حتى نصل القمر
سوف نكتب عن القمر حتى نصل القمر! ولقد تساءل بعض القراء لم نكتبُ عن الموضوع، والحقيقة أن السبب الذي يدفعنا إلى ذلك أن المسألة ليست متعلقة برمضان فحسب وإنما متعلقة برؤيتنا للحياة ورؤيتنا للدين… متعلقة بشخصيتنا الحضارية… متعلقة بمنهج تفكيرنا الإسلامي.
وهناك من الكتّاب من يشخص المسألة على أنها ردّ فعل للتقدم التكنولوجي الحديث. أي أن الدين التقليدي (كذا) يصعب عليه التماشي مع العلم الحديث والتكنولوجيا. وما أظن أن هذا التحليل صحيح، كما أرجو أن لا يُفهم ذلك من العنوان الذي اخترته. ذلك أن المشكلة مشكلة تعامل مع النص… إنها مشكلة المنهج أو الطريقة التي نتعامل فيها مع الحديث النبوي في هذه الحالة.
وقبل أن أتكلم عن طريقة فهمنا للنصوص أريد أن أذكِّر بنقطتين رئيستين حول دخول رمضان بالحساب الفلكي المحض:
- لقد صام الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والتابعين من بعده وفق الحساب الفلكي دوماً. وذلك أنهم كانوا إذا غُمَّ عليهم صاموا اليوم الثلاثين ولم يصوموا اليوم الواحد والثلاثين ولو غم عليهم لأنهم عرفوا أنه وفق الحساب الفلكي لا يمكن أن يكون الشهر القمري فوق الثلاثين. أي أنهم استعملوا الرؤية فقط في غياب إمكانية الحساب في عهدهم.
- إن الله جعل من مواقع النجوم ما نعلم به {عدد السنين والحساب} ونحن بالطبع لا نعبد النجوم والشمس والقمر بل إن الكون كله منسجمٌ في عبادته وخضوعه لله تعالى. وقد وقّتَ سبحانه وتعالى صلاتنا بحركة الشمس التي تضبط النظام اليومي للفرد (والمنسجم مع علاقة ذلك بالصحو والنوم وسهولة الحركة في الضياء مقابل سكون الليل)، كما وقَّت صومنا وحجّنا بحركة القمر التي تضبط نظاماً سنوياً ديناميكياً يضم أنواع الفصول بحيث تتنوع الخبرة البشرية وتغني الجوارح المسلمة التي تؤدي الصوم والحج وهي تواجه الصبر وطلب التقوى وتلبية الدعاء الإلهي الخالد في مختلف الظروف والأحوال.
والخلاصة أن عندنا نظامين محكمين ينظمان عبادتنا بدقة وروعة وثبات. وما علينا أن نتحرج أن مساحة معرفتنا بهذين النظامين ازدادت عما كانت عليه على زمن الجيل الأول. بل إن الذين يستعملون الهاتف ليستفهموا عن حدوث الرؤية في بلد آخر يستعملون مساحةً من المعرفة أوسع مما كانت عليه من قبل في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة. وكان القضاة يحكمون عند النزاع على ولدٍ بين أسرتين بالشبه من خلال الرؤية والنظر في سمات الوجه والجسم وما إليه، أو ما تحسب أن هؤلاء القضاة اليوم لن يترددوا في استعمال تحليل الدم لأنه يؤدي إلى معرفةٍ أيقن.
ويمكننا استحضار أمثلة أخرى في هذا المقام، فلقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه ليس لمال التجارة حول واحد ولكن كل صفقة لها حول، ولو فرضنا أننا أخذنا بهذا القول فإن تطبيقه للشركات الكبيرة يكاد يكون مستحيلاً بلا استخدام مبادئ المحاسبة الحديثة، وربما استخدام الحاسوب أيضاً. فهل في هذا الاستخدام بعد أم قرب من الشريعة. ولقد أمر الله تعالى بكتابة الديون من أجل ضبطها وحفظ حقوق الناس، فلو اختلف المتداينون وزعموا أنه كان هناك تزوير وتحريف في الوثائق لما ترددوا في استخدام ما أتاحته معرفتنا من تحليل الحبر لمعرفة قِدَم الإمضاء وما شابه من وسائل، ولما ترددنا أن في ذلك تحقيقاً لمراد الشريعة من حفظ الحقوق ولقلنا أن اختلاف وسائل التحقق ليس هو المهم، بل يغلب أن نذهب إلى وجوب استخدام هذه الوسائل… وما ذهب إليه القرضاوي من وجوب استخدام الحساب يدخل في هذا المفهوم. ولقد صلى الصحابة على زمن عمر بن الخطاب المغرب في يوم غائم ثم طلعت الشمس بعدها، فلو كان في أيديهم ساعات اليوم هل يمكن أن تجوز صلاتهم؟!
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن مسألة “إمكانية الرؤية” مسألة متهافتةٌ لا حاجة لها إذا استقام في ذهننا أن صومنا مؤقت بحركة القمر مطلقاً فلا داعي لخلق خلاف حول المدة المعتبرة لغروب القمر بعد الشمس لأن هذا التوجه يفوِّتُ المقصد من جعل الصيام عبادة مضبوطة بالنظام القمري ويجعل من الرؤية أصلاً لا وسيلةً للتحقق (والله أعلم).
وهنا لا يسعنا إلا أن نقف وقفة إجلال نشير عبرها إلى نظرات متوازنة في تراثنا، حيث أن الإمام النووي في كتابه المرجعي (المجموع) يقول إن الفقهاء قد اختلفوا في قول المنجم (يعني المتتبع لحركة النجوم) هل يلزم قوله أم لا، ثم يتابع فيقول إن البعض قالوا إن قول المنجم ملزم وقال البعض إنه ملزم لنفسه وليس ملزم للآخرين لأنه غلبة ظن في حقه فحسب. وسبحان الله، إذا كان هذا في زمانهم فماذا يُقال في زماننا نحن.
وأعود لما استفتحت به المقال بأن مشكلتنا هي مشكلة تعامل مع النص الشرعي، والعجب كل العجب ممن يقرأ الفقه في أمهات الكتب (أي في تلك الكتب القيمة التي تذكر الأحاديث والدلائل وتناقشها) وليس في المختصرات ولا يتجاوز تلك المشكلة، ذلك أن من يقرأ الفقه على هذا المستوى يجد جلياً المساحة الواسعة التي يعطيها الفقهاء لأنفسهم في تأويل النصوص إذا وجد ما يقتضي ذلك.
لقد آن الأوان أن ندرك أن إسلامنا دين شامل في تنظيم الحياة ولا يمكن أن يقبل التناقض الداخلي أو الخارجي، ولا مندوحة عن النظر الإجمالي الذي يستوعب مجموع النصوص لا أفرادها، وروح النصوص لا حروفها، فإن هذا ما يحقق مقاصد الشريعة وتستقيم به الحياة وينفي التضارب في الدين الخالد ويجعل الحياة يسراً ميسوراً، ونظماً معقولاً، كما أن هذا هو ما يمنع من تحجيم النصوص وخنق عالميتها.
09-1420 هـ / 12-1999 م