فلسَفة الحُبّ عند ابن حَزم الأندلسي

4٬436

كان ملاحقاً وتألبت عليه الخصوم، وبعد حياة الرغد والنعومة باتت حياته عنوان الحزن والمطاردة والفقر، وعلى الرغم من حنكته، وكثرة ما كتب، وتلوّن معارفه واهتمامه لم يُقدّره قومه حق التقدير، بل إنَّ كتبه أصابها الكساد والإهمال، في حين أنَّ المكتبات اليوم لا تكاد تخلو من مؤلفاته، ومجالس العلم والفقه لا تنأى عن ذكره وبيان رأيه، وكان هو الناقل عن التلمساني في نفح الطيب: “وأما جهتنا: فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر: أزهد الناس في عالم أهله.” وقد زهد به قومه وهو الشمس في جوّ العلوم منيرة. وكان إمامًا للقلوب، ذكر أحوال العاشقين، وحركات النفوس، وطبيعة العلاقات العاطفية والاجتماعية، إنَّه كما قال عنه إحسان عباس قام بدور السيكولوجي الاجتماعي، إنَّ بطل حديثنا في هذه المقالة الإمام ابن حزم الأندلسي وفلسفته في الحبّ النبيل.

التعريف بالمؤلف

أولًا: اسمه ومولده

هو الإمام الأوحد البحر ذو الفنون والمعارف كما وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء، أبو محمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدن ابن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن شمس الأموي، أصله من فارس، ولد بقرطبة في الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس في رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة[1].

ثانيًا: نشأته وعلمه

نشأ ابن حزم الأندلسي في بيئة زاخرة بالنعيم والترف، وكان أبوه من كبراء أهل قرطبة، وقد كان لنشأته في قرطبة التي كانت أكثر بلاد الأندلس كُتبًا دور في نشأته العلمية، مع كونه صاحب عقلية فذة، فعُرف عنه أنه كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، وقد أحسن النظم والنثر وأجاد النقل، وكان أديبًا شاعرًا طبيبًا عارفًا بالسير والأخبار والفلسفة، كما اعتنى بالمنطق، وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: “كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب، فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر، وكان متفننًا في علوم جمّة، عاملاً بعلمه، زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة، وجمع من الكتب في علوم الحديث والمصنفات والمسندات شيئًا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًا”[2]، كما أثر على علمه نشأته في كنف النساء؛ فقد قامت النسوة في القصر بتعليمه القرآن والأشعار والخط، وقد قال فيهن: “وهُنّ علّمنني القرآن، وروّينني كثيرًا من الأشعار، ودرّبنني في الخطّ، ولم يكن كدّي وإعمال ذهني مذ أول فهمي، وأنا في سن الطفولة جدًا، إلا تعرّف أسبابهن، والبحثُ عن أخبارهنّ، وتحصيل ذلك”[3].

ألف ابن حزم كثيرًا من المصنفات في العقيدة، والفقه، والحديث، والفرق، كما ألف في الطب، والمنطق والأدب، والفلسفة، وقد فُقدت العديد من مؤلفاته بسبب إحراقها، ومنها ضاع وفُقد بعد سقوط الأندلس، ومن أشهر مؤلفاته:

-الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع.

-طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف.

-جمهرة أنساب العرب.

-القراءات المشهورة في الأمصار الآتية مجيء التواتر.

-بيان الفصاحة والبلاغة.

-الفصل في الملل والنحل.

-رسالة في الطب النبوي.

“طوق الحمامة” دلالة الاسم وماهيّة الكتاب.

يُعدّ كتاب طوق الحمامة من أهم كتب ابن حزم الأندلسي، والذي حظي بشهرة كبيرة وذلك لأنه من الكتب التي كتبت في الحب، الموضوع الذي ندر التأليف فيه، كما كان لواقعيته وعذوبة ما فيه دور في احتلاله تلك المنزلة، وقد ألفه ابن حزم بطلب من صديقه الأموي الأمير عبيد الله بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله صاحب الأندلس، ومن الممكن أن يكون إحساس ابن حزم بالمسؤولية الأخلاقية تجاه مجتمعه من دوافع التأليف، وفي ذلك يقول الدكتور غسان عبد الخالق في كتابه “الأخلاق في النقد العربي من القرن الثالث حتى القرن السادس الهجري”: “لقد أقدم ابن حزم على تأليف “طوق الحمامة” إذن بدافع من الإحساس بالمسؤولية ولا يمتنع بعد ذلك القول بأن رسالة صديقه كانت الشرارة التي أوقدت حماسه…”[4]، وكان كتابه قائمًا على الأخبار التي يرويها عن نفسه ومما رآه أو على ما نُقل إليه من الثقات في عصره، ويمكن القول بأن الكتاب عرضٌ لطبيعة الحب في القرن الخامس الهجري، فقد ألفه سنة 1022 وكان آنذاك يبلغ الثامنة والعشرين من عمره، وربما في هذا تفسير لجرأة ابن حزم وصراحته في طرحه، وقد استهل كتابه بمقدمة شرح فيها سبب تأليف كتابه، ثم عرض أقسام كتابه وطريقته في التبويب، إلا أنه في حديثه في الأبواب راعى أحقية بعضها بالتقدم، فأحيانًا كان يورد الباب وضده.

سمى ابن حزم الأندلسي كتابه بطوق الحمامة في الألفة والأُلاف، وربما يكون لهذا علاقة بمحتوى الكتاب، يقول الثعالبي في ثمار القلوب: طوق الحمامة: يُضرب مثلًا لما يلْزم ولا يَبْرَحُ ويُقيم ويستديم، قال الجاحظ: قد أطبق العرب والأعراب والشعراء على أَن الحمامة هي التي كانت دليل نوح ورائده، وهي التي استعجلت عليه الطوق الذي في عُنُقها وعند ذلك أعطاها الله تلكَ الزينة، ومنحها تلكَ الحلية بدُعاء نوح عليه السلام حين رجعت إليه ومعها من الكرم ما معها وفي رجليها من الطين والحمأة ما فيها فعوضت من ذَلِك خضاب الرجلَيْن وَمن حسن الدّلَالَة وَالطَّاعَة طوق الْعُنُق”[5].

الألفة والأُلَّاف: أُلْفة: جمعها أُلُفات، مصدر ألِفَ بمعنى أحب وأنِسَ، وهي وشيجة ورابطة بين شخصين أو أكثر يُحدثها تجاذب الميول النَّفسيّة، وهي اجتماعٌ والتئام، وسهولة وأنس المعاشرة[6]، والأُلّاف جمع آلِف، جاء في المعجم الوسيط: أَلِفَهُ: أَنِس به وأَحبَّه، فهو آلِف، والجمع: أُلاَّف[7].

وربما كان لقول الجاحظ في الطوق: “ومن حسن الدّلالة والطَّاعة طوق الْعُنُق” علاقة بالتسمية فيمكن القول بأن دلالة الطوق الجمال والحُسن لأنه جَمَّل عنق الحمام وهذا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحب والألفة فالحب يُجمل النفس ويجمل لها الحياة أيضًا، كما أن عين المحب صاحب النفس الحسنة لا ترى إلا الحُسن والجمال في المحبوب وفي ذلك يقول ابن حزم: “وأما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أنَّ النفس حسنة وتولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئًا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة[8]، ومن الجدير بالذكر في هذه الجزئية أن معنى الحُسن والجمال عنده ليس حُسن وجمال الشكل فقط وإلا أصبح الحب شهوة، وإنما يقصد رؤية النفس للحُسن والجمال في نفس المحبوب فتتحقق بينهما الألفة وفي ذلك يقول: “ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة”[9]، وفي رؤية الجمال وتجاذب النفسين تحقيق لمعنى الألفة في “تجاذب الميول النَّفسيّة” وفي ذلك يقول ابن حزم: “ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية، لا بدّ من هذا وإن قلّ، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة.[10]

كما ارتبطت الدلالة بالطاعة وقد جعل ابن حزم في كتابه بابًا سماه “باب الطاعة” وهو من عجيب ما يقع في الحب كما قال: “ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسرًا إلى طباع من يحبه وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حميَّ الأنف، أبيَّ الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة ليانًا، والصعوبة سهلة والمضاء كلالة؛ والحمية استسلامًا[11]، وفي هذا بيان على أنَّ في الحب علاج النقص والعيوب، وارتباطٌ بمعنى الألفة في الاجتماع والالتئام، وسهولة وأنس المعاشرة.

وربما تكون علاقة العنوان بالموضوع ارتباطُ الألفة بالجمال والحُسن والطاعة بخفض الجناح للمحبوب بالمودة، فمن ائتلفت نفسه بنفسٍ وخفض جناحه لها وترك الإغلاظ واجتمع معها على كلمة واحدة أصبح الحب أوثق بينهما وظل قائمًا ومستديمًا وربما في هذا كلام الثعالبي، فالحب إذًا ما دام وثبت واستدام.

بين يدي كتاب “طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف”

لقد ذكر ابن حزم في كتابه حديثّا مطولاً عن ماهية الحبّ فيصفه من وجهة نظره، ويورد ماهيته، ويتطرق إلى حقيقة العشق الصحيح، وعلّة الوقوع في الحب، ومما ورد: وصف الحب: يقول ابن حزم بأن الحب أوله هزل وآخره جد، كما أن فيه معانٍ جليلة لا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وكان لعلمه بالفقه أثر في هذه الجزئية فبين حُكم الحب في الإسلام فقال: “وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله”، كما أورد أسماءً لبعض المحبين من أصحاب الشأن من خلفاء وفقهاء وأئمة وأخفى أسماء بعضهم، وإن صح القول فإن هذا من باب إنزال الناس منازلهم فلا يذكر ما في أخبارهم إلا ما فيه الحزم وإحياء الدين. ثم أخذ بالحديث عن ماهية الحب: والماهية هي الحقيقة، وحقيقة الحب عند ابن حزم بأنه اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.

وأما حقيقة العشق الصحيح: فيورد ابن حزم في هذه الجزئية حقيقة العشق وهو أحد درجات الحب، في كون النفس تسكن إلى النفس التي تمازجها وتجانسها في الجوهر وتتصل معها وتميل إليها، وما عدا ذلك من علل الحب من حُسن الصورة وموافقة الأخلاق وغيرها كلها أسباب تزول وتنقضي فينقضي معها الحب، ويظل الحب بمعناه الحقيقي في النفوس لا يفنيه إلا الموت، كما أورد حقيقة وجود التشابه والمشاكلة بين الحبيبين، فشبه النفوس بالحديد والمغناطيس يتجاذبان، وعندما تجد النفس من يشابهها تنهض نحوه وتنجذب بالطبع والضرورة وليس بالتعمد والاختيار، وكلما كثرت الأشباه برأيه زادت المجانسة وتأكدت المودة.

وعلة الوقوع في الحب كما يذكر ابن حزم أن الحب داءٌ إلا أن فيه الدواء، يسهل الصعب ويغير الطبائع، أما علته الميل إلى الحُسن المتقن الذي يجده المحبوب في نفس محبوبه داخل الصورة الحسنة وكأنه وجد هناك نفسه، أما الحب القائم على الصورة الحسنة فهو ضرب من الشهوة وليس حبًا خالصًا.

في الحديث عن علامات الحب: من علامات الحب إدمان النظر فالعين باب النفس المعبرة عن بواطنها، والإقبال بالحديث فيحدث المحبوب محبوبه وينصت لحديثه، والإسراع بالسير نحو المكان الذي يوجد فيه المحبوب وتعمد الجلوس بقربه. وبهتٌ يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤيته أو سماع اسمه، وبذله لكل ما يقدر عليه مما كان ممتنعًا به من قبل، واستدعاء اسم المحبوب في المجالس. الانبساط الكثير في المكان الضيق، والتضايق في المكان الواسع، وكثرة الغمز الخفي، وتعمد لمس اليد عند المحادثة، وشرب ما أبقى المحبوب في الإناء. وغير ذلك من العلامات.

ومما يلفت نظر القارئ أن ابن حزم ذكر بابًا في فضل التعفف: حيث يقول إن أفضل ما يكون عليه المرء في حبه هو التعفف، وذكر أن على الإنسان أن يتعفف ويخاف الله ويخشى يومًا تجد فيه نفسه ما عملت محضرًا، ويذكر العاشق المتعفف بعظيم جزائه عند الله، ويقول إن من عرف الله هانت عليه اللذات.

عرَض كتاب “طوق الحمامة” لحقيقة الحب في الشريعة الإسلامية فهو ليس بمحظور في شريعتنا ولا حرمة في التحدث عنه، وقد راعى ابن حزم الشرع والأخلاق في كتابه فلم يكن فاحشًا في كلامه، كما قدم النصح كونه مسلمًا وفقيهًا فحذر من المعصية وتحدث عن فضل التعفف، كما أنه قد أنزل الناس منازلهم فلم يذكر أسماء من وقعوا في الحب من أعلام الأمة الذين انتشر الحديث عن حزمهم وجهدهم.

إنَّ ابن حزم يذكرنا أن الحب شعورٌ نبيل، وفي زمن يمتاز بسيولة العلاقات، وقلة الوفاء، والوقوف على مصالح الذات، يأتي ابن حزم ليذكرنا بالترفع عن ذلك كله، ونُبقي على آخر ما تبقى من إنسانيتنا، وعن أعز ما فينا، وهو الحبّ.


[1] . انظر: خلكان، شمس الدين أحمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ج3، ص325.

[2] . المرجع نفسه، ص325.

[3] . انظر: الأندلسي، ابن حزم، طوق الحمامة في الألفة والآلاف، تحقيق: حمادة عزيز فرحات، دار اليقين للنشر والتوزيع، مصر، ص87.

[4] . عبد الخالق، غسان، الأخلاق في النقد العربي من القرن الثالث حتى القرن السادس الهجري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 160.

[5] . الثعالبي، أبو منصور، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ط1، المكتبة العصرية، بيروت، ص 378.

[6] . عمر، أحمد، معجم اللغة العربية المعاصرة، ج1، ط1، القاهرة، عالم الكتب، ص 109-110، مادة (أ ل ف).

[7] . مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ط4، مكتبة الشروق الدولية، ص 23.

[8] . الأندلسي، ابن حزم، طوق الحمامة في الألفة والآلاف، تحقيق: حمادة عزيز فرحات، دار اليقين للنشر والتوزيع، مصر، ص36.

[9] . المرجع نفسه، ص33.

[10] . المرجع نفسه، ص35.

[11] . المرجع السابق، ص78.