ما وراء الغرب العلماني
اسم الكتاب: ما وراء الغرب العلماني
تحرير: عقيل بلغرامي
ترجمة: عبيدة عامر
الشبكة العربية للأبحاث والنشر، (287صفحة)
*** *** ***
يمكن وصف الغرض الأساس من هذا الكتاب هو دراسة فكرة العلمانية في أجزاء مختلفة من العالم ما وراء العالم المسيحي الغربي؛ حيث يدور السؤال الرئيس للكتاب حول طبيعة العلمانية في البلدان التي لم تكن تسودها المسيحية، مثل الصين والهند والشرق الأوسط وأفريقيا.
كما يناقش ما إذا كانت العلمانية لها شكل واحد من جهة، وهل تعتبر العلمانية نتيجة حتمية لجميع البلاد، وبالتالي هل سيكون نموذج التقدم الغربي هو النموذج المفروض على العالم بصورته الغربية نفسها.
ستتناول هذه المراجعة أبرز الأفكار والخلاصات النابعة من الكتاب، والذي يقدم مراجعات قيمة فيما يتعلق بمفهوم العلمانية وواقع المجتمعات المعاصرة.
*** *** ***
يضع تشارلز تايلور في بداية الكتاب تأطيراً مهماً لمفهوم العلمانية، مبيناً فيه خصوصية مفهوم العلمانية وارتباطه بسياق تاريخي محدد.
إن معنى العلماني بالأصل هو الأملاك أو الأراضي التي تقع خارج الكنيسة، ثم تطور المعنى ليشير إلى كل ما هو خارج إطار أو سيطرة الكنيسة.
وبالتالي فهو يرتبط بالرؤية الكونية للمسيحية، خاصة فيما يتعلق بين الدين والدنيا، أو العلوي والدنيوي. فالمسيحية تقيم فصلاً واضحاً بينهما، وتربط بين الدين والكنيسة بشكل كبير، بحيث لا تتجاوز حدود الدين حدود الكنيسة. وما هو خارج الدين يصبح علمانياً، أي غير ديني.
لذلك يوضح تايلور أن مصطلح العلماني في الغرب يعبر في البداية عن طبيعة ثنائية، مميزاً بين بعدين من الوجود، ثم يتحول إلى مصطلح يُعبر عن اختلاف بين مجالين، الأول هو “العلماني”، والذي يرتبط بالكيان المحايث، ونقيضه وهو “الديني” المرتبط بالمتعالي.
لكن هذا التقسيم الذي يقيمه مصطلح العلمانية يرتبط بشكل كبير بالغرب وتاريخه الاجتماعي والسياسي، وطبيعة الكنيسة أيضاً. ففكرة الفصل بين “الدين” والمجالات الأخرى تتبع للمسيحية في الغرب وهي غربية بالإضافة للظروف التي مر بها.
فالانقسام الذي حصل بين “الديني” و”غير الديني”، أو “المحايث” و”المتعالي”، في الغرب هو الذي شكَّل التصور الغربي والواقع التاريخي للعلاقة بين الدين وجوانب الحياة في الغرب، وهو المسؤول أيضاً عن تشكيل تصور ما عن الدين يجعله قابعاً في مكانٍ منفصل عن الأشياء الأخرى.
هذا الانقسام الذي جرى مع نشوء الحداثة الغربية وتطور العلم وبروز الدولة الوطنية ونشأة السوق الحديث، وما لحق ذلك من تطور في النظام الدولي وانتشار العولمة والتقنية.
ومن هنا ينبثق الإشكال الذي يناقشه الكتاب، فعندما تتم محاولة قراءة التراث الإنساني التاريخي غير الغربي، فإن بعض الأشخاص يقرأه من خلال المنظور الغربي الذي يفصل بين الدين ومجالات الحياة، أو من خلال المسار ذاته الذي مرّ فيه الغرب، ويحاول أن يُسقط مراحل تطور الغرب على الحضارات الأخرى غير الغربية.
وعلى ذلك، يُعتبر المجتمع الصيني علمانياً، والمجتمع الإسلامي دينياً على سبيل المثال، على اعتبار وجود ذات الفصل في تلك الدول كما هو الحال في الغرب، أو أن فكرة الثنائية من العلماني والديني موجودة في جميع الحضارات، “متجاهلين الدور الهائل الذي أداه انقسام المحايث/ المتعالي (أو الديني وغير الديني) في التصور الغربي، والذي لم يكن له نظير في الحضارات الأخرى”.
فعلى سبيل المثال، تعتبر الممارسة السياسية ممارسة علمانية بالأصل، لأن وسائلها متجردة من الدين (وإن نبعت عند بعض السياسيين من دوافع دينية)، أو على الأقل هي لا تنبع من الكنيسة، على اعتبار أن الكنيسة هي من تحدد ما هو داخل الدين وما هو خارجه. لكن بالنسبة للرؤية الإسلامية، فإن الممارسة السياسية لا تعتبر ممارسة علمانية خالصة أو دينية خالصة، بل إن هذه الثنائية غير موجودة أصلاً، فالسلوك الإنساني في المنظور الإسلامي مركب. وهذا يمكن أن يكون أحد تجليات الاختلاف بين المنظورين الغربي والإٍسلامي فيما يتعلق بالعلمانية.
ارتبطت نشأة العلمانية الغربية، بحسب تايلور بثلاث خصائص رئيسة، ميزت الحضارة الغربية وتاريخها وتطورها: نزع السحر عن العالم، والضوابط، والانعتاق.
– نزع السحر عن العالم: وهو مصطلح وضعه ماكس فيبر للتعبير عن اختلاف الحداثة الغربية عما سبقها، وهي أن ما سبقها كانت تسيطر عليه الأفكار والقوى ذات الطابع الروحي والمعتقدات وغيرها، في مقابل الحداثة التي باتت تستند إلى العلم والعقلانية والمادية.
– الضوابط: ويقصد بها هنا المعايير الاجتماعية الخارجية التي تعمل على ضبط الذات والتحكم الاجتماعي، والتي تشتمل على النظم البيروقراطية والسياسية.
– الانعتاق: والتي تعني هنا الفردانية، أي انعتاق الفرد من النظم الاجتماعية والاستقلال عنها، و”التحرر” من النظم السائدة، سواءً أكانت الدولة أم الكنيسة أم الدولة.
خلاصات مهمة
يستعرض الكتاب السياقات التاريخية لعدة حضارات ودول مثل الصين والهند والحضارة الإٍسلامية وأمريكا الجنوبية، ويعرض تاريخ هذه الحضارات ويستقرأ التصور القائم لديها عن ثنائية العلماني والديني.
وتُثبت الدراسات المختلفة في هذا الكتاب خطأ إسقاط التجربة الغربية العلمانية على الحضارات الأخرى، وتبين خصوصية كل تجربة فيما يتعلق بحضور الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية، حتى في العصر الحالي، عصر الحداثة والعولمة.
كما يصل الكتاب إلى خلاصات مهمة تستحق الإشارة، منها أن الصراعات الدينية والتنافس الفكري بشكل عام لا يُفضي بالضرورة إلى تراجع الدين أو ضعف الإيمان الديني. تنبع هذه الخلاصة من التجربة الهندية على سبيل المثال. فعادة ما يُشار إلى أن وجود صراع ديني داخلي بين المذاهب، مثل البروتستانت والكاثوليك، أو السنة والشيعة، سيفضي في نهاية المطاف إلى تبني العلمانية كخيار وحل لهذه الصراعات، ولكن التجربة التاريخية لا تؤكد هذا.
يعلق تايلور على هذه النقطة بالقول إن الصراعات المذهبية وحظر المذاهب المهرطقة والتهجير القسري وحتى الصدامات المسلحة، كل ذلك لم يؤدِ بحد ذاته إلى تراجع الدين في الغرب. فكل هذا “لم يقدم حجة مقنعة لهجر الأنماط الدينية رفضاً لها حتى جاء متخيل اجتماعي بديل في المشهد، فتح احتمالية العيش خارج هذه الأنماط (أي الأنماط الدينية)”. هذا المتخيل الاجتماعي هو المجتمع الحديث الذي قام على الأسس المذكورة أعلاه.
يعني تايلور بالمتخيل الاجتماعي “الطرائق التي يتصور الناس من خلالها وجودهم الاجتماعي، وكيف ينسجمون مع الآخرين، وكيف تجري الأمور بينهم ومع أقرانهم، وكذلك في التوقعات التي تجري تلبيتها عادةً، إضافة إلى الأفكار والصور المعيارية الأعمق الكامنة خلف هذه التوقعات”. أي يمكن اعتبار المتخيل الاجتماعي الممكنات والفضاءات الاجتماعية المحيطة بنا والتي تعطي لخيارات الإنسان إمكانية واقعية. (يمكن الاستزادة في هذا الموضوع بالعودة لكتاب المتخيلات الاجتماعية الحديثة لتشارلز تايلور).
لهذا السبب أيضاً، لن يؤدي وجود جدالات فكرية قوية ضد الاعتقادات الدينية أو الطقوس أو الأعراف بمفرده إلى تراجع الدين؛ فقد نشأت مثل هذه الجدالات في اليونان القديمة وفي مدارس الناستيكا في الهند القديمة، إلا أنها فشلت في تغيير المتخيلات الاجتماعية لزمانهم.
في هذا السياق، يمكن القول إن صعود العلم والتمدين والعولمة وتوغل السوق وبروز الدولة الوطنية ونشأة أسس الحياة الحديث هي من ساهمت في تشكيل الصورة الحالية للغرب، ورسمت معالم المتخيل الاجتماعي الحديث. وبالتالي هي التي فتحت المجال أمام انحسار الدين أو ضعف حضوره مقابل بروز الأنماط العلمانية المعاصرة.