقلونها عبر عائلات ممتدة، وتحظى بمستويات تراتبية تميز المبتدأ عن المحترف، والشيخ عن الشاب؛ وتبني هذه الجماعات شبكة من الأمان الاجتماعي والاقتصادي لأفرادها، وتفصل بينه وبين تعسُّف الدولة، وبالتالي تضمن حقوقه وأمنه، وفي الوقت نفسه، لطالما كانت ترتبط هذه الجماعات بالطرق الصوفية، فتتلاحم الطريقة الصوفية بالجماعة الحرفية وبالعائلة الحاضنة لهذه الحرفة.

كما هناك مؤسسة الوقف، والتي تنوعت خدماتها من العمل الخيري ورعاية الفقراء وحتى التعليم والصحة، فقد كانت مؤسسة اجتماعية قائمة على كفاية حاجات الناس، من خلال تبرعات الأغنياء التي تتجمع في المؤسسة الوقفية وتتحول إلى أشكال مختلفة من الخدمات الاجتماعية.

ومن باب الاستزادة يمكن الرجوع لوصف الدكتور وجيه كوثراني لهذه الشبكات في ورقته المعنونة بـ”بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني” المنشورة في مجلة التسامح.

ومن الضروري الوعي بأن هذه الشبكات تدعَّمت وقويت بعد ضعف الدولة، فعندما ضعفت الدولة عن أداء دورها ودخولها في موجات الصراع، وجد المجتمع نفسه في حاجة لفرض استقلاليته وكفاية نفسه، فكانت هذه الشبكات. وهذه إشارة مهمة تعبِّر عن خصيصة مهمة في المجتمعات الإسلامية، وهي قوة المجتمع في مقابل محدودية دور الدولة، وهو ما يتصل بمسألة الاتصال والروح الواحدة التي كانت تجمع المجتمعات الإسلامية، فبالرغم من التأزم في دوائر السلطة العليا والتبدُّل المستمر للسلالات الحاكمة بل والصراع القائم بين الدول، إلا أن المجتمع حافظ على وحدته الدينية والثقافية.

*** *** ***

هناك عدة كتاب ومؤلفين درسوا المجتمعات الإسلامية وبحثوا في واقعها وطريقة عيشها، وذلك على الرغم من قلَّتهم، وما تحدث عنه سالفاتوري في هذا الكتاب ليس جديداً بالكلية، ولكن ما هو جديد هو هذه المحاولة لصياغة مقاربات منهجية جديدة تؤسس لاشتغال معرفي خاص بالمجتمعات الإسلامية، بعيداً عن الانحيازات التاريخية التي تحدد العلوم الاجتماعية.

وفي الحقيقة فإن الحاجة التي يصدر عنها الكتاب تنطلق من حاجة أوسع وهي ضرورة الاشتغال في العلوم الاجتماعية ومحاولة صياغة رؤى ومنهجيات خاصة لدراسة واقع المجتمعات الإسلامية التاريخية والمعاصرة، لتشكيل فهم أدق لطبيعة التحولات التي مرت بها، ولإدراك موقعها من الساحة التاريخية اليوم.

*** *** ***