اللغة هوية وثقافة ومنطق
نقل أبو حيان التوحيدي في كتابه “الإمتاع والمؤانسة” مناظرة علمية بين الشيخ أبو سعيد السيرافي عالم النحو، وبين متى ابن يونس أحد دعاة المنطق اليوناني. وقد دار الحوار في المناظرة حول إمكانية استغناء دارس المنطق عن تعلم اللغة وفنونها وتصاريفها، وجاء الشيخ السيرافي بكلام لا يكاد الدارس يجد مثله في بيان العلاقة بين اللغة والمنطق. وقد استوقفتني عبارة الشيخ السيرافي عندما قال: فالنحو منطق ولكنه مفهوم باللغة، والمنطق نحو ولكنه مفهوم بالعربية. وكأن الشيخ يقرر في عبارته أن اللغة التي يتحاور بها قوم من الأقوام هي التي تشكل منطقهم العقلي وعادات التفكير عندهم. فاللغة ليست مجرد أصوات أو قوالب لفظية للدلالة على الأشياء أو الأفعال، بل هي قبل ذلك وعاء ثقافي ومنهج عقلي في ربط المعاني بتوجه له صفات وخصائص متميزة.
وقد جاء الشيخ السيرافي في سياق مناظرته ببعض الأمثلة لبيان أن اللغة هي منطق متماسك يربط المعاني وما يجيش في صدور أهل اللغة من المشاعر، بما تعارف عليه أهل تلك اللغة من الألفاظ والتراكيب. وأتى بمثال على معاني الحروف ومنها حرف -الواو- ومواقع استعماله. فمنها العطف في قولك “أكرمت زيداً وعمراً”، ومنها القسم في قولك “واللهِ لقد كان كذا وكذا”، ومنها الاستئناف في قولك “خرجتُ وزيدٌ قائم”، لأن الكلام بعده ابتداء وخبر. ومنها معنى رُبّ التي هي للتقليل نحو قولك في شطر بيت امرئ القيس “وقاتمِ الأعماق خاوي المخترق”، ومنها أن تكون أصلية في الاسم كقولك “واصلٌ واقدٌ وافدٌ” وفي الفعل كذلك كقولك “وَجِلَ يَوْجَل”، ومنها أن تكون مقحمة كقول الشاعر “فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى” أي انتحى. ومنها معنى الحال في قوله عزّ وجلّ” ويكلم الناس في المهد وكهلاً” أي في حال كهولته. ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك “استوى الماء والخشبة” أي مع الخشبة.
وفي مثال آخر جاء الشيخ السيرافي بمسألة لها علاقة بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي وذلك لبيان صلة الضمائر وما تعود عليه في سياق الكلام. فسأل مُناظرَه: ما تقول في قول القائل: “زيدٌ أفضل الإخوة” قال صحيح. قال فما تقول إن قال: “زيدٌ أفضل إخوته”. قال صحيح. قال فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فانقطع وغصّ بريقه. قال الشيخ السيرافي: المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت ذاهلاً عن وجه بطلانها. فإنك إذا قلت “زيدٌ أفضل إخوته” لم يجز، وإذا قلت “زيد أفضل الإخوة” جاز. والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج عن جملتهم. والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال “من إخوة زيد” لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول عمرو وبكر وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فلم يجز أن تقول: أفضل إخوته لأنه خارج عن جملتهم. فإذا قلت “زيد خير الإخوة” جاز لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره فهو بعض الإخوة. ألا ترى أنه لو قيل “من الإخوة” عددته فيهم فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد. فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف واحد إلى نكرة تدل على الجنس، فتقول “زيد أفضل رجل”.
ثم قال الشيخ السيرافي: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك. وكل ذلك محصور بالرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف.
فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومرتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره فليس لكم فيه مقال ولا مجال. وأنت إذا قلت لإنسان “كن منطقياً”، فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً أو اعقل ما تقول. فإذا قال لك آخر: “كن لغوياً فصيحاً” فإنما تريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك. وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدّر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه.
لقد عرض الشيخ السيرافي في هذه المناظرة طرفاً من رؤوس المسائل والأمثلة على المنطق الداخلي في لغة العرب والذي يمسك ويؤلف بين المعاني وما تقتضيه من الألفاظ. ويجد الدارس لكتب النحو غزارة عجيبة عند دراسة معاني الحروف، ومعاني الأدوات واستعمالاتها، بما يفتح باب الفهم لأناقة وجمال لغة العرب. فالباء هي للاستعانة كقولك “كتبت بالقلم”، وهي للتعويض كقولك “اشتريت بدرهمين”، وهي للتعدية كقوله تعالى: {ذهب الله بنورهم}، وهي للإلصاق أو الملابسة كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}. وكذلك حرف الجر “مِنْ” فهو لبيان النوع كقولك “باب من حديد”، ويأتي للتبعيض في نحو قوله تعالى: {منهم أمة مقتصدة} أي بعضهم، ويأتي لابتداء الزمان أو ابتداء المكان كقولك “من الظهر إلى العصر أو من مكة إلى المدينة”. فعندما يأتي الحرف ضمن الكلام يفهم السامع من القرائن والسياق ما يحمله الحرف من المعاني وما يشير إليه المتحدث من المقاصد. ويطول الحديث عن حروف المعاني لو أردنا الاستقصاء ولكن في ما تقدم إشارة إلى المنطق اللغوي المتماسك الذي يصوغ عقل وثقافة المتحدث بالعربية.
ولا يقتصر الأمر على معاني الحروف بل يمتد منطق اللغة ليشمل علم الصرف ومعاني الأفعال حسب بنائها وما تحمله من أوزان وزيادات؛ فلكل صيغة ووزن معنى يضيف إلى المعنى الأصلي للفعل آفاقاً جديدة من مبالغة أو توكيد أو مشاركة أو استجابة وانفعال وغير ذلك مما يشكّل قوالب جاهزة لاشتقاق ونحت الألفاظ للمعاني المستجدة والحادثة.
والناظر في كتب أصول الفقه يقع على كنز غنيّ بالأمثلة التطبيقية لما تقتضيه معاني الحروف والأدوات من اختلاف في الفهم ومرونة وسعة في الاستنباط. وكذلك يقف على أمثلة لما يقتضيه ورود المعرفة أو النكرة في سياق الكلام. ومن الأمثلة الطريفة لبيان المنطق اللغوي المتماسك وأناقة لغة العرب في تصاريف كلامها، مسألة أصولية في ما يدل عليه استعمال النكرة أو المعرفة في الكلام. فقول القائل “كلّ برتقال مأكول” أو قوله “كلّ البرتقال مأكول” يحمل فرقاً كبيراً في المعنى. فـ”كل برتقال مأكول” قول صحيح، لأن النكرة في هذا السياق تفيد عموم الأفراد. وأما القول الآخر “كل البرتقال مأكول” فهو خطأ، لأن المعرفة هنا تفيد عموم الأجزاء وبعض أجزاء البرتقال لا يؤكل كالقشر والبذر. وقد سألني صديقي مرة: ما تقول في من يقول “كل البطيخ مأكول” فقلت: هذا جاهل بلغة العرب يروّج ذوق الحمير.
ومن الطرائف التي تدل على المنطق اللغوي المتماسك الذي يصوغ ثقافة المتحدث بالعربية، أن طالباً قال لشيخه بعد الدرس: ادعي لي يا شيخي. أجاب الشيخ: ذكّرني لأدعو لك. وتكرر الطلب بالدعاء من الطالب والشيخ يردد في كل مرة قوله: ذكّرني لأدعو لك. حتى تجرأ الطالب يوماً وقال لشيخه: ذكّرتك مرات كثيرة وأنت تعدني بالدعاء في كل مرة. فقال الشيخ: أنت تخاطبني بصيغة الأمر للمؤنث وليس للمذكر، فكان عليك أن تقول: “ادعُ لي” فهذا هو الخطاب المناسب للذكور، أما ادعي فهو فعل الطلب من الإناث.
وهنا يبرز السؤال عن علاقة اللغة العربية برسالة الإسلام. فهل كانت العربية الوعاء اللغوي للثقافة الإسلامية باختيار إلهي {الله أعلم حيث يجعل رسالته} لوجود التناسق والانسجام بين طبيعة الرسالة وعناصر اللغة ومنطقها وخصائصها؟
وهنا نرى أن باباً من المعرفة والفهم لا بد أن نفتحه ونتبادل الرأي حوله، هذا الباب الذي يفتحه سؤالنا عن خصائص العربية كطريقة لأداء المعاني وتنسيق الأفكار، وكيف تفردت هذه اللغة بتلك الخصائص لتجعلها الأداة الخالدة لحفظ الهدي الإلهي والرسالة الخاتمة.
وأظن أن أهمية البحث في هذا الموضوع تتجاوز القيمة التاريخية في بيان حكمة الله تعالى في اختيار العرب لحمل الرسالة وأداء الأمانة نظراً للظروف التاريخية المتفردة التي وضعت العرب في صحرائهم خارج إطار النفوذ السياسي لطغيان امبراطوريات عصر الرسالة مما مهد لقيام الكيان المستقل والمجتمع النموذج المـتـمثل لقيم الوحي والرسالة الخاتمة.
إن البحث في خصائص االعربية التي أهلتها لتكون وعاء المعاني للرسالة الخالدة يدفعنا لاكتشاف ما تفردت به هذه اللغة مما يفتح لنا آفاقاً في فهم وسائل الدعوة والبيان وأساليب عرض العقيدة وقيم الوحي. وربما كانت بعض هذه الآفاق بكراً لم يتعرض لها الباحثون بالقدر الذي يشفي الصدر في هذا الموضوع الخطير.
فإذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون القرآن الكريم هو ختم الرسالات وإكمال الدين، فإن لهذا الأمر الخطير متطلبات وشروط ليدوم عطاء الوحي وتستمر الإنسانية في استرشادها بقيمه وتوجيهه ومقاصده.
فهل من الممكن أن يدوم عطاء الوحي وتستمر الرسالة الخاتمة في أداء دورها في توجيه الحياة الإنسانية إلى الخير إذا لم تتأصل قضية المرجعية وثبات المقياس في أداء المعاني وفهم مقاصد الوحي؟
وهل من الممكن أن تستمر الرسالة الخاتمة في أداء معاني الوحي الإلهي والقيم الربانية نضرة كما جاءت يوم أنزلت، إذا كانت طريقة التفكير وطريقة الفهم وطريقة الربط بين المعاني والعبارات سابحة مع تغير الزمان والمكان ومتقلبة مع الأعراف والأحوال؟
وهنا أرى أن العلاقة بين خصائص الرسالة وأنها خاتمة وأنها عالمية وأنها خالدة هي علاقة وثيقة مع اللغة كوعاء للمعاني وطريقة في التفكير ومنطق في التعامل مع الواقع.