مشروع وائل حلاق الفكري
التعريف بوائل حلاق
د. وائل حلاق من مواليد مدينة حيفا في فلسطين العام 1955، ينتمي لأسرة مسيحية، يحمل درجة الدكتوراه من جامعة واشنطن، والماجستير من الجامعة نفسها، أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة مكيجل، كندا.
درّس في جامعات: واشنطن، تورنتو، سنغافورة وأندونيسيا.
له العديد من المؤلفات منها: الدولة المستحيلة وتصدير الاستشراق، والشريعة: النظرية، الممارسة والتحولات، والثلاثية المعنية بهذا البحث وهي بحسب الترتيب الزمني: تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام 1997م، والسلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي 2001 م، ونشأة الفقه الإسلامي وتطوره 2005 م.
وله عشرات الدراسات والبحوث والمقالات والمراجعات المتخصصة حول موضوعات نشوء وتطور النظريات والمذاهب الفقهية وتاريخ التشريع الإسلامي والنظام القضائي في الإسلام، كما شارك في إعداد وتحرير موسوعات عن الإسلام، وأشرف على عدد كبير من الأطروحات الجامعية في جامعات عدة.
ترجمت أعماله إلى عدة لغات منها العبرية والإندونيسية والإيطالية واليابانية والتركية. في عام 2009 تم تصنيف حلاق ضمن أكثر 500 شخصية مسلمة تأثيراً على مستوى العالم.[1]
مشروع وائل حلاق
اعتنى حلاق بالفقه الإسلامي واعتبره منظومة معرفية متكاملة لها سماتها، وآلياتها، ونظامها الداخلي الدينامي، ودافع عن مصطلح الاجتهاد وطور من الأدبيات المتعلقة بالتقليد، حيث بيّن أنه في الأصول الفقهية عُدّ التقليد ظاهرة علمية لها مراتب تبدأ بحمل المذهب [حفظه] وتنتهي بالاجتهاد فيه، وبذلك يكون الاجتهاد في المذهب شكلٌ من أشكال التقليد مع أنه في ذاته وفي مسماه هو اجتهاد في المذهب. وهنا تبدو جدلية اختلاف السياقات جلية حيث أن التقليد الذي يذمه المستشرقون والحداثيون باعتباره “توقيف للزمن” كما يرى العروي، وأنه “استرجاع لينابيع التراث ودرء تقويض الماضي”[2] كما تعبر آرمسترونغ، يختلف في تصوره عن التقليد عند الفقهاء، كما ويبرز أهمية الدور الذي قامت به فئة المقلدين في علم أصول الفقه حيث ساهمت هذه الفئة بصنع حالة فقهية من جهة، وعززت من تكامل المنتجات الفقهية والأصولية من جهة أخرى. ويقترب الدكتور حمو النقاري من هذا التوجه لإعادة النظر في التقليد من خلال بحثه في البنية المفهومية واللسانية لكلمة التقليد حيث عدّ التقليد أنه “مقامٌ طبيعي يقوم به الإنسان مشتركاً مع غيره مرافقاً ومشاركاً”[3]، كما وقد اعتبر المنظومة المعرفية في كل تخصص عبارة عن” قِلْد” بمعنى الجماعة من القوم[4]. وعليه فإن “الانتساب إلى تخصص علمي ما يستوجب الحمل والاحتمال والتقلد لما يجتمع عليه “قِلْد” ذلك التخصص ويجمع عليه من جهة والالتزام به والملازمة له من جهة أخرى”. هذا وقد اعتبر الانتقال من القلد أنه حتمية للانتساب لقلد آخر باعتبار التقليد “لازماً من لوازم الوجود الإنساني بموجب طبيعته الاجتماعية” وعدّ هذه التنقلات بين الجماعات المعرفية أساساً للحركة والتطور المعرفي[5].
وقد ناقش حلاق دعوى مركزية الإمام الشافعي لعلم الأصول وعدّها أسطورة اختلقتها المرويات الاستشراقية وأكملت عليها بادعاء غلق باب الاجتهاد بعد القرن الثالث الهجري.
فقد تم تضخيم منجز الشافعي الأصولي بدءاً من شاخت وأستاذه جولدزيهر، وقُدّم على أنه النموذج والأساس والوجود الأحادي لظاهرة التأصيل الفقهي، وتم فصله عما سبقه من تأسيس فعلي حضوري، وما تبعه من إنماء وتطوير، وهذا مما يسهل من انكساره [أي علم الأصول] وتحطيمه بتحطيم الممثل الوجودي لهذا العلم هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُظهر هذا العلم على أنه علمٌ دخيًل ولقيط، ليس له أية أصول وصلات بمؤسسة الإسلام المُبكر، وهذا خلاف ما هو معلوم عن علم أصول الفقه حيث يُعلم كُمون أسسه في نفوس الصحابة والتابعين الفقهاء عند استنباطهم للأحكام وإن تأخر تدوينه حتى فعل ذلك الشافعي. أما في زمان ما بعد الشافعي فلا يمكن إغفال النماء والتطوير الذي شهده هذا العلم حتى نهاية القرن السابع الهجري، ويعبر حلاق عن ذلك بقوله إن تمركز علم الأصول حول الإمام الشافعي عزّز من جعل علم الأصول: “الفوران المؤقت الذي وقف على مفترق طرق بين النتيجة لهذه المصادرات وبين حتمية الانحدار وعفن التجمد الذي عانى منه الإسلام حتى أقدمت أوروبا والغرب على إنقاذه في عصر الحداثة هذا”[6]. ثم تأتي بعدها الحداثة بكتابات تنهال على الشافعي بمعاول النقد لأجل هدم ما شيّده من البناء التأصيلي، ولمِلء مخيال الأمة بقصور الخطاب التأصيلي للشافعي عن درك احتياجاتها الراهنة، لتأتينا الحداثة بعدها بحلولها الواهية. ومع ذلك فلا يمكن إغفال أن الشافعي شكل بؤرة انعطاف معرفية منهجية وتأسيسية لعلم أصول الفقه.
هذا وقد ظهرت في كتابات حلاق الأخيرة عنايته بالأخلاق، وناقش مطولاً ثنائية الأخلاق والإلزام، وبنى على ذلك استنكاره لتقسيم الأحكام الشرعية إلى عبادات ومعاملات مشيراً إلى أن العناية بالأخلاق التي دعا إليها الإسلام في المعاملات هي أمر دياني يبرز عناية الشريعة والمشرع بالفضيلة وليس مجرد علاقة بين الفرد وغيره، ولكن لا يفوتنا أن تقسيم الأحكام الفقهية إلى عبادات ومعاملات له العديد من الحيثيات من أهمها الأسس المعتبرة لصحة كل منهما حيث أن صحة العبادات تعتمد على نية الفرد، وعلى صحة الشيء في نفسه، بخلاف المعاملات التي يعد المعتبر فيها هو الشيء نفسه كما هو عند الشافعية، وهو مما يساعد في الوثوقية والثبات في عقود المعاملات فيُحافظ بذلك على حقوق الأفراد وهو أمر أخلاقي بحد ذاته، والفرق الأهم أن العبادات لا يدخلها القضاء؛ “لأن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الأخيرة” فتكفي فيها الفتوى بخلاف المعاملات[7].
تُعدّ ثلاثية حلاق مشروع مقاومة ضد الاحتلال الفكري الذي تمارسه قوى الاستعمار عبر الكتابات الاستشراقية التي انتشرت في القرن التاسع عشر والتي غذت من الهيمنة الامبريالية الأوربية والأمريكية والتي تبدأ بالهيمنة والاستعمار الفكري لتنتهي بالاستعمار والاستيلاء العسكري الفعلي.
وبذلك يصبح حلاق امتداداً لإدوارد سعيد، وإن اختلفا في الآليات تبعاً لاختلافهما في توصيف الاستشراق، حيث ارتأى إدوارد لاعتبار الاستشراق مشروعاً سياسياً، وهذا ما جعله يبدو كمن ينظر إلى قمة الجبل الجليدي دون النظر إلى أعماقه كما يعبر حلاق[8]، ويعد حلاق الاستشراق بنية معرفية عميقة جذرت وفرضت معاييرها ونتائجها دعواتُ التنوير.
هذا وقد حاول حلاق توفيد مرجعية علمية بديلة للأكاديمية الغربية عوضاً عن الكتابات الاستشراقية لتقويضها خاصة في مجالي الفقه وأصول الفقه.
ويعتبر هذا العمل خطوة لانتقاد المنتوجات الاستشراقية من داخل هذه المؤسسة التي تمنّعت بتغاضيها عن الانتقادات التي تقدمت من خارج المؤسسة الاستشراقية [من الإنسان الشرقي]، فهو [مشروع حلاق] كما يعبر حلاق: “محاولة جادة لزعزعة الفكر الاستشراقي من داخل معاقله”[9]. ومن هنا يمكننا أن نستخلص أن حلاق يحسب نفسه على المؤسسة الاستشراقية، ويصف فعله بأنه انتقاد داخلي يخترق تمنعات الاستشراق ضد الآراء الخارجية، وهذا يفسر توجه حلاق في كتابه قصور الاستشراق للتصالح مع المستشرقين موجهاً إياهم بضرورة الحفاظ على الروح أثناء القيام بتأسيس تقنية جديدة للنفس؛ أي بأن يصبح الاستشراق أكثر انفتاحاً على الذات الشرقية معرفياً بطبيعة النظرة إلى الشرق وبأن يحاول “تأصيل أفكار الحداثة الغربية داخل التراث الإسلامي كالبحث مثلاً عن مفهوم التعددية الدينية في أفكار جلال الدين الرومي”[10]، وأكاديمياً باعتماد باحثين من أصول مشرقية مثل وائل حلاق نفسه، يساهمون بإعادة إنتاج أفكار الحداثة بقوالب شرقية، وهذا مما يخالف فيه حلاق إدوارد سعيد الذي آثر العداء للمستشرقين كما عُرف عنه.
كما وقد عدّ حلاق الشريعة الإسلامية مادة ملهمة في شحذ نظام نقدي للحداثة وأخلاقها ومنتوجاتها من خارجها، وكون الشريعة نظاماً خارجانياً هو مما يضفي عليها الفاعلية المنشودة في أي نظام نقدي، فحسب حلاق أن الحلول النابعة من نفس النظام الإبستي الذي ولّد المشكلة ستفشل، وستؤدي إلى مشاكل ينجم عنها هي الأخرى مشاكل لا تقل عن سابقتها مما يعزز من إشكالية النظام؛ بتسلسل المشاكل الناجمة عنه، وهذا ما يتفاداه النقد بالشريعة باعتبارها خارجانية من جهة، وأنها نظامٌ ثقافي مستقل ومحمل بتقانات تهيئه للاستمرارية والديمومة على الرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة من جهة أخرى[11]، والنقد باستخدام “نظرية البراديغمات”[12] هو ما طبقه حلاق في كتابه الدولة المستحيلة حيث عرض سمات الدولة القومية الحديثة وطبق عليها المبادئ المنشودة منها كالبيروقراطية والسيادة وغيرها، ثم عرض سمات الدولة الإسلامية [دولة الفقهاء] وطبق عليها المبادئ الأخلاقية ثم ترك للقارئ مهمة المقارنة بين الدولتين بهدف نقد الحداثة كما وضح في مقدمة قصور الاستشراق.
وهنا أيضاً باستخدامه الشريعة كنظام نقدي يختلف مع إدوارد الذي آثر استخدام الليبرالية في معاركه التي باءت بالفشل بفعل الآليات المتداخلة (إشكالية النظام) التي ينجم عنها تسلسل في الإشكالات.
هذا وقد عزز حلاق من التنويه لاستقلالية المعرفة الإسلامية عن السلطات، ومما ساهم في تمتين هذه الاستقلالية هو اعتماد المؤسسة المعرفية وقيامها على نظام الأوقاف، والذي يتوجه بدوره حسب توجيهات الشخص الواقف فهو من يحدد الجهة الموقوف عليها والخدمات التي يحبذ أن يقدمها الوقف خاصته، وفي الأوقاف العلمية كان الواقف يحدد المدرسة المذهبية، والفرقة العقدية التي يحبذ أن تتولى تدريسها المدرسة الموقوفة، وبغض النظر عن أدلوجة الدولة وانتماءاتها، وهذا من شأنه تقويض الاستبداد بالمناهج العلمية من قبل الدولة كما هو سائد في الدولة الحديثة التي تعمل على تدريس عقيدتها وهمومها ورؤاها من خلال المناهج الموحدة التي تقرها على الجهات التعليمية، وكذلك المركزية المنتهجة في التعليم، والأهم ما تعيد هذه المدارس إنتاجه من علماء ومفتين ومدرسين مستقلين فكرياً ومنهجياً عن الدولة.
[1] تم الاعتماد في التعريف بـ “حلاق” على أغلفة كتبه المرصودة للدراسة، بالإضافة إلى موقع الويكيبيديا.
[2] تقديم كتاب مستقبل الإسلام لجون اسبوزيتو، كارين آرمسترونغ، ص7.
[3] أبحاث في فلسفة المنطق، د. حمو النقاري، ص 7.
[4] لسان العرب، ابن منظور، 3/386.
[5] أبحاث في فلسفة المنطق، د.حمو النقاري، ص 11.
[6] نشأة الفقه الإسلامي، وائل حلاق، ص 15.
[7] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، القرافي، ص 36.
[8] قصور الاستشراق، وائل حلاق، ص 14.
[9] تاريخ النظريات الفقهية، وائل حلاق، دار المدار الإسلامي، ط1، ص 6.
[10] مراجعة لكتاب قصور الاستشراق بعنوان “وائل حلاق في قصور الاستشراق: إعادة الاعتبار لصور ودور المستشرق”، محمد تركي الربيعو، موقع القدس العربي.
[11] انظر حوار مع د. حلاق، دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، العدد (6-7)، ص 515.
[12]حوار مع البروفيسور وائل حلاق حول الشريعة والإسلاموية والدولة العلمانية الحديثة، كريم محمد، معهد العالم للدراسات.