الأحكام الشرعية وسياقات آيات الكون في القرآن
جدلية غياب المعرفة وكمون التعلم
احتاجت عملية الإخراج من الظلمات إلى النور إلى جهود الأنبياء والرسل، واقتضت إنزال الكتب الهادية، وتوقفت على جهاد البشر مع مقتضيات حياتهم وأحوال معاشهم. ولقد خُلق الإنسان في وهن، ولكنه أعطي قدرة التحليق والتجريد والإبداع؛ خُلق ضعيفاً لا يستطيع الاستغناء عن مادة الكون ساعات أو أيام، سواء كان ذلك في ماء يشربه أو هواء يتنفسه أو طعام يأكله. ولكن بالوقت نفسه أُسجد الكونُ لهذا الإنسان وسُـخِّر له من خلال سُـنن مستقرّة تُعرف بالعقل. إن ضبط علاقة الإنسان بالكون ركن من أركان أي نظام عقدي، وهي النقطة التي سيعالجها هذا المقال كمدخل ضروري لفهم كيفية التعامل مع مسألتي الذبيحة والتقويم الهجري.
إن جدلية (غياب المعرفة وكمون التعلم) تؤطر حركة الوجود الإنساني، وتتجسد في ولادة كل مخلوق جديد، ذلك المولود الذي يمثّل أضعف حالات الخلق في اعتماده المطلق على غيره، لا يوازيه في ضعفه حيوان ولا نبات ولا مخلوق من غير البشر. ولعل الحَجْب المعرفي في بادئ الأمر أكثر إعجازاً من الضعف والاعتماد المادي، فليس للوليد معرفة مُفَعَّلَة غير إمكان الرضاعة، وليس عنده القدرة على التحكّم في عضلات تمنع خروج ما يؤذيه. والأعجب من ذلك كله الاعتمادُ النفسي على من يحبُّه ويرعى مشاعره وينمّي أحاسيسه، بحيث لو تخلفت هذه الرعاية لاضطرب مستقبل هذا الصغير أي اضطراب.
ثم في سلسلة من صيرورات النمو يفاجئُ هذا الضعيفُ مادياً المحجوبُ معرفياً العالمَ والتاريخَ بقدرة عجيبة على التحكم بالمادة بعد أن انكشف الغطاء وتفتقت المعرفة. والإنسان في كل ذلك بين نجدين وسبيلين؛ إما شاكراً يسير في الأرض يُسخِّر ما ذُلِّـل له ينفقه يمنة ويسرة على بني الإنسان لعمارة الأرض ورحمة الخلق، أو كفوراً يجوس خلال الأرض ليهلك الحرث والنسل وينشر الفساد في البرّ والبحر.
إن صورة النمو والدأب للخروج من الجهل والعطالة ليست حكايةً فردية لوليد، بل هي أيضاً حكاية البشرية في تاريخها الطويل. ويتشكل تحدي الخروج على المستوى الجماعي من طرفين: طرف إخراج البشرية من طبْق ظلام الجهل ورفع الغطاء الذي يحجب المعرفة، وطرف ترشيد المعرفة بعد أن تفتقت وخرجت من مكامنها لكي تخدم بني الإنسان من غير جبروت أو طغيان. وللتحكم بطرفي هذه المعادلة يحتاج الإنسان إلى هداية عُلوية تُزكّي عالم التصور من جهة وتُرَشِّد عالم الحركة من جهة أخرى.
علاقة السلوك بالتصور
إن تزكية عالم التصوّر أمر من أعسر الأمور احتاج إلى تراكم جهد الأنبياء عبر العصور. وذلك لأن ضعف الإنسان واعتماده على المادة يُمكن أن يقوده إلى ارتكاس معرفي يعبد فيه تلك المادة ويخلع عليها بعض صفات الألوهية والقدرة المستقلّة. ويمكن أن نستعرض نماذج من تاريخ البشرية القديم وكيف تعاملت مع ما يُطلق عليه اسم (قوى الطبيعة)، حيث نجد مثلاً من خضع تصورياً للأنعام أو خضع للشمس والقمر أو خضع للنار والماء.
ولنتوقف لحظة عند قضية فيضان الأنهار وكيف دخلت كعنصر اعتقادي عند بعض الأقوام. فها هو إنسان ضعيف معتمد على ماء النهر ليشرب ويزرع، فبدل أن يتعامل مع الزيادة الطافحة من هذا الماء بشكل أو بآخر، فإنه خضع لها خرافياً معتقداً غضب الآلهة الذي يستلزم إلقاء أجمل فتيات القوم لذاك النهر الغاضب. ويعكس هذا التصرف بحدّ ذاته طبقات متراكمة من الانحراف التصوري والجهل العملي. فلقد كانت الأقوام الغابرة في أشد الافتقار إلى المزيد من سواعد البشر للاستخراج العسير لما يمكن اقتياته واستعماله من البيئة المحيطة. وها هم يقدّمون إناثهم فدية وهنّ اللواتي عندهنّ القدرة على إنجاب ما يفتقرون إليه كمجموعة. وتعكس هذه الحالة ارتباط ظلم التصور بظلم العمل، فظلام تصور وفهم سنن الكون وقوى الطبيعة يقود إلى ظلم في العمل ووأد المخلوق الضعيف الذي يُحتاج إليه كشرطٍ للتغلب على ما يُهدِّد. أي أنه إذا كانت الكثرة العددية ضرورية في إمكان الاستفادة من مادة الطبيعة فإن رمي الذكور ربما كان أكثر حكمة لأن تعدد الزوجات يُمكّن من تكثير عدد القوم. وتكتمل صورة الانحراف التصوري عند ملاحظة الخضوع النفسي في تقديم الجميلات مهنّ بالخصوص؛ أي أن تفاصيل فساد التصور تنعكس في تفاصيل العمل أيضاً. فلو كان فساد التصور مقتصراً على الجهل بالفيضان الثائر لكان الهرب وعدم التفكير بالعمل اللازم كاف. ولكن لما اختلط هذا الجهل بمفهوم وحدة الوجود وعدم الفصل الكامل بين الخالق والمخلوق، اقتضى الأمر تصور أن الآلهة تجوع كما يجوع البشر فتُقدمّ لها القرابين وأن عندها رغبة فتُقدَّم لها أجمل الفتيات.
إن اعتماد الإنسان وافتقاره للمادة يمكن أن يأخذ أشكالاً فلسفية معقّدة. ومثال ذلك حال الهندوس الذين لا يأكلون اللحوم ويتركون البقر سائماً وهم النحيلون المحتاجون لكل حريرة. ويمكن أن يُقال إن البقر يحتاج إلى مراعٍ واسعة لا تتوفر للكثافة البشرية في الهند، ولكن بدلاً من ترشيد استهلاك اللحم ليكون مُتمِّماً غذائياً فحسب، خُلعت القداسة على المادة والمصدر المعيشي النادر. وارتبط هذا التأقلم الجاهل مع التنظيم الاجتماعي لحفنة طبقة البراهمة، لتُنسج من خلال كل ذلك تفصيلات عقائدية تُصنّف البشر فئات متنضّدة تأسر المستضعفين منهم في لعنة دورة تناسخ محقورة. ونرى هنا كيف يقود فساد التصور في التعامل مع المادة المخلوقة إلى ظلم الضعيف وخلعِ صفات القداسة على المتألهين من البشر.
والحالة الثالثة هي فساد التصور تجاه المادة في الفلسفة النفعيّة المعاصرة وكل ما يرافق ذلك من مفاهيم (الندرة) الاقتصادية، وتخيّل أن الإنسان كائن بشري اقتصادي تقتصر حاجاته على المادة. وها هو فساد التصور والعجز عن إدراك مفهوم التذليل والتسخير يقود الإنسان إلى مفهوم تملّك الكون وحيازته و(السيطرة على الطبيعة)، ويوجّه مخيال البشرية اليوم لتعيش في حقبة حالكة: حقبة تمتلك فيها الوفير من المادة وتفتقر إليها الملايين بآن واحد، ترمي بفتياتها في نهر تجارة الجنس التي غدت بنداً في ميزانيات بعض الدول تردُّ بها غضبة آلهة العوز وديون البنوك العالمية؛ وهكذا يعيش إنسان اليوم حالة وحدة وجود شرسة مع مادة الكون التي جُعلت عجلاً ذهبياً له خوار تصوري طاغٍ.
فهذه ثلاثة مواقف خرافية تؤله المادة بشكل أو بآخر: في طرفها الأول تَسجد للمادة النهر وترتعد من التعامل معها، وفي الوسط تَسجد للمادة الحيوان وتقتصر على استعمال روثه، وفي الطرف الأقصى المقابل تَسجد للمادة وتستعملها لتقتل نفسها بالسلاح والتلوث وتغيير الخلق. وإنه إذ تُمثِّل هذه الحالات التاريخية ثلاث درجات من التمكّن من الأسباب الكونية -من أدناها إلى أعلاها- فإنه لم يُغْنِ فيها التمكنُ مع فساد التصور؛ بل إن زيادة التمكّن من المادة مع فساد التصور زاد من حجم تهديد الإنسانية.
توقيت العبادات بالآيات الكونية
لقد كان ما سبق مقدمة ضرورية للتفكر في مناسبة عرض القرآن الكريم المتكرر لآيات الكون لعالم عاش دهوراً –ولا يزال يعيش– تحت وطأة تبعات سوء فهم تصور الكون ومفهوم الخلق. وينطلق هذا المقال من فكرة أن فهم التشريعات الإسلامية يجب أن يُؤطّر ضمن الأسس التصورية القرآنية؛ ويعالج المقال بالخصوص مسألة الذبائح ومسألة ربط توقيت العبادات بحركة الشمس والقمر.
لم يكتف القرآن الكريم بالإشارة إلى الخالق المنعم بكل صفاته المجيدة، بل دعا خصوصاً إلى التفكّر بآيات الله والتأكيد على تسخيرها. فمزدوجة (الخلْق والتسخير) المفهوماتية هي التي تحفظ توازن السلوك وتحمي من الانزلاق في انفصاميّة التصور والعجز عن ربط الظواهر بعضها ببعض، الأمر المودي للإفراط أو التفريط. فمن وجه يمكن للانفصامية التصورية أن تدفع باتجاه تقديس المادة ليُصبح الاستغلال والاستعلاء نتيجة حتمية، رغم كل ما يُحاوَل من تهذيب هذا النمط بتحسينات إجرائية. ومن وجه آخر يمكن للانفصامية التصورية أن تدفع إلى انقباضيّة دينية تعجز عن تفعيل الظواهر، ليصبح الوهنُ والعجزُ نتيجة طبيعية، رغم كل ما يُحاوَل من تجميل هذا النمط بمواعظ خُلُقيّة. وتتنوع أشكال معالجة القرآن لفكرة الخلْق والتسخير، ولكن تظهر بوضوح في معالجة ظاهرتين من ظواهر الحياة يعتمد عليهما الوجود البشري: الأنعام، والشمس والقمر.
لقد احتاج تقويم التصور إلى تزكية مفهوم الأنعام التي ارتبطت بها حياة الناس. فلقد كانت الأنعام المصدر الأساسي للطاقة ومعظم قوت الناس، وتنوعت كثيراً الأشكال التي أضفت على الأنعام صفات القداسة. ونجد أن القرآن الكريم يعترف بفوائد الأنعام، فهي دفء ومتاع، والخيل والحمير والبغال لنركبها وزينة، كما أنها تحمل أثقالنا إلى بلد غير بالغيه إلا بشق الأنفس. ويشير القرآن إلى منافعها مؤكداً على أنها منّة من الخالق المبدع ففيها الجمال والزينة فوق المنفعة، وذلك ضمن منظور الخلق والتسخير.
ويعطي القرآن الكريم الوفير من مساحة النص وهو يتهكّم بتفتيقات الجهل المرتبطة بالمأكول من الحيوان التي تُلبس لبوس ديني: ما هو خالص للذكور ومحرم على الأزواج أو ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؛ معتبراً ذلك افتراء على الله وإضلالاً. ويستمر القرآن الكريم بالتذكير بالوجه النفعي لهذه المخلوقات، ثم يُحرِّم أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه، مسألةً تتجاوز التسمية اللفظية، فالسياق يتصل بالمناخ العقدي المتحمور حول القرابينية التي تستحق الوعيد الحاسم بأنكم إذا أطعتم مذاهب إشراك الحيوان في التعبد إنكم لمشركون؛ فمجرّد أكل اللحم المحرَّم لا يمكن أن يكون إشراكاً.
ولعله من اللطيف ملاحظة أن السور الست التي سُـمِّيت باسم حيوان ارتبط الاسم بمعالجة بعض آياتها لمسألة عقدية فاصلة: البقرة وعبادة العجل، والأنعام والمعالجة الطويلة لتفاصيل الاعتقاد في المأكول من الحيوان، والنحل والتدليل على إعجاز الخلق، والنمل وجند نبيّ في مواجهة من يسجد للشمس والقمر، والعنكبوت للإشارة لتهلهل أطروحة الشرك، والفيل وتهديد بيت الوحدانية.
أما الظاهرة الأخرى التي ركّز عليها القرآن بتفصيل وتكرار فهي الشمس والقمر والنجوم. فها هو المنطق الإبراهيمي يتحدّى خطأ فهم مكانة الشمس والقمر والنجوم وموضعها من التصور. ويتلخّص التحدي في التفريق بين فهم وحدة الوجود مع الكواكب، وبين النظرة السُـننيّة التي تؤكد أن الله أودع خلقه قانون الظهور من المشرق والأفول من المغرب. ونعَت الآيات الكريمة على أعراب الأمس إشاعة خرافات الّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فما هي إلا أسماء ودعايات مخترعة. ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولة مُطرنا بنَوء كذا، وحين مات ابن خير البشر سارع إلى القول بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد. إن مثل هذه التوجيهات، بالإضافة إلى التنبيهات بأن لا يُتخذ قبره عيداً، والنهي عن قولة شاهٍ شاهٍ، والنهي عن الانحناء والسجود لبشر ليست إلا جزءاً من منظومة تحرير الإنسان على مستوى التصور وحمايته من الانزلاق عند الشعور بالضعف.
ويقتضي تحرير الإنسان إناطة المسؤولية والخيار بالفرد، فالحساب فردي لمن هُدي النجدين، يأتي يوم القيامة فرداً لا يُبخس من عمله مثقال ذرة. ولكن لا بدّ أن يكون عامة خطاب التكليف جماعياً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ…}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً…}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ…}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..}. إن جماعية خطاب التكليف –سواء كان الأمر في باب العبادات أو المعاملات- ضروري يناسب جماعية الحياة البشرية واعتماد البشر على بعضهم بعضا. وكذلك فإن خطاب التذكير في القرآن تجاوز جماعة المؤمنين وتوجه للناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…}.
وفردية المحاسبة وجماعية التكليف تناسب ارتباط هذين المستويين من الوجود البشري، فلا بدّ من توجيه العمل الفردي نحو الجماعي، وإلا لهلكوا وهلكوا جميعاً. وبالخصوص مما يهمّ هذا المقال أنه لا بدّ أن تكون تزكية الإنسان الضعيف من خلال أعمال عبادة يتمفصل فيها الفردي مع الجماعي. وأحد الحلول هو أن يودع القرارُ العباديّ في مؤسـسـة دينية تدعي لنفسها منـزلة فوق عامة الإنسان وتحْكُم باسم الله. ولكن أبى الإسلام ذلك وضبط عبادات الفرد بما لا تقوم الحياة البشرية إلا به… ربطها بالشمس والقمر.
ويصبح بذلك واجب التزكية اليومية من الصلوات الخمس سهل المعرفة يستوي فيها ذو الرتبة وسواد الناس، والغني والفقير، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والعربي والأعجمي. ويرسّخ هذا في شعور المسلم إحساساً عميقاً بالحرية، فها هو العبد الضعيف يتصل بالخالق المطلق من غير واسطة ولا رقيب، ولا يستطيع لأحد أن يُشكِّك في صحة توقيت صلاته ما دام إثباتها متوقف على شيء ساطع كالشمس. وفي أحكام الحيض مثال آخر، فحين اقتضت الحكمة – والعلم لله- أن تُعفى النساء من الصلاة في فترات عدم انشراح صدر الكثيرات منهن، فإن توقيت ذلك رُبط مطلقاً بمتعلقه العضوي رغم أن الأمر يتجاوز السبب العضوي؛ وهو فوق ذلك قرار فردي للمرأة لا يحتاج إلى تدخل خارجي. وكذا الأمر في عدّة الطلاق إذ رُبط توقيتُه بقروء عضوية – لا بحكم قانون خارجي– تملكُ فيه المرأةُ المعرفة الكاملة المخصوصة بها، إلى جانب ما في هذا من التأكد لبراءة الأرحام. ومثل ذلك يمكن أن يُقال في التهيئ النفسي للصلاة من الوضوء والغسل.
ويدفع نمط هذه التوجيهات المسلمَ أن يكون متناغماً مع الكون، يصحو بصحوة الكون وينام مع نومته، غير مفتقر لجهة رسمية تتحكّم بعباداته. وإذا دارت أيام السنة وجاء يوم الحصاد، ذكّرته ضوابط صلاته المحكومة بحركة الشمس بسُننيّة الكون، وأن لا نيروز ولا غيره يمكن أن يصرفه عن الفهم الســبـبي، وهو قد صلّى وفق سبب يجري لمستقر له، وضياء ونشور يسمحان بالسعي الحثيث، وما الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها إلا مخلوقات الله تُعِين على ضبط مواقيت ما يُزكي النفس التي أُلهمت الفجور والتقوى.
ومقابل السنة الشمسية التي تُنظّم يوم المسلم هناك السنة القمرية التي تُنظّم شهره. ومرة أخرى فإن ربط عبادة الصيام بظاهرة طبيعية يُغني عن مؤسسة دينية تتحكم بمشاعر المتعبِّد وشعائره. إن ربط آليات التزكية بما يستوي فيه الناس يتوجّه نحو تحرير الضمير الإنساني ونحو الاستغناء عن طبقة من رجال الدين، وذلك من خلال التواصل المباشر مع فاطر الحياة الذي تُصمد إليه العبادة. وتتواقت الضوابط مع التكليفات، فحين تتعطل الأجرام عن حركتها الراتبة يكون قد انتهت فترة التكليف ولا يمكن لعبادة أن تحدث بعدها.
ويقف مسلم اليوم تأكله الحسرة، يُتلى عليه كلامُ الله ويُحجز عن تجويل فكره فيه. فالشمس تجري لمستقر لها، ليس عبثاً وإنما تقدير من عزيز عليم، والقمر قُدِّر منازل لنعلم “عدد السنين والحساب” بمنطوق القرآن، والشمس والظلّ يرتبطان بعلاقة وصفها نص القرآن بأنها “دليلا”… ثم لا يسمح للإدراك المسلم أن يتجاوز المعنى الحرفي المباشر لحديث إثبات شهر الصيام، ويُحْرَم أن يفهم الأوامر التشريعية على أنها جزء من منظومة متكاملة متناغمة. كما يُطلب من مسلم اليوم أن يتغنى بعطاءات أجداده الحضارية، ولكنه يُحْرَم من معرفة موضعه من الزمن الجاري. فساعته السنوية معطّلة – يعرف يومه ولا يعرف شهره- ويعيش حياته فعلاً يوماً بيوم، يُطلب منه الصبر على ما حدث ومضى دون تشوُّف ما سيأتي ويمكن فعله. وهكذا يعيش المسلم ذاك التناقض بين النصّ المقروء والفعل المشهود. ويُطلب من العقل المسلم إحداث فِصام إدراكي في آليات فهم آيات الكون، فِصام يقتضي فصل المنازل عن الغاية منها، وإضفاء صفات الغيبية أو التعبد التوقيفي على المفهوم المعلّل. ولا عجب إذاً من تخلّف الشهود الحضاري عند استحالة شهود القمر المنير؛ وهل من تعبير عن العجز عن تفعيل المعاني والتوجه نحو مقتضياتها أوضح من ادعاء أن سـنتنا قمرية ثم لا نجرؤ على ضبطها.
إن كثيراً من المناقشات الفقهية اليوم ما زالت تصوغ المسألة على أن العلم الشرعي (أصل) وأن العلم الكوني (فرع)، أو أن العلاقة بين الحديث النبوي وعلم الفلك هي علاقة (تابع ومتبوع)، وكأنهما شيئان متنافسان، وكأنه يمكن لنصٍّ أن ينطق بمعزل عن عقل يُبصر. وهكذا يتمّ تهديد مشاعر المسلم المسكين الذي ليس له تحصيل في العلم الشرعي والحريص على سلامة عبادته، ويُقسر على دخول ساحة ذهول ذهني يقتصر فيها التعامل على مفاهيم اُستهلك كمونها ولم يعدْ لها معنى أو لزوم، كترديد فكرة الخلاف في وحدة واختلاف المطالع. وكل ذلك يعكس حالة عجيبة من تجزيئ الرؤية الشرعية والعجز عن ربط العبادات بنسق الإسلام التصوري.
يقول الدكتور ناجي بن حاج طاهر في هذا المعنى: “والعالم الإسلامي يحتاج إلى تكتل يمكنه من عودة سليمة للعالم. عودة تمكنه من القيام بأعباء الخيرية لأهمية الجعل الوسطي الذي خضع له عبر التاريخ، حيث يجتمع فيه المعتدل من المناخ وعش النبوة وأغلب الحضارات التي عرفها الإنسان وختم الرسالة واكتمالها وخزائن الأرض المادية والروحية. ولكنه رغم ذلك لم يعِ بعد وهو يحاول العودة إلى العالم هذا الدور المناط بعهدته. فهو كصبي ورث الملك ويبحث عمن يأتيه الحكم صبيا. ويعكس غياب الحكمة عنده تلاعبه بثروة الملك هذه المادية والروحية. يمكن رؤية ذلك فيما عشناه أخيراً من عجز عن توحيد بداية شهر رمضان ونهايته والأسئلة التي يطرحها وهو يستقبل بداية شهر أُنزل فيه القرآن. أي شهر عرف أكبر حدث في تاريخ الإنسان حيث مكنت النبوة عبر عظماء الرسل الإنسان من إكتمال فرقان الوجهة طوال رحلة امتدت آلاف السنين. وهي بحق مناسبة كبيرة لرصد موقعه ومعرفة خلل السفاهة التي يعاني منها وقد غاب عن الفعل في العالم والاهتمام به لعدة قرون. يبدو التشوه أكثر وضوحاً عند مواقف علمائه أكثر منه من مواقف عامته، حيث تُطرح أسئلة غريبه كـ (وُلد ولم نره) و (غُمَّ عليكم) و (عمر القمر كذا ساعة بالمكان الفلاني بزاوية كذا درجات فوق الأفق)، ولكن علينا الانتظار والتمهل لتتأكد أعيننا المجردة من ذلك. ويطول الانتظار ليتخذ القرار غائبا عن العالم”.
* * *
إن مسألة إثبات الشهر تتجاوز قضية تأويل لفظ الحديث والقول بأنه لم يُرَدْ به الرؤية العينية وإنما مجرد العلم، بل وتتجاوز المستوى المقاصدي للفهم (رغم وجاهته) والذي يُقدِّم ضرورة اجتماع المسلمين على أي اعتبار آخر… إن المسألة تتصل بتصور المسلم ومكانه من الوجود ومهمته في الأرض. إنها تتصل بمنظومة الإسلام نفسه التي تحرر من قيد الخرافة وتعقد علاقة سير وتفكر مع الكون، وتمنع من إيداع قرار العبادة في غير المُكلَّف نفسه؛ منظومة يتساوى فيها البشر رغم كل تنوعهم، وتتناغم فيها مشاعر الفرد مع حركة الكون حوله في سجود وركوع على منصته الفسيحة. إنها منظومة تشدّ الناس بعيداً عن التعلّق الطفولي بذات المادة، منظومة خارقة التصميم فيها الثبات وفيها القدرة على التكيف بآن واحد؛ فلا يُتهم القدامى بقصور في الاجتهاد أو العمل في تحرّي القمر حين كان مطلبه الرؤية العينية، ولا يُمكن اتهام المعاصر بالخروج والتغيير حين يبتغي ذات ما ابتغاه وطلبه من جاء قبله من المؤمنين. فالمحكّ والميزان واحد، وكل الفرق يكمن في زيادة ضبط الميزان اعترافاً بمنَّة من علَّم البيان وجعل الشمس والقمر بحسْبان.
والله تعالى أعلم.
11-19-2005/17 شوال 1426