في مفهوم الحرية
حال الحرّية حال فطرية إلى حدٍّ بعيد، مما يجعل تعريفها الدقيق يبدو ممتنعاً، كما يجعل الحديث عنها حديثاً في البديهة. غير أن الحرّية كـفكرة اعتراها الأخذ والردّ من وجهين: من وجه الفلسفة التي ‑بطبيعتها‑ تُأشكِل البَدَهِيّ والمُسلَّم به، ومن وجه النمط المعاشي الذي بشّر به عصر الأنوار حيث عدَّ الحرّية أحد قوائمه الثلاث. وما يلي مقالٌ مختصرٌ أجتهد فيه في بيان موقع مفهوم الحريّة في الرؤية الإسلامية، أما التفصيل في ذلك فهو موضوع كتيّبٍ أنوي تأليفه بعون الله.
أولاً: العبودية مرتكز الحرّية
من الملاحظ أن لفظ الحرّية لم يأتِ في القرآن والسنة إلا في مسألة الرقاب، فوروده هو في سياقٍ محدّدٍ غير مطلق، ويأتي هذا اللفظ في كتب التراث في ساحة الإجرائيات من تصرفات الآدميين وحفظ مصالحهم. أما معاني الحرّية في الرؤية الإسلامية فتظهر في سياق الهداية والتخيير.
إنّ نقطة البدء هي إدراك أن تسليم المرء بالعبودية لله واستشعاره لها هو أوثق مرتكزٍ للحرية، لأنه تتأسّس عندئذٍ الحرّية في ما هو مفارقٌ للدنيا المحدودة زماناً ومكاناً. بمعنى أنه يتحرّر مفهوم الحرّية من دعاوىٰ أي اختصاصٍ بشريٍ يحتكر تجلّيات الحرية أو يشوّهها أو يكيّفها وفق هواه. ويمكن تلمّس تبعات وضع مفهوم الحرّية ضمن مفهوم العبودية علىٰ الصعيدين التصورّي والعملي.
فعلىٰ صعيد التصوّر تنتفي الأرباب الزائفة التي تدّعي أحقّياتٍ لها تستأثر بها وتحيف علىٰ الناس. ولا شيء أعمق في حياة الإنسان الفاني المحدود من الاستناد إلىٰ ما هو باقٍ مطلق. إنه الركون إلى حفظ الله القيوم القاهر المسيطر الباسط القابض المحي المميت الغفور الرحيم الودود ذي العزة والجلال… وكل هذا متجاوزٌ للزمان والمكان، ومتجاوزٌ لاختصاص الشخوص والحالات.
وعلىٰ الصعيد العملي تمدّ معاني العبودية المرءَ بأعظم معاني الحرّية. وذلك لأن الاستناد إلى المطلق أعظم من أيّ عَرَضٍ دنيوي وقوّة. وانعكاساتُ الأساس التصورّي علىٰ حياة الإنسان انعكاساتٌ لا تُحصىٰ، في السياسة والاجتماع والاقتصاد والشعور النفسي، ولا تظهر هذه التَبِعات في شيء مثل ظهورها في حالات الشدّة وتخلّف الأسباب. والأمثلة على ذلك مطّردة في جميع الثقافات وعبر التاريخ.
ثانياً: الحرّية مطلقة ومقيّدة
الأساس الثاني لمفهوم الحرّية في التصوّر الإسلامي كونها مطلقة في الجوّانيات ومقيّدة في البرّانيات. فالحرّية مطلقة في فكر المرء واعتقاده، وفي ضميره ووجدانه، وفي حكمه واختياره. ولكنها مقيّدة في سلوكه وتصرّفاته. وكما يقول الحكماء، هناك تلازمٌ بين مضامين الحرّية والقيد. ففي القيد حرّيةٌ من جهة التحرّر من نوازع النفس ومن جهة دفع العدوان، وفي الحرّية قيدٌ دون العبثية واللاأخلاقية. وهذا أمرٌ يوازي فكرةَ تلازمِ الحقوق والواجبات، فما من حقٍ وإلا وله نظيرٌ واجب. وإذا غاب شفْعُ الحقوقِ بالواجبات تولَّد الظلم من طرفين: تضخّم دعاوىٰ الاستحقاق من الطرف الأول، وتعاظم لزوب الأعباء من الطرف الثاني.
ولاعتبارات الحرّية وجهٌ نظريٌ وآخرُ عملي.
من الوجه النظري حرّيةُ الإنسان مستمدّةٌ من خارجه، فهي تابعةٌ لمَن أوجده وفطره. والذي أوجد الإنسان وفطره وخلق كل ما يحيط به في الكون وما يعتاش عليه في الدنيا إنما هو الله عزّ وجلّ الذي استخلف الإنسان وحمّله الأمانة. بمعنىٰ أن العبودية لله ‑ضمن فكرة التوحيد‑ التي هي مرتكز الحرّية هي أيضاً مصدر لرديفٍ لها هو التكليف. والقيام بحقّ التكليف هو مهمّة الإنسان في حياته.
أما على الصعيد العملي فإن انفراد التشبّع بشعور الحرّية يُفضي إلى التمركز حول الذات. والحياة الاجتماعية جماعية بطبعها، وتتطلّب ‑تحديداً‑ التزام فرادىٰ الأفراد برسالة المجتمع وأولوياته. والتزام الأفراد بأولويات المجتمع تتصادم ‑ضرورةً‑ مع أولويات الأفراد التي هي ناتج خياراتهم الحرّة، علىٰ الأقل في بعض الأحيان في بعض الشؤون.
ثم لا بدّ من ربط الثانية مع الأولىٰ. وذلك أنه حين ترتبط الحرّية المتأطِّرة بالعبودية لله مع قِران الحرّية بقيودٍ ذات مرتكزٍ أخلاقي، ينتج عن ذلك ناتجٌ مجرّدٌ وآخر عملي. الناتج المجرّد هو تعزيز الشعور بالحرّية عند القيام بالواجب، لأن القيام به إنما هو قيامُ المخيّر الذي يبتغي ما هو متجاوزٌ لضيق الدنيا. والناتج العملي هو تَطهُّر الحياة مما قد يعتري الأفراد من آفة العُجب، وتخَلُّص سلوكهم العمليّ من الكِبر في بطَر الحقِّ وغمْط الناس.
ثالثاً: الحرّية فردية جماعية
وحين نقرّر عمق الحرّية في الكيان الفردي فإننا حُكماً نلتقي مع الجماعي. بمعنىٰ أنه إذا أثبتنا الحرّية في حقّ الفرد، فإنها تعمّ كل الأفراد، وحين نُضفي حال الحرّية على مجموع الأفراد ينتجُ حقلٌ للحرية في المجتمع بأسره. ولحقل الحرّية وفضاؤه وجهٌ ثقافيٌ مجرّدٌ وآخرُ عملي.
الوجه الثقافي لحقل الحرّية هو اكتسابها الصفة الجمعية. وجماعية مفهوم الحرّية تُهذّب مضامين الحرّية وتخرجها عن الصفة الأنانية. كما تستدعي الحريّةُ الجماعية استحضار أبعاد المسؤولية والعزّة. وبذلك ينتفي الفهم المسطّح للحرية وأنها مجرّد خيارٍ هشَّ إليه فردٌ أو وقع عليه.
والوجه العملي لكون الحرّية حقلاً جماعياً أنها تغدو عندها أمراً متراكباً ذا طبقاتٍ متعدّدة ومتمازجة. فمقابل أنّ قصر فهم الحرّية علىٰ أنها أمر فردّي يودي إلىٰ تعظيم الخيارات الفردية تعظيماً يعتدي علىٰ ما هو خارج الفرد، فإن اكتساب الحرّية البُعدَ الجماعي يطارد النشوز الفردي المحتمل في تمثّل الحرية وفي ممارستها.
وكون الحرّيات ذات هيكلية تراكبية يعني أنها متفاعلة تؤثّر في بعضها بعضاً، ففي شبكة التعايش الإنساني تُزاحم حريّةٌ معيّنةٌ حرّيةً أخرىٰ ضمن إطار عامٍ يُفترض أنّ همّه القسط. ومن وجهٍ آخر ثمّة اجتهادٌ دائمٌ في نطاق الحرّيات وساحة تحرّكها العملي.
وإن نفي التسطيح عن مفهوم الحرّية يستدعي استحضار الأبعاد الخلقية، كما أن جماعية الحرّية وتعدّدها تستدعي تنظيمها إدارياً.
رابعاً: أخلاقية الحرّيات
حين نستحضر الحرّية المجذّرة في العبودية والتي تشفع الحقوق مع الواجبات والتي لها أبعاد جماعية، عندها ندرك أنه لا بدّ للحرّية أن تحتفّ بالأخلاق. ولهذا وجه نظري وآخر عملي.
الوجه النظري هو إخراج الحرّية من مجرّد الخيار المكتسَب والخيار المنتزَع وخيار الاستهواء إلى حيّز التفضّل ممّن لا يعوزه من عباده شيء. ولذا يتّصل بهذا المعنىٰ مفهومُ حقِّ الله وحقِّ العباد. وبما أن الله سبحانه وتعالىٰ هو الكمال المطلق، فيعني أنّ صفاته الحسنىٰ تشعّ على حقّ العباد إشعاع التقويم والضبط بميزانٍ هو حقّ. وبذلك تكتسب الحرّية الوصف الأخلاقي بتزكيةٍ من خارجها، حيث لا يمكن القطع بأخلاقيةٍ من غير مستندٍ خارجي.
الوجه العملي لأخلاقية الحرّية هو انضباطها بغياب التعدّي وحضور التوقّي. ومن هنا يبرز مفهوم “الخلق عيال الله”. وهذا يستدعي صفات الرعاية والرفق والرحمة وما يجري في مجاريها وما يكمّلها ويزيّنها ويعضدها. ويتّصل بهذا مفهوم التقوىٰ حيث تتملّك المرءَ خشيةُ الوقوع في ظلمٍ عند تأكيد مطلب حرّيته الشخصية. وعندها أيضاً تصبح الكرامة معنىٰ سابغاً يطلبه المرء لنفسه ولغيره، لفرده ولجماعته.
خامساً: تنظيم الحرّيات
الحرّية تطرد المخاوف وتشرح الصدر وتحرّك الفكر وتحفز الهمّة وتطلق الإبداع. وحيث أنّ الحرّية عزيزةٌ علىٰ النفوس من جهة، وجماعية تراكبيّة من جهة أخرى، استدعىٰ هذا تنظيم الحرّيات لأن بعضها سوف يكون ‑ضرورةً‑ مصادماً لغيرها أو منافساً لها أو غير متّسق معها.
وعند الحديث عن تنظيم الحرّيات يتصدّر الدور السياسي في ذلك. وإذ لا شكّ في دور السياسي في تنظيم الحرّيات، فإن رشاد هذا التنظيم يأتي حين يكون خاضعاً من جهةٍ ومساوقاً من جهةٍ أخرى. أما كونه خاضعاً فبمعنىٰ دورانه مع مسلّمات القوم وثقافتهم، فلا يمكن أن يستقيم تنظيمٌ لا يلتزم بما ارتضاه الناس لأنفسهم تجاه حقيقة وجودهم كما يتصوّرونه. وكونه مساوقاً فذلك من جهة الاقتصاد والاجتماع.
فمن جهة الاقتصاد يسعىٰ تنظيم الحرّيات إلى تنشيط حركة الاقتصاد وترشيده، ولهذا هدفان. الأول هو الحذر من طغيان مطلبٍ اقتصادي على غيره من نوعين من الأولويات: أولويات معنوية للأفراد والجماعات، وأولويات مادّية من أجل حفظ مادّة الكون واستدامتها. الثاني هو الاجتهاد في عدالة توزيع عوائد الاقتصاد.
ومن جهة الاجتماع يسعىٰ الجهاز السياسي ودواوينُه إلىٰ تنظيم الحرّيات والحماية من العدوان من جهة، وإلىٰ تخويل فاعليات الاجتماع نفسِها أكبرَ مساحةٍ تنظيمية ممكنة بناءً على عفويّتها وفطريّتها وقدرة تحسّسها للفضاءات الخاصّة في حياة الناس.
وحيث تتجلّىٰ حرّية الفرد في الاعتقاد والتفكير والقول والعمل، فإن تنظيم الحرّيات يختفي في الأولى ويخفت في الثانية ويُستدعىٰ في الثالثة ويحضر دوماً في الرابعة.
وتاريخ البشرية شاهدٌ على ميل السياسة للتضييق على الحرّيات طغياناً في لحظات الانتقام والاستكبار، أو انزلاقاً في ساعات الأزمات والملمّات. أما فاعليات الاقتصاد فكثيراً ما تسلب الحرّياتِ من خلال إذعان الناس لضرورات الحياة. وأما التحجير علىٰ المسرىٰ اليومي للحياة فغالباً ما يأتي من قبل أعرافٍ للمجتمع تقدّدت ولم تعُد تخدم ما نشأت من أجله.
خاتمة
كان ما سبق معالجة للمعنىٰ المجرّد للحرّية. أما علىٰ المستوىٰ الإجرائي فلا بدّ من رعاية السلوك الحرّ لأن الحرّية ‑كما ذكرنا‑ تطرد المخاوف وتشرح الصدر وتحرّك الفكر وتحفز الهمّة وتطلق الإبداع. ونجد أن المدوّنات الفقهية أكّدت حرّية التصرّف والكسب، وذلك من جملة اهتمام الفقه بالإجرائيات وموازنة مصالح الناس. بمعنىٰ أن المنظومة المسلمة في حركتها التاريخية كانت حافلةً بالحريّات علىٰ الصعيد العملي، واعترك الفقه في شأن تجاوزات السياسة في محاولة احتسابه للمصالح الحاضرة والآجلة ومخاوف الفتنة والفرقة والهرج والاقتتال. ولا يخفىٰ أنه يلزم قراءة هذا التراث بعد استحضار المفاهيم النظرية التي جرت الإشارة إليها. ومن ناحيةٍ أخرىٰ إنه لمن الحيف على التراث أن ندسّ فيه الطروحاتِ المعاصرة للحرّية التي لها مستند فلسفي مخالف، كما يظهر جلّياً عدم سوغ جعل الحرّية مقصداً شرعياً، وقد فصّلت في هذا في كتابي في المقاصد.
والله تعالىٰ أعلم
28-02-1443هـ/05-11-2021م