معالم المنهج الإسلامي

1٬909

كتاب حظي بقسط وافر من الاهتمام وصار مرجعاً للكثير من القضايا مع أنه مرّ عليها مروراً سريعاً، ولكنه مرور صاحب الخبرة والتجربة الذي استطاع أن يوجز قضايا كبرى بعبارات تكفي الإنسان إذا ما اضطلع عليها أن تدله على خط إسلامي رائع في ميدان المنهج.

يقدم الدكتور محمد عمارة لكتابه بقوله: “هذه صفحات تمثل مشروعاً فكرياً يحاول أن يقدم تصوراً أولياً في موضوعه مستهدفاً شحذ الفكر، واستنفار العقل طلباً للإضافة والتطوير والنقد والتعديل، ذلك أن خطر القضية يحتم بلورتها عبر جهود جماعية نطمح أن يكون فيها خطوة على طريق طويل سبق إليه كثيرون ولا يزال في انتظار الكثيرين”.

إن الأمة في أزمة وهي أزمة فكرية، يعيد البعض أسبابها لطبيعة البنية الفكرية الإسلامية، فهي تحمل بداخلها أسباب قصورها الذاتي، ويرى البعض أنها أثر لعوامل دخيلة وعارضة، ويمكن إرجاعها إلى القصور الناشئ من الافتقار إلى إعمال قانون التجديد وسنته، وهناك عوامل أخرى عند البعض متعددة كالاقتصادية والاجتماعية. فأسباب الأزمة المتعددة تدفعنا إلى اتفاق حول وجوب معالجتها وهذا يؤدي إلى ضرورة الاهتمام بالمنهج.

مفهوم المنهج

والمنهج هو الطريق والنظام والإطار الحاكم والجامع، ومهمة تحديد معالم المنهج الإسلامي تغاير مهمة البرنامج الإسلامي، وتغاير مهمة تحديد مناهج البحث في فروع المعرفة. إنها صياغة منهج الحياة وهذا هو السبيل لصياغة الإسلام كمشروع حضاري بما تضمنه من برامج مرحلية لتغيير الواقع، ومناهج بحث في المعارف والعلوم ومناهج تربط الأبحاث الفنية بالغايات الإسلامية والحكم الإلهية، هذه المناهج لا بد لها جميعاً من أن ترتبط بمنهج الحياة الإسلامية. ولقد تم رصد معالم هذا المنهج من خلال فترة خلافة الراشد عمر. فقد رشحناها كي نستخلص منها معالم تطبيقات هذا المنهج مع الاستئناس بامتداداتها فكرة ونصوصاً ومواقف، وهي من الفترة 13 إلى 23 هجرية.

 وأسباب هذا الاختيار؛ أولاً، أن هذه الفترة لم تكن تحت إمرة المعصوم، وثانياً، خصوصية الالتزام بالمنهج النبوي فيها، ثالثاً، اكتمال بناء الدولة ودخولها في تعقيدات وتراكيب البلاد المفتوحة. فهي فترة تدل على صلاحية المنهج الإسلامي لمواكبة التطور عبر الزمان والمكان.

وأما محاور هذا المنهج، المنهج الرباني المصدر، الإنساني الموضوع، يبحث شؤون إنسان مخلوق لخالق واحد يحيا في عالم مخلوق لذات الخالق الواحد. وينهض برسالة الخلافة عن ربه في عمران عالمه وفق بنود عقد وعهد استخلاف استعداداً للقاء الله يوم المعاد والحشر.

وظيفة المنهج ووضوح الرؤية الإسلامية التي تيسر الإجابة الإسلامية عن تساؤلات هذا الإنسان تبدأ بقضية العقيدة التي تبحث عن الله والإنسان والعالم؛ البداية والمسيرة والمصير. فبدأ بوحدانية الخالق فقال: إن التوحيد في الإسلام قاعدته التنـزيه ونفي الشبه والمماثلة والتشبيه، وأرقى درجة يصعد إليها العقل على سلم التصورات الإلهية هي تلاوته لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورة: 11] وتلاوته لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. [سورة الإخلاص]. أما الصياغة البشرية في هذا الموضوع، فهي قول العلماء: “كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك”، و “كل ما عدى الله قائم على الثنائية”، وذلك تأكيداً على نفي المماثلة، “سبحان الذي خلق الأزواج كلها”، وقائم على الاجتماع والمساندة “أمم أمثالكم” كلها تتساند لضعفها. فالتساند والثنائية دليل على أن هذا الكون مخلوق بينما الخالق هو المتفرد. إنها السمة الأولى في المنهج الحضاري، تنهض ليكون الإنسان حراً، وليست قضية نظرية. فهي التحقيق الكامل لانتماء هذا الإنسان إلى الله انتماء يعصمه من كل ألوان الضعف فهي تجعل الإبداع البشري أنى كانت ميادينه صلاة خاشعة.

أما مركز الإنسان في الكون، ففي الوقت الذي تتصور بعض المذاهب الإنسان حقيراً فانياً. ولا بد له من الفناء المطلق كالنرفانا الهندية، وبعضها الآخر قدمه كإله وسيد الكون كالحضارة المادية. فالإسلام الوسط قدم الإنسان خليفة، فليس هو الحقير وليس هو المسيطر، وإنما هو في مقام سيادة التكليف: يحمل الأمانة، ومكانه في الكون والطبيعة مكان الوكيل الذي سُخرت له هذه الأكوان تسخيراً معلناً ومحكوماً بالحكمة.

أما عن الكون: فهو كونً تحكمه الأسباب المخلوقة. والكون له وجود سابق عن الإنسان وتحكمه سنن وقوانين وتقادير لا تلغي حرية الإنسان الخليفة. فقد شاءت حكمة الله أن تكون حرية الإنسان في التغيير هي الأخرى سنة حاكمة، فيما تغييره مقدوراً للإنسان.

المنهج الإسلامي لا غموض فيه بحيث يقف الإنسان متردداً في موضوع وجود العلية والسببية الحاكمة لهذا الوجود المادي والإنساني. فالنظر في المسببات طريق إسلامي لمعرفة السبب الموجد لها. فالسببية لها مقامها في الاستدلال الإسلامي، والاهتداء بالسبب هو الطريق الآمن لبلوغ الغايات ومهمة المسلم في هذه الحياة، اكتشاف الأسباب والسنن الجارية، وامتلاكها، لتغيير الواقع وإقامة المنشود.

أما سبل الوعي والمعرفة في المنهج الإسلامي فتتسم بالتعدد والتنوع والشمول الذي تقتضيه شمولية الإسلام للدنيا والآخرة، للوحي والعقل. فالمنهج الإسلامي يستنفر العقل المسلم نظراً وتدبراً وبرهاناً وجدلاً لا يقف دون اليقين، ويعيب على أهل الظن ويعتبر ما يكون في طريق اليقين من الوساوس والشكوك أمراً لا بد من معرفته وتمحيصه. وهو لا ينكره بل لا بد من توظيفه لتقوية المعرفة، وهو ما يُدعى بالشك المنهجي.

وحدود المعرفة أنها من فضل تعليم الأسماء، فالعلم في الإسلام سبيلً لتنمية مخافة الله لا لنفي الألوهية كما عند الآخرين، لأن خشية المسلم هي خشية المدرك لنسبية أدوات الخليفة إلى الكلي والمطلق.

من أين نبدأ

لم يقف منهج الإسلام عند الحواس وحدها كسبل للوعي والمعرفة، بل تجاوز سبل الملاحظة والتجريب والاستقراء والقياس لوعي ظواهر وحقائق ومعارف عالم الشهادة إلى سبل السمعيات النقلية. فيفقه العقل منها ما يستطيع مما جاءه من السمع، ويفوض فيما لا يطيق مع إسلام الوجه لله تعبداً. ويتجاور في هذه الميادين ما هو موضوع للاجتهاد مع ما هو أصول لا رأي فيها ولا اجتهاد. لقد تجاور في هذا المنهج حقيقة الثقة بالوعي الإنساني مع حقيقة رفض الغرور العقلاني فالإيمان ثمرة من ثمرات إيمان العقل بالأصول وليس ثمرة لعجز العقل.

لقد تجاور العقل مع النقل، فالعقلانية الإسلامية متديّنة، والنقل الإسلامي عقلاني. وقد جاءت معجزة القرآن مختلفة عن سائر المعجزات السابقة بأنها لم تأت لتدهش العقل، وإنما جاءت لتستنفر فيه القدرات، والملكات، وتتخذ منه حكماً للفهم والتدبر ومناطاً للتكليف، ومن هنا جاء الحديث عن عالم الغيب الذي لا يمكن الحديث عن آفاقه بلغة البشر فأفسح المجال في لغة الحديث عن ذلك للتمثيل لأن التأويل في المنهج الإسلامي هو سبيل من سبل وعي الإنسان المسلم ومعرفته بصور عالم الغيب التي جاءت به السمعيات واستحالت قدرة اللغة الدنيوية على تبيان كنه حقائقه. وهو اصطلاحاً صرفُ اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً للكتاب والسنة. أو هو: إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل من عادة لسان العرب في التجوز. وقد ذكر الإمام الغزالي في موضوع التأويل نظرية فذكر بأن الوجود خمس مراتب: ذاتي وحسي وعقلي وخيالي وشبهي. وأن التصديق بالوجود على أي مرتبة منها كاف في إخراج صاحبها من كفر التكذيب. فمن نزّل قولاً على درجة من هذه الدرجات يكون مصدقاً بصورة من الصور لأن هذه الأمور حقيقة. ولا يكون التكذيب إلا بنفيها كلها. وهذا هو الذي حلّ المشكلة في قضية التكفير سابقاً، ولا يحلها لاحقاً إلا هذا المبدأ.

فهذا يمثل سبيل المنهج الإسلامي لوعي ومعرفة ما جاء في السمعيات الشرعية عن عالم الغيب، وبهذا تصبح سبل الوعي والمعرفة متعددة ولامّة وجامعة تمتد إلى عالم الغيب من عالم الشهادة. وهذا المنهج يرفض التطرف: تطرف النظرة الأحادية سواء منها ما يلغي الحواس أو ما يقتصر على العقل كحاسة تقف عند عالم الشهود والحواس. إن العقلانية الإسلامية كما أنها كانت السبيل لوعي حقائق عوالم الحياة، فهي أيضاً السبيل لتأسيس العلوم الإسلامية كعلم الكلام وعلم أصول الفقه. فحين وقفت الحضارة الغربية عند المنهج التجريبي والحسي رأينا الشريعة تعتمد على المنهج التجريبي -الذي هو من إبداع المنهج الإسلامي- وعلى المنهج الاستنباطي من مادي إلى غير مادي، والتاريخي، من تواتر الجزئيات إلى الوصول إلى العلم اليقيني، والسمعي الممثل بالوحي والوسطية الإسلامية.

أخص ما يختص به المنهج الإسلامي أن الوسطية عدسته اللامة لأشعة ضوءه. وزاوية رؤيته كمنهج. إنها الحق بين باطلين، والعدل بين ظلمين، والاعتدال بين طرفين. وليست هي انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام مشكلات كما يظن البسطاء. إنها في الإسلام موقف جديد بين نقيضين متقابلين ليس منبتّ الصلة عن سماتهما، إنما خلافه لهما منحصر في رفضه الانحصار أو الانغلاق على سمات أحدهما. إنه منحصر في رفضه الانحياز المغالي أو غلو الانحياز. وهي تجمع وتؤلف ما يمكن جمعه وتأليفه كنسق غير متنافر ولا ملفق من سمات القطبين. فالإثم هو المرفوض من سمات القطبين. وبهذه الوسطية يكون طوق النجاة من تمزق الانشطارية في المتقابلات المتناقضة والتي حدثت في الأمم الأخرى. فلم تعرف الحضارة الإسلامية تناقضاً بين الروح والجسد، بين الدنيا والآخرة، بين الدين والدولة، بين الذات والموضوع، بين الفرد والمجموع، بين الفكر والواقع، بين المقاصد والوسائل، بين الاجتهاد والتقليد، بين الثابت والمتغير، بين الدين والعلم. بينما انشطرت المدنية الغربية إلى مادية ومثالية، منذ جاهليتها اليونانية وحتى نهضتها الحديثة.

لقد انقسمت الحضارة الغربية إلى مادية ومثالية بسبب الاختلاف حول علاقة الفكر بالمادة، وأيهما له الأولوية في الوجود والأهمية في التأثير الفكر أولاً أم المادة. وأنتجت تيارين متطرفين، مادي بحت يرى أن الفكر هو مجرد انعكاس للمادة وأحد إفرازاتها، ومثالي يعكس هذا بالتمام. ولقد خلت مجتمعاتنا من هذه الثنائية ومن انشقاقاتها. إنه من لحظة بدء الرسالة وهي تمثل الفكر، كان الواقع الإنساني والاجتماعي يتطلع إليها. ما جاء الفكر إلا والواقع يطلبه حيث كان الواقع ينتظر نبياً أطل زمانه. وكان نفرٌ من الحنفاء يلملمون بقايا إبراهيم بحثاً عن أجوبة فكر تجاه أسئلة الواقع. وعند نزول الوحي كان الواقع يستدعي الفكر ولكن لم يبدعه، ولهذا نفهم لماذا أنزل القرآن منجماً. وكانت مبادئ الشريعة وثوابتها ومقاصدها هي التي نزلت من السماء. وجاءت الأحكام والفروع ثمرة لتفاعل هذه الأصول مع الواقع فنرى دور الواقع في تحديد لون الفكر في الفروع فقط. بينما لا نجد ذلك في الأصول التي تُركت لتكون ربانية، ومن ذلك نفهم معنى النسخ في الشرائع دون العقائد، وفي آيات الأحكام دون الشعائر، وفي الأحكام المتغيرة دون الثوابت… ويبقى باب الاجتهاد مفتوحاً في فقه الفروع المتعلق بالمتغيرات ولكن على ضوء الأصول التي تتفاعل مع الواقع الجديد.

أما الجبر والاختيار، فالجبر هو تجريد الإنسان من الأفعال التي تظهر على يديه والتي هو محل لها ونسبة ذلك الفعل إلى الله. إن المنهج الإسلامي ينفي الحتمية المطلقة مع الاعتراف بالسببية وبالعلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات. ويعترف بالحريات الإنسانية دون حتم أو إطلاق. فليس الإنسان سيد الوجود حتى تكون الحرية مطلقة. ولا هو الحقير المتلاشي الذي لا خلاص له إلا بالفناء في الكل أو المطلق. بل هو الخليفة الوسط بين مطلق الجبر ومطلق الاختيار. وبهذا يمكن وزن الحرية الإنسانية، ومن هذا المنظار يمكن أن نرى آفاق الاختيار. فالفرد حر حرية لا تنفي ولا تنقض حرية المجموع، والجماعة حرة حرية لا تحول الفرد إلى شيء أصم في ترس الأمة. وليس لفرد أو جماعة أن تهدر- بدعوى الحرية- ما تعارفت عليه الأمة من ثوابت تمثل الإطار العام للحركة والضامن من تعدي الحريات. إن الحرية في الإسلام قرينة الحياة، ولكن حرية الخليفة محكومة بالقدرة والاستطاعة وبنطاق عهد الإنابة والتوكيل، فبقدرته لا يستطيع تجاوز المقدرات ولا ينبغي لحريته أن تتجاوز نطاق العهد.

إن المسلم حرٌ باختياره ولكن محكوم عليه بالبدائل القائمة والتي تحدد نطاق وآفاق هذا الاختيار في النفس والظروف. إنه حرٌ بأدوات الحرية المخلوقة له التي لم يبدعها هو ووسط ملابسات ليست كلها من صنعه. إنها حرية المستخلف. فإذا كانت حرية الإنسان هي القوة التي يختار بها، وإن كانت العوامل المحيطة هي القدر، فإن العلاقة بينهما هي التي تحدد حرية الإنسان. فليست الحرية نقيضة للقدر وإنما هو حاكم لإطارها.

وهذا يقودنا إلى التمييز بين لونين من ألوان الإرادة الإلهية. الأولى إرادة جبر وحتم بما لا يقدر عليه إلا الله “إنما أمرنا لشيء إذا أردناه…”،”ائتيا طوعا أو كرها…”؛ الإرادة الثانية هي إرادة التفويض والتخيير والتمكين للخليفة، فهو أراد الإيمان، ولكن أراده أن يكون من العبد فخيّره به لتتجسد الحرية والاختيار.

العلاقة ما بين السلفية والتجديد

لا وفاق بين المصطلحين في المنظور الغربي لأن السلفية الأرثوذكسية هي الوقوف عند الأصول على نحو رافض لأي اجتهاد في الفكر أو تطوير له. والتجديد عندهم ثورة تأتي على السلفية من قواعدها. بينما في المنهج الإسلامي لا توجد هذه الثنائية الانشطارية، فنقرأ “اليوم أكملت لكم دينكم…” ثم نقرأ بجانبها قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لها دينها…”. فالأصول قد اكتملت والإنسان الخليفة لا بد له من إنجاز مهمة الخلافة فلا بد أن تتغير وتتطور الفروع بتناسق مع تلك الأصول. لذا لا اجتهاد في الأصول إلا بإزالة ما علق فيها من غبار تطمس معالمها وليس التجديد مناقضاً لاكتمال الدين وثباته، بل هو السبيل لامتداد تأثيره وضمان بقائه. لذا فإن الوسطية الإسلامية تربط ما بين السلفية والتجديد. فالعودة إلى الأصول النقية هي سلفية فيها اجتهاد يميز بين الجوهر والبدع الطارئة. والتجديد هو اجتهاد فيه سلفية لاستحضاره الأصول والمبادئ والمقاصد.

النص والاجتهاد، وهو البحث الذي أدهش المفكرين بجرأته، وأعجب الكثيرين من خلال تنسيقه، وهو الذي أعطاه الاهتمام. ومن المهم أن نحدد المصطلحات أولاً. الاجتهاد: هو استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال ليحصل للفقيه ظن في حكم شرعي. أما النص، فكان تعريفه ومضمونه مكان اختلاف وموضع شبه وأوهام هي مثار اضطراب. النص في اللغة يشمل مجمل الملفوظ والمكتوب. وعند الأزهري هو المعنى والمراد وثمرة الملفوظ والمكتوب. إذن النص هو نتائج فهم العقل لما يوجد في المكتوب. أما الفقهاء في تعريف نص الكتاب والسنة، ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام، أي هو الحكم المستنبط من المأثورات. أما عند الأصوليين وهذا هو المهم: هو ما لا يحتمل إلا معنى واحداً أو ما لا يحتمل التأويل. أما العوام الذين علا صوتهم في حياتنا الفكرية وخاصة عند سيادة التقليد والتراجع الحضاري فإنهم أضافوا لمعنى النص كل ما كتب الأقدمون في المذاهب الإسلامية حتى لو كان تفكيرهم قد ارتبط بأحكام تخلفت شروط إعمالها أو بعادات تغيرت. ويشيع الآن التناقض ما بين النص والاجتهاد. وذاعت مقولة “لا اجتهاد مع النص” بتعميم وإطلاق دون فهم أصولي. فوجود النص عندهم يلغي الاجتهاد، ووجود الاجتهاد لا يتأتى إلا إذا انعدمت النصوص، فتصبح القضية توقف وجمود وموت. وعلينا أن نعلم أنه لا مكان للاجتهاد إن لم تكن النصوص هي المبادئ والأصول، فالعلاقة بين النص والاجتهاد علاقة تلازم. لأن موقف المجتهد أمام النص لا يعدو أن يكون واحداً من أن يكون النص عنده ظني الثبوت ليثبت ثبوته، أو ظني الدلالة ليؤكد دلالته. أو أن يكون الدليل قطعي الدلالة والثبوت وهذا الذي سنفصل فيه. فهذا لا يغني عن الاجتهاد. ولكن غاية الأمر هو تحديد حدود وطبيعة هذا الاجتهاد. فالاجتهاد في فهم النص لإنزال أحكامه منازلها هو أمر لا مناص منه والاجتهاد أيضاً في المقاربة والموازنة بين هذا النص ونظائره واجتهاد في استنباط الجزئيات والفروع منه. إن الإشكال يقع عند التمييز بين الأصول الدينية التي تتعلق بالثوابت وتلك التي تتعلق بالمتغيرات. فإذا كان النص قطعي الدلالة والثبوت يتعلق بالعقيدة فلا مجال أبداً في الاجتهاد فيه. أما إذا كان النص يتعلق بالفروع فهناك مجال في الاجتهاد في إنزاله: هل لا زال صالحاً؟ هل لا زالت شروط إعماله قائمة أم لا؟ هذا هو الاجتهاد فيه. فهناك لا يتعدى الاجتهاد في العقائد حدود الفهم واستنباط الفروع وربطها بالأصول. أما النصوص المتعلقة بأمور هي من الفروع الدنيوية ومن المتغيرات فيها والمعللة بعلة غائية، فتلك التي يثير الموقف منها اللبس الذي نعالجه الآن. وهو لبس قائم في نطاق عوام الفكر الإسلامي وحدهم بدون حجة أو أساس. فالنصوص الدينية ليست مرادة لذاتها كما تشهد الفطرة وإنما هي مرادة لعللها وغاياتها وهي مصالح العباد. فأحكامها تدور مع هذه العلل الغائية التي تسمى المصلحة وجوداً وعدماً. ومعنى الاجتهاد مع وجود النص لا يرفع وجود النص، ولا يرفع الحكم المستنبط رفعاً دائماً. فحقيقة الاجتهاد وجوهره تكمن في شروط إعمال النصوص وأحكامها. فالحكم المجمع عليه إذا كان متعلق بعلة غائية تبدلت أو بعادة تغيرت أو بعرف تطور فلا بد من الاجتهاد. وقد أعمل عمر اجتهاده في مسائل حد السرقة والمؤلفة قلوبهم والزواج من الكتابيات وإمضاء الطلاق الثلاث بأن ربط الحكم بشروط إعمال النص.

الدين والدولة

في الحضارة الغربية يوجد تناقض بين الدين والدولة معروف سببه. فالأول ثابت مقدس والثاني متغير دنيوي. القيصرية والبابوية أضفيا قدسية الدين على المتغيرات في عهدهم، فكان الجمود والرجعية والاستبداد. وجاءت النهضة عندهم وفلاسفتهم فتم الفصل بين الدين والدولة والانتهاء من المشكلة باعتبارهما نقيضين لا يجتمعان. وحمل الاستعمار هذه الفكرة إلينا، فرأوا في الخلافة قيصرية وبابوية. وليست هكذا طبيعة الإسلام لأن الدولة ليست أصلاً من الأصول الاعتقادية. بل هي فرعية من الفرعيات كما ذكر الغزالي والجويني والقرافي وابن خلدون. رأس الدولة وجهازها بشر يخطئ عندنا ويصيب، ولا يصوب من السماء والرعية في دولة الاسلام متنوعون والرابطة بينهم رابطة سياسية، وفرّق بين المواطنة والموالاة. ولكن مع هذا فإن الدولة المدنية في الإسلام هي دولة إسلامية، لأنها لا يجوز أن تتخلف عن حياة الجماعة، فلا يجوز أن تكون غير إسلامية من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. لذا فإن إسلامية المرجعية والمشروعية حق مترتب على جوهر الدين والإيمان بالله واليوم الآخر. كيف يمكن أن تكون الدولة إسلامية دون أن يحوزها حزب أو جماعة؟ أولاً لأنها اجتهادية فلا يحتكر التفكير فيها فئة من الناس. وثانياً لأن اختيار الحاكم أمر شوري من قبل أهل الشورى والشوكة فلا مجال للاحتكار. وثالثاً لأن الفرائض الكفائية يسند التكليف بها إلى الأمة لا إلى فئة. رابعاً: لأن الاجتهاد السياسي هو اجتهاد بشري… فلا يمكن أن يدعي أحد أن شوراه هي حكم الله. إن الأمة في الإسلام هي مصدر الدولة، تختار من يقترب بالوسيلة من تحقيق الغايات. الأمة مصدر تقديم نصوص بما لا نص فيه بواسطة أهل الاجتهاد. الحكم في الدولة الإسلامية لله بواسطة الأمة المستخلفة عن الله، فليس هناك حكم فرد أو حزب، فتاريخنا لم يعرف حكومة فقهاء. والإمام مالك رفض أن يكون الموطأ وحده هو القضاء. فليست الكهانة مرفوضة فقط، بل وأحادية الاجتهاد. وولاية المفضول إن كان أفضل سياسياً مقررة.

الشورى البشرية والشريعة الإلهية لا تناقض بينهما. الشريعة الإلهية تتمثل في أصول ومقاصد، والشورى البشرية تتمثل فيما هو موضوع لشورى الإنسان. الأولى لها مكانة المرجعية والثانية لها سياسة الأمور والاستخلاف والإعمار وعلائق الناس… المسؤولية الفردية تحمي الفرد من الذوبان في القبيلة. والتكاليف منها فردي ومنها جماعي، والبلوى الجماعية تعم الأفراد الذين لا يد لهم فيها والأمة ليست جمعاً كمياً، وإنما هي كيان جامع تجتمع فيه الشعوب والقبائل المتعارفة المهذبة بالعقيدة. والتفاوت الاجتماعي حقيقة نابعة من تفاوت الحوافز والقدرات والإسلام لا يلغيها ولكنه يهذبها في إطار الشرع ونطاق العدل فالصراع الطبقي خصيصة غربية لأن آفاق الحرية عندهم لا تعرف الحدود.

قضية الوطنية والقومية

إن الإسلام هو فكر الأمة وله الانتماء الأول، والمسلمون هم آل النبي ورابطة تعلو فوق الأنساب، لكن الإسلام لا يعني أن لا يكون للمسلم انتماء آخر. فالإسلام دين الفطرة ويتعامل مع الواقع. والإنسان يمنح أقرباءه درجة أكبر وأخص، ومحيطه الأقرب هو وعاء ذكرياته. واللغة تمنحه مستوى خاصاً من التلاحم مع من يتكلم بها. فهناك رموز يمنحها الإنسان ألواناً من الولاء. فهل هذا يتناقض مع ولائه للإسلام؟ الإسلام جامعتنا ولكن ليس الجامعة الوحيدة، فتحت مظلته يحفل الواقع برموز عديدة، والتعايش معها تحت مظلة الإسلام أمر جائز باشتراط عدم التعارض. الولاء لله، وعندنا ولاء للوالدين، وحب للوطن واللغة والقوم، ولا بأس بتخصيص ذلك من الرعاية، وقد تكون باتساقها مع الجامعة الإسلامية باعثة على الجهاد، وترتقي إلى الغاية الكبرى في عز أمة الإسلام. وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نرتفع بحب الوطن إلى هذا المركز، فدعا أن يحبب الله إليه المدينة، وأن يتوقف الذين يهيجون المشاعر إلى مكة، ونهى عن عصبية الجاهلية. فصير بلال وسلمان عرباً “ليست العربية لأحدكم من أب أو أم، وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربيّ”. وسُئل عن حبّ الأهل إذا كان من العصبية فقال: “لا، ولكن العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم”. إن العصبية القومية بهذا المعنى لا تتناقض مع الفكر الإسلامي وغاياته، بل هي لونٌ من طاقات الواقع الإنساني وأسلحة الإمكان البشري.

هذه دلالات من الإنجازات في ميدان التنظيم الاجتماعي والدمج البشري والتلاحم الإنساني. فيمكن إذن أن نجعل القومية دائرة انتماء وليس مذهباً ولا فكرية منافسة ولا مناقضة. فهل يمكن أن نرى الرابطة القومية صانعة لما صنعته سابقاً بأن تكون أساساً لرابطة إسلامية فتصبح إسلامية حضارية وأداة لتوحيد المجتمع، فإذا برئت القومية من العصبية المناقضة وصارت سبيلاً إلى عالمية الإسلام فلا تناقض.

التربية الجمالية

لا خصومة بين الإسلام والجمال. فإذا كان التجهم وإدارة الظهر لآيات البهجة أثراً من آثار المحن في وقت الاستضعاف، ورد فعل للتحديات المعادية التي ألقت بالهم والحزن على الوجدان الإسلامي، فليس من المقبول أن يكون التجهم من مقتضيات منهجنا الإسلامي. إن الحضارة هي إبداع الأمة في عالمي الفكر والأشياء. وهي في الإسلام وثيقة الصلة بالدين الذي هو الوضع الإلهي منذ كان الدين طاقة أثمرت توحيد أمة وقيام دولة وإبداع في كل الميادين. إن مكان الهجرة في الدعوة مهم جداً، فهي ليست لفك الحصار بقدر ما هو انتقال من البداوة إلى التحضر، ومن حياة الأعراب الخشنة إلى المدنية التي تتراكم فيها الإبداعات. والعلاقة بين الدين والحاضرة قديمة. لا ينبغي إذن أن يقف الإنسان متجهماً إزاء إبداع الحضارات. فإن تعطيل النظر في آيات الجمال تعطيل للدليل على وجود الصانع، وإن تنمية الإحساس الجمالي لدى المؤمن تنمية للملكات والطاقات التي أنعم الله بها عليه.

 ذو الحجة 1421/ مارس 2001