مصطلح الزينة في القرآن

3٬940

امتن الله سبحانه على عباده بأن خلق لهم ما ينتفعون به من مأكل ومشارب ومراكب. وامتن عليهم بالإضافة إلى المنافع شيئاً آخر يتعلق بها وليس من جنسها وهو كل ما يتعلق بجمال المنظر وحسن الهيئة وبديع التنسيق، مما يثير في النفس السرور والبهجة والارتياح والنشوة، وهذا هو أصل معنى الزينة.

        {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6].

        {وَالخَيلَ وَالبِغالَ وَالحَميرَ لِتَركَبوها وَزينَةً وَيَخلُقُ ما لا تَعلَمونَ} [النحل: 8]

        {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]

        {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].

وفي كل هذه الآيات وأمثالها يذكر الله سبحانه منته على عباده بما خلق من الجمال زيادة في الفضل والتكريم، ويأمر بالنظر والتمتع {انظُروا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثمَرَ وَيَنعِهِ} [الأنعام: 99]. {خُذوا زينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وَكُلوا وَاشرَبوا وَلا تُسرِفوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفينَ} [الأعراف: 31]. وينكر على من ادعى حق التشريع والتحريم لأنواع من الطيبات {قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ اللَّـهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ} [الأعراف: 32]. وفي هذه الآية ينسب الله سبحانه الزينة إلى اسمه نسبة تشريف. وما أجمل ما قال الإمام الشاطبي حين قرر أن الله سبحانه وتعالى كريم، ومن عادة الكريم أن يريد ممن يكرمهم أن يأخذوا من النعم والفضل بنصيب وأن لا يعرضوا عن عطائه وفضله.

ومن جهة أخرى يذكر الله سبحانه أنه جعل حب الزينة فطرة مركوزة في كيان الإنسان لا يستطيع الانفكاك عنها إلا أن تتشوه الفطرة ويطغى الفساد والخبال.

        {إِنّا جَعَلنا ما عَلَى الأَرضِ زينَةً لَها} [الكهف: 7]

        {المالُ وَالبَنونَ زينَةُ الحَياةِ الدُّنيا} [الكهف: 46]

        {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ… الآية} [آل عمران: 14].

وعند تأمل السياق الذي ورد فيه هذا التقرير لما جعله الله سبحانه فطرة بشرية وجبلّة إنسانية، نجد أن هذا التقرير يرد في سياق التفضيل لمعالي الأمور وصالح الأعمال لتوجيه المتعة والاستمتاع إلى غايته الوظيفية من جعل الدنيا طريقاً للنجاح في الآخرة، فينضبط الاسترسال والميل إلى المشتهيات والمرغوبات – بكل أشكالها وأنواعها – بضابط الاعتدال والبعد عن الإسراف وذلك لاستقرار المنافع والمصالح ورفع الفساد عنها بالنظر إلى العواقب. فلا يتعارض الاستمتاع وأخذ الحظ من الشهوات مع تزكية النفس لتبلغ ما قدّر لها من الكمال الإنساني المتوازن.

        {إِنّا جَعَلنا ما عَلَى الأَرضِ زينَةً لَها لِنَبلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]

        {المالُ وَالبَنونَ زينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]

        {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]

        {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].

ولعل من أوضح الأمثلة على التوجه القرآني لضبط الاسترسال في التمتع بما يقرر أنه زينة وفطرة وجبلّة، قوله تعالى: {وَاعلَموا أَنَّما أَموالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظيمٌ} [الأنفال: 28]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].

فعندما يؤول حب زينة الحياة الدنيا إلى التثبيط عن الواجبات وعن القيام بالحقوق والتسامي إلى معالي الأمور، يصبح هذا الميل إلى الزينة مهلكة، ويصبح فعل المحبوب مساوياً لفعل العدو الذي يغري بما يؤذي ويضر ويوقع في العنت والخبال. وفي إطار هذا المعنى من الضبط والتقييد بأخلاقيات التراحم والتكافل، قوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده. {وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَيناكَ عَنهُم تُريدُ زينَةَ الحَياةِ الدُّنيا} [الكهف: 28]. فإرادة الزينة والميل إلى ما تستدعيه الفطرة والجبلة أمر يستحق اللوم والمعاتبة إذا تعارض مع ما يقتضيه التواضع للمؤمنين والتباسط مع المساكين. ومن أوضح الأمثلة على الأمر بترك الزينة عندما تتعارض مع التسامي إلى معالي الأمور وضرب المثل الصالح للاقتداء، قول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب: 28].

ومن جهة أخرى: نجد عند التأمل في قوله تعالى {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212]، أن معنى الآية قريب من آية آل عمران {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية 14 وكأنها تقرر (زين للناس حب الحياة الدنيا). فما معنى ذكر الذين كفروا في أمر لا يختصون به لكفرهم بل يشاركون فيه المؤمنين من الناس؟

يقرر ابن عاشور في تفسيره أن معنى تزيين الحياة لهم، إما أن ما خُلق زيناً في الدنيا قد تمكّن من نفوسهم واشتد توغلهم في استحسانه، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تحسِّن ما ليس بالحسن كالأقْيسة الشِّعرية والخواطر الشهوية. فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زَينٌ أمرٌ ليس بمذموم إذا روعى فيه ما أوصى الله برعيه.

ويفيد سياق الآية بيان حال تختص بالكافرين وهي قوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212]، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور. إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيراً من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث. ووجه سخريتهم بالمؤمنين أنهم احتقروا رأيهم في إعراضهم عن اللذات لامتثال أمر الرسول وأفّنوهم (أي نسبوهم إلى قلة العقل) في ذلك ورأوهم قد أضاعوا حظوظهم وراء أوهام باطلة، لأن الكفار اعتقدوا أن ما مضى من حياتهم في غير نعمة قد ضاع عليهم إذ لا خلود في الدنيا ولا حياة بعدها. فالسخرية ناشئة عن تزيين الحياة عندهم. اه

وكأن الآية الكريمة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} تقرر أن الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا استمتاعاً مقروناً بالاستهزاء والسخرية من المؤمنين الذين يراعون الضوابط والحدود ويتسامون إلى معالي الأمور، يجعل ذلك الاستمتاع مكروهاً ممقوتاً يشبه استمتاع الكافرين.

وبالإضافة إلى خروج الذين كفروا عن الضوابط الأخلاقية للاستمتاع بما هو متعة في أصل الخلق والتكوين، فإنهم يزيدون إلى ما يندرج تحت اسم الزينة والمتعة خيالات شيطانية وخبالات ليس لها من حقيقة الزينة وبهجتها شيء معتبر. فالخمر والمخدرات والتدخين ونشوة القهر والظلم والتسلط على الضعفاء، أمثلة على أوهام تتزين وعربدة لا تقيم وزناً للعواقب. وقد جاء في القرآن الكريم في بضعة عشرة موضع ذكر ألوان من المفاسد والخبائث زينها الشيطان وتقبلها بالقبول والاستحسان من فسدت فطرته وتشوهت جبلته:

        {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ ما كانوا يَعمَلونَ} [الأنعام: 43]

        {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ} [الأنعام: 122]

        {كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثيرٍ مِنَ المُشرِكينَ قَتلَ أَولادِهِم شُرَكاؤُهُم} [الأنعام: 137]

        {وَإِذ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعمالَهُم} [الأنفال: 48]

        {زُيِّنَ لَهُم سوءُ أَعمالِهِم وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الكافِرينَ} [التوبة: 37]

        {زُيِّنَ لِلمُسرِفينَ ما كانوا يَعمَلونَ} [يونس: 12]

        {بَل زُيِّنَ لِلَّذينَ كَفَروا مَكرُهُم وَصُدّوا عَنِ السَّبيلِ} [الرعد: 33]

        {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعمالَهُم فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} [النحل: 63]

        {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]

        {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]

        {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]

        {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} [غافر: 37]

        {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} [محمد: 14]

        {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12]

وقد ذكر القرآن الكريم قصة قارون بطريقة توضح ما يستحق العقوبة والنكال من أشكال التمتع بالزينة والثروة. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 77]، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81].

فالتمتمع بالزينة والثروة المقترن بالبغي والعدوان والفساد في الأرض والزهو والعُجب وترك الإحسان والاغترار بالعلم والتمكن والقدرة مع نسيان المنعم المتفضل، هو تمتع يخرج عن الإباحة إلى ما يستحق العقوبة والنكال. ولذلك ختم الله سبحانه قصة قارون بحكمة بالغة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

ولا يخفى على المطلع البصير أن نموذج الحياة الذي يدفع بالاستهلاك وطلب المتعة إلى أقصى مدى في الحضارة الغربية المعاصرة هو نموذج قاروني بامتياز. فالبغي والعدوان ونهب ثروات الشعوب وتدمير البيئة الطبيعية في البر والبحر والأجواء، هو ما يطبع نموذج الحياة المعاصرة في غرور تغذيه فكرة قهر الطبيعة والنشوة بالقدرة على التدمير والإبادة.

ختاماً لا بد من الوقوف عند الاستعمال القرآني لمصطلح الزينة في سياق مخاطبة النساء. فقد وردت الزينة مضافة إلى النساء في مواضع:

        {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]

        {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ... الآية} [النور: 31]

        {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]

        {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]. 

فالزينة عندما تضاف إلى النساء لا بد من فهمها في الإطار القرآني للفطرة البشرية كما خلقها الله سبحانه. فالله سبحانه يبين أنه خلق الناس أزواجاً لحكمة باهرة في نظام الكون.

        {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونساءً} [النساء: 1]

        {هُوَ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إِلَيها} [الأعراف: 189]

        {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]

        {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]

        {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ… الآية} [آل عمران: 14].

وعند التأمل في هذه الآيات نجدها تقرر أن الله سبحانه خلق نظام الزوجية في الكون لمقصد وهدف يتجلى في استقرار الحياة الإنسانية الفردية والجماعية. فجعل الميل بين الأزواج عميقاً أصيلاً تتحقق من خلاله مصالح السكن والاستقرار النفسي للأفراد، ومصلحة إنجاب الذرية والقيام برعايتهم وتنشئتهم وتدريبهم على مهارات الحياة ومسؤولياتها لفترة تمتد سنوات طويلة، ومصلحة استقرار نظام الأسرة وصلات الأرحام والقرابة والمصاهرة، وبناء لحمة اجتماعية متكافلة متعاونة. من أجل هذه المصالح المهمة، جعل الله سبحانه ميل الرجل إلى المرأة وطلب الأنس بمعاشرتها يتجاوز مطلب بقاء النوع وإنجاب الذرية. وجعل الأنوثة بكل أبعادها وعناصرها زينة يطلبها الرجل ويحرص عليها ويأنس بها. فإذا خرج هذا الميل الجامح عن القصد ولم ينظر فيه إلا لمجرد الأنس والمتعة والراحة، اضطرب النظام وعمت الفوضى وانحدر المجتمع كله إلى الدمار والهلاك.

ولذلك توجه الخطاب القرآني إلى الرجال عند الاختلاط بالنساء في الفضاء العام بطلب التزكية وتطهير الخواطر عن الدنايا والترفع عن الاستجابة للميل والشهوة على طول طيف الاستجابة للميل من إمعان النظر إلى حفظ الفروج. وتوجه الخطاب القرآني إلى النساء عند الاختلاط بالرجال في الفضاء العام بخطاب مماثل لما خاطب به الرجال من الأمر بغض النظر إلى حفظ الفروج، مع فرق دقيق عميق يخاطب النساء بما خاطب به الرجال من التزكية، بالإضافة إلى الأمر بترك إبداء الزينة وترك التأكيد على الأنوثة في مظهر المرأة وحركاتها في الفضاء العام.

{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ …. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31].

فالأمر بترك إبداء الزينة للنساء يجب أن يفهم من خلال احترازين اثنين: أولهما قوله تعالى (إلا ما ظهر منها) وهو ما لا يمكن ستره وإخفاؤه كالطول والقصر والنحافة والسمن ولون البشرة والحديث العادي الخالي عن التكسر والخضوع بالقول والتصنع، مما قد يكون في بعضه ما يثير الميل والرغبة. وأما ثاني الاحترازين فهو قوله تعالى {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. وقد شرح الشيخ الشعراوي رحمه الله هذه الآية بقوله: كلمة التبرج من البُرْج، وهو الحصن، ومعنى تبرَّج أي خرج من البرج وبرز منه، والمعنى لا تخرجن من حصن التستر، ولا تبدين الزينة والمحاسن الواجب سَتْرُها. وقال ابن عاشور: التبرج إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال. فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها، وذلك يخالف الآداب ويزيل الوقار.

وفي هذا العصر حيث تنتشر ثقافة العري والوقاحة والتفاهة، تتعاظم الضغوط والمغريات لتشعر المرأة أن عليها أن تبدي زينتها وتعرض جسمها في الفضاء العام وإلا فهي ناشزة عن العرف غريبة الأطوار، مكبوتة خاضعة في عصر الحرية والانطلاق. لقد أصبح جسد المرأة سلعة رخيصة للتسويق والإثارة بشكل يجردها عن إنسانيتها ودورها الفطري كأم وزوجة في بيت تغمره السكينة وأسرة تشدها المودة والرحمة.

إن على المرأة المسلمة أن تنأى بنفسها عن الخضوع لثقافة الوقاحة والتفاهة، وتنأى بنفسها عن صغار الاهتمامات بالزينة والتنافس في إبدائها، وأن تتسامى إلى الأفق الذي رسمه الله تعالى بقوله: {وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَيُطيعونَ اللَّـهَ وَرَسولَهُ أُولـئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ عَزيزٌ حَكيمٌ}[التوبة: 71].

وبعد، فالزينة والجمال وحسن المنظر وحسن الترتيب والتنسيق مما هو زائد على معنى الانتفاع والتسخير، نعمة ربانية والميل إليها فطرة إنسانية لا بد للإنسان أن يهتم بها ويأخذ حظه منها. وتبقى المشكلة عبر التاريخ الإنساني الطويل تكمن في ضبط الميل للزينة والجمال حتى يأخذ مكانه الطبيعي في أولويات الاهتمام والانفاق. فالاهتمام بالجمال وحسن الهيئة والمنظر عندما يصبح شاغلاً يصرف عن الاهتمام بمعالي الأمور وأداء الحقوق، أو عندما يصبح عامل تمايز ورفعة واستعلاء يفرض ضغوطاً اجتماعية واقتصادية، يقسم الناس إلى طبقات تنقطع فيما بينها وشائج التراحم والتكافل والتواضع، يصبح اهتماماً مكروهاً بعيداً عن التوازن والاعتدال ويفتح الباب واسعاً لفتنة التنافس على الدنيا ومباهجها والاستغراق في ثقافة التفاهة والصّغار.