التعددية الدينية في المنظور الغربي

2٬340

تمهيد

يُعد الافتراق والاختلاف حالة إنسانية متجذرة تاريخيًّا، وقد أقر الإسلام هذا التفاوت البشري بكونه واقع لا محالة، فالاختلاف سنة كونية لا سبيل إلى الانفلات منها، حيث تتباين الجماعات البشرية في المظهر والجوهر، والنمط الفكري والاعتقادي والثقافي، أما الوحدة والفردانية فهي للذات الإلهية لا يعتريها تعدد ولا تركيب {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 119} [سورة هود].

وكما هو معروف، يعد الإسلام خطاب الأنبياء جميعاً خطاباً واحداً يدعو إلى التوحيد والإيمان باليوم الآخر ويؤكد على الفضائل الأخلاقية الكبرى. وضمن هذا جاء خطاب الرسالة الخاتمة ليعترف بأصل الرسالات ومهيمناً على معانيها التي تعرّضت للتحريف. وظهرت في التجربة المسلمة تياراتٌ حاولت تمييع خاتمية الرسالة وهيمنة معاني القرآن، لتطرح التعددية الدينية من منظور باطني. ومن ذلك ما قدّمه إخوان الصفا: الحق موجود في كل دين، والحق يجري في كل لسان، ومن الممكن أن تعرض الشبهة على كل إنسان[1].

ولقد تسرّبت إلى بعض طرق التصوّف الفلسفي شوائب التفسير الباطني للأديان، وضمن ذلك يورد عبد الكريم سروش في التدليل على وجود جذور تاريخية للتعددية الدينية أبيات لمحيي الدين بن عربي[2]:

وقد صار قلبي قابلاً كل صورة … فمرعى لغزلان وبيت لأوثان

ودير لرهبان وكعبة طائف … وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى تواجهت… ركائبه أرسلت ديني وإيماني

إلا أن ما ورد عن ابن عربي وغيره من العارفين قد يتداخل مع نظرية التعددية الدينية لكنه لا يعبر عنها، ذلك أن التعددية ترتكز إلى واقع الاختلاف ولا تنكره، وتريد قراءته على ما هو عليه، بالحفاظ على ما فيه من تباعدات وامتيازات[3]. فالتنوع حالة طبيعية إنسانية، فكل إنسان يولد في بيئة وظرف تاريخي مغاير للآخرين، ويعمل هذا الظرف على تشكيل فكره وثقافته، في حين يعمل تباين العقول على تباين الاجتهادات التي يتوصل إليها الإنسان، فليس الأمر تعنت وتعصب أو مؤامرة، بقدر ما هو تنوع طبيعي[4].

هدف هذا المقال عرض تعامل المنظور الغربي الحديث مع مسألة التعددية. وإن اللافت للنظر هو أن الثقافة التي تُكثر الحديث عن التعددية الدينية والتنظير لها هي التي اصطرعت مجتمعاتها مع التعددية الدينية وقامت فيها حروب يمكن أن توصف بالدينية. فكما هو معروف، شهدت المجتمعات الأوربية سلسلة من الحروب الدينية البينية في حين أنها غابت بشكل رئيس في المجتمعات الأخرى. ويُعزى هذا الغياب إلى سببين؛ الأول هو التعددية الشِركيّة التي تميّزت بها أديان الشرق. فمثلاً، هناك نسخ متعددة من الهندوسية تزامنت وتجاورت، ولا يشكل فيها الانتقال من فكرة اعتقادية إلى أخرى مخالفة لأصل الاعتقاد. الثانية هي شمول مقتضيات الدين لعالَـمي الدنيا والآخرة. ولا يعني أن الخلاف الديني والمذهبي لم يجرِ توظيفه في التجارب البشرية غير الأوربية، وإنما أن أسباب تلك النزاعات كانت بشكل واضحٍ نزاعاتٍ إثنية أو نزاعات صراع سياسي.

وكان طبيعياً لأوربة أن ترتكس لتاريخها الديني، وهكذا ظهرت فكرة التعددية الدينية فيها في عصر الأنوار، وتتطلّعت نحو عقلنة الدين وظهرت النزعة الإنسانية والتسامح وحقوق الإنسان، كما انبثقت مسألة التعددية الدينية. ويرى محمد تقي اليزدي أن هذا المفهوم عائد إلى محاربة الكنيسة للنظريات العلمية التي قدمها العلماء الطبيعيون أمثال كوبرنيكوس وغاليلو؛ ففي حين كانت تتبنى الكنيسة آراء بطليموس في الفلك وأرسطو في الفلك والفلسفة واعتبار تجاوزها تجاوزًا للدين نفسه بسبب فهم لنمط معين للنص الإنجيلي، عمل ذلك على إحداث تعارض ما بين الدين والعلم نتج عنه اعتبار المعارف الدينية غير يقينية، وبذلك يعتبر اليزدي أن مركزية التعددية الدينية هي في إحداث هذا النوع من الشك الديني، وسلب اليقين[5].

كما ساهمت البروتستانتية الليبرالية في دعوتها إلى التفسيرات غير التقليدية خاصة تلك التي تستند إلى العلوم الطبيعية والدراسات التاريخية، وكذلك في عدّ النشاطات العقلية في اللاهوت الديني ليست بالحاسمة والقطعية إلى نشوء الليبرالية السياسية والتي ساهم نفوذها في تبلور التعددية الدينية[6].

ولكن التعددية الدينية سرعان مع تقاطعت مع تصاعد القوميات في البلدان الأوربية؛ بمعنى أن المذاهب الدينية المختلفة داخل النصرانية الكنسيّة اتخذت لبوساً قومياً يتكلّم باسمها إلى أن أصبح مكوناً من مكونات طينتها. ووصل الأمر إلى أن تماهت هذه المذاهب المسيحية مع سياسات بلادها وأضحت جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات انتهاب ثروات الأقوام الأخرى، ومشى “التبشير والاستعمار” حذو الخطوة بالخطوة.

تعريف التعددية الدينية/ البلورالية

يُعد ويلفرد كنتول أستاذ معهد الإلهيات في هارفرد أول من تكلم في نظرية التعددية الدينية، وقد أخذ عنه تلامذته هذه النظرية وخاصة جون هيك، والذي يعد من أبرز وأهم المنظرين للتعددية الدينية، وقد وضع كتابه المشهور “فلسفة الدين” عام 1963 وتوالت طبعاته وبات له شهرة كبيرة[7].

نشأ مفهوم التعددية الدينية في الغرب وأخذ يشيع بعد منتصف القرن العشرين، وهو ترجمة للعبارة الإنجليزية religious pluralism وتدل العبارة عن معنيين؛ أحدهما: يدل على الطابع الاجتماعي أو السياسي العام. والآخر: وهو الذي يشيع في مجالات الدراسات الإنسانية والدينية وخاصة في مجال مقارنة الأديان[8].

وفي الماضي كان يشير مصطلح التعددية أو البلورالي على من يعتقد بإمكانية تولي الشخص الواحد عدة مناصب في الكنيسة، ثم أخذ المصطلح يكتسب مدلولاً معاصراً، ويعني في المجال الديني والفكري بضرورة تقبل العقائد والمناهج الأخرى، والدخول في مرحلة السلم معها[9].

ويشير اليزدي إلى عدة استخدامات لمصطلح التعددية، إذ ليس هنالك تعريف كامل وجامع للخصوصيات المتفق عليها لهذا المفهوم، وهي:

التعايش السلمي الهادف إلى الحيلولة دون وقوع الحروب والخصومات، فالتعدد والكثرة يجري قبولهما كواقعة اجتماعية، فالمطلوب هو هذا النوع من التعايش في المجتمع القائم على تقبل الآخرين، وعدم إقصائهم.

يقوم هذا المعنى السلوكي للتعددية على تقبل الأديان الأخرى باعتبار وجود مشتركات بينها، حيث يقول وليم ألنسون عن وجود تقارب واضح بين الأديان بشكل عام والأديان التوحيدية على وجه الخصوص. لكن ثمة اختلاف بين الأديان في نظرتها لله والتاريخ، وهذا التضاد لا يعني الإقصاء ونفي الآخر، بل ينبغي التركيز على النقاط المشتركة بين الأديان، وتحقيق التفاهم والاحترام[10].

المعنى الآخر الذي يقصده دعاة البلورالية في أنه ثمة دين واحد جاء من عند الله، إلا أن له مظاهر متعددة، فالاختلاف ليس قائماً في جوهر الدين إنما في فهمه، أما الحقيقة المطلقة فليست بيد أحد، وإنما يدرك كل شخص مظهر من مظاهرها. ثم إن البحث في صحة دين أو بطلانه ليس له من معنىً بالأصل، فإدراك كل مظهر للحقيقة يأتي وفق ذهنية كل واحد منا، وظروفه الخاصة به.

وقد أوضح جون هيك استعانته بالتفكيك الموجود عند كانط لبيان هذا المعنى من التعددية، ذلك التفكيك القائم على أن الشيء في نفسه غير الشيء عندنا، لذا لا يمكن أن نصل إلى الحقائق التي لم تقع بأيدينا، وإنما أن نعي ما ندركه وفق قوالب ذهنية سابقة.

المعنى الثالث للبلورالية يذهب إلى عدم وجود حقيقة واحدة، حتى بالشكل المتقدم المفروض لها، بل الحقائق نفسها متعددة كثيرة. وهذا النوع من التعددية يختزن إشكالات تفوق المعنى الثاني، فهنا نواجه تناقضًا واضحًا، فيفترض هذا المعنى عدم وجود حقيقة واحدة جوهرية، بل هنالك حقائق متعددة. وعلى ذلك تستوي الثنائيات ونقع في حالة من السيولة.

وثمة رأي آخر يندرج داخل هذا المعنى ويمكن أن يُفرد كمعنى رابع، يذكر هذا المعنى أن كل دين يشتمل على جزء من الحقيقة، فليست الحقيقة أمرًا وحدانيًا متعلقًا بموضوع واحد، فيمكن العثور في الإسلام على جزءٍ من الحقيقة وكذلك في كلٍ من اليهودية أو النصرانية.

يبدو محل الإشكال في المعنين الثاني والثالث، وقد حظيت نظرية التعددية رغم شيوعها على العديد من الانتقادات، ومن أبرز الذين عارضوا هذه النظرية المفكر الديني ألوين بلانتيجا الذي كتب ردودًا عليها. أما في العالم الإسلامي فأبرز من تبنى وتلقى آراء جون هيك هو الفيلسوف الإيراني المعاصر عبد الكريم سروش، وكذلك يقترب منه طرح محمد أركون[11].

آراء فلسفية في مسألة البلورالية

والحقيقة أن مبدأ التعددية بدأ في الحقل الفلسفي الشكيّ حيث أصبح محلّ الفلسفات اليقينية، وكان لبيركلي ثم ديفيد هيوم اليد العليا لإحلال مبدأ الشك في العصر الحديث، وعُمم هذا المبدأ على قانون العلية، لأن هذا القانون لا يتجاوز مدركات النفس البشرية، وعليه فلا سبيل للإنسان معرفة الواقع الموضوعي لقانون العلية خارج النفس، وإذا سقط قانون العلية عن الموضوعية فلا سبيل لمعرفة الله كما يقول ديفيد هيوم. ثم انسحب هذا المبدأ الشكي على الحقل السياسي والفكري والديني[12].

وأحد العوامل المهمة لظهور التعددية الدينية هو الرغبة بفهم جديد للدين يتوافق مع مبادئ الحداثة؛ فقبل نصف قرن من الآن كانت الفكرة الشائعة في العالم الحديث أن الدين مصيره إلى الذبول، يذكر مايكل كوك كتابًا صدر في بريطانيا أعلن موت المسيحية ووصفه بكونه إعلانًا مبالغًا فيه لكن ليس بمبالغة كبرى لاعتبارات أخرى يراها كوك[13]. إن القول بموت المسيحية يمكن أن يحمل موتاً نسبياً، بمعنى موت المسيحية القروسطية، ومن الممكن وصف المسيحية الآن بالمسيحية الجديدة.

ويتحدث هانز كونغ عن عودة للدين في ما بعد الحداثة، ويؤكد بأن هذه العودة ليست أصولية أو رجعية مضادة لنزعة التنوير والحداثة ولا عودة إلى أسسها الفلسفية، ويدعو لتحقيق مصالحة بين الأديان الكبرى، والابتعاد عن القشور التي تسبب الصراع، والتركيز على الجوهر الروحي للديانات[14].

ويرى هابرماس أن الدين يحتل حيزًا كبيرًا في التأثير على الرأي العام، ويرى أن توسع العمل التبشيري، والتحول إلى الراديكالية الأصولية، ثم الاستغلال السياسي للعنف المتأصل في الأديان ظواهر تؤكد خلاف ادعاء العلمانية اختفاء الأديان[15].

وعلى الرغم من أن الدين يشهد عودة في عصر الجدب الحداثي، ليعطي معنىً للإنسان أو ليعيد تشكيل الهوية القومية عند الشعوب، إلا أن هذا الدين المستعاد تحرص الأنظمة العالمية على أن يكون دينًا يتناسب مع المبادئ الحداثية، فلا يزيد عن كونه تديناً شخصياً، منزوعاً من أية نظرة سياسية أو شمولية، وتعد نظرية التعددية/البلورالية أحد أشكال الدين المرغوب، والذي يتناسب تمامًا مع مصالح النظام العولمي الحديث.

كما ويعد الوضع الديموغرافي الجديد لأوربة من هجرة الشعوب إليها بمختلف ثقافاتها وأديانها عاملاً في ظهور النظرية التعددية، فقد بات من المُلحّ إيجاد صيغة لتحقيق التشاركية بين الشعوب داخل المكان الواحد، وقد كانت النظرية التعددية واحدة من تلك الصيغ التي يمكن لها تحقيق ذلك كما يدعي أصحاب التعددية/البلورالية[16].

وقد أرجح بعض الباحثين السبب في ظهور النظرية وانتشارها إلى تحول التفكير البشري من منهج التفكير الأرسطي المنطقي إلى المنهج الاستقرائي؛ فالتفكير الأرسطي لا يسعه إلا احتمال يقيني واحد، في حين إن المنهج الاستقرائي يوسع من دائرة اليقينيات، وهذا ما شكّل جاهزية عند العقل البشري على قبول احتمالات أخرى[17].

المباني الفلسفية للتعددية الدينية/ البلورالية

قدمت التعددية/البلورالية العديد من المباني التي شكلت ركائز وأعمدة هذه النظرية، والتي جرى الحديث عنها في فلسفة الدين، ويمكن تلخيص هذه الركائز بالتالي ذكره.

الركيزة الأولى للنظرية كامنة في التكثر للفهم الديني؛ أي تعدد التفسيرات للنصوص الدينية، ويبين سروش أن نظرية القبض والبسط في وسعها توضيح سر التعدد الديني على صعيد الفهم والاستنتاج، ويصف هذه الأفهام بكونها متعددة وسيالة أيضًا[18].

إن النص الديني بحسب دعاة البلورالية ليس بالنص البسيط، بل يحمل مدلولات متعددة ومتداخلة، وبالتالي فالنص يُفهم بشكل مجتزأ، هذا يعني أن هذا الفهم يحمل بعضًا من الحقيقة أو وجهًا منها، ما يعني نهاية أن التعدد لا يعني التعارض، بل انسياب الحقيقة في كل تلك الأفهام[19].

والركيزة الثانية للنظرية البلورالية هي رفض أي حصر للهداية فقط لدين أو طائفة معينة، وحصر الهداية بظنهم يعني حرمان الآخرين منها واستحقاقهم للعذاب.

وتقوم الركيزة الثالثة على التجربة الدينية، ويقصد بذلك المواجهة مع الأمر المطلق والمتعالي، والتي تأخذ أشكالاً متعددة، بما فيها التجارب الروحية كالرؤيا، وتجارب العرفاء، وصولاً إلى التجارب النبوية. تشبه هذه الركيزة المبنى الأول السابق ذكره، والاختلاف كامن في أن المادة المفسرة هناك تكمن في النص الديني، أما في هذه فهي في التجربة الدينية الشخصية.

إن المتدين يتكلم هنا عن الشيء في مرحلة ظهوره في أفق الإدراك، أي في الأفق المفاهيمي الحكائي ‑نلحظ هنا استخدام التفكيك الكانطي‑ إلا أن حكاية ذلك بالمطابقة عن الشيء في أفق نفسه هو أمر آخر.

يمكن تقريب المثال بذكر قصة الفيل في الغرفة المظلمة التي ذكرها جلال الدين الرومي في المثنوي‑وقد استعان جون هيك بهذا المثال‑ تبين هذه القصة الرجال الذين يتحسسون فيلاً في غرفة مظلمة، وكل منهم وصف الفيل تبعًا لجزء الجسد الذي لمسه، بدا الفيل لأحدهم شبيه بالعرش، ولآخر مثل أنبوب ماء، أو عامود كبير، لكن لم يكن لأحد أن يتخيل ماذا يشبه الفيل في جملته[20].

بناءً على ذلك يطلق جون هيك على أتباع الديانات الأخرى عنوان “المسيحيون بلا اسم” ذلك أنهم يتحدثون عن الحقيقة نفسها، كل من موقعه ولغته. والتر ستيس على سبيل المثال كان يعتقد بالبوذية دينًا إلهيًّا، لكنها لم تكن لتعرف تفسير تجربتها في قالب مفهومي بالقدر الذي وفقت به الأديان الأخرى وذلك لمحدودية موقعها. إن التجربة الدينية مشتركة عند جميع الناس، لكن عندما يبدؤون بتعقلها يعبر كل منهم بحسب الجهاز المفهومي، والشرط التاريخي أو الثقافي والفكري المحيط به، وبالتالي تختلف التجارب بحسب الإدراكات المختلفة، إلا أن التجربة هي ذاتها[21].

ويظهر التكثر القِيِمي أحد أهم الركائز التي يستند إليها أصحاب النظرية البلورالية، فيعتقد الباحثون المعاصرون في فلسفة الأخلاق أن القيم غير قابلة للجمع بحسب الواقع، ولذلك فهي تشكل نظام كثرة واقعية وأصيلة. وبالتالي فتعدد النماذج يفضي إلى الاعتراف بها جميعًا والقبول بالأنماط المختلفة للكمال الأخلاق الفردي أو الاجتماعي.

ويرى جون هيك أن التلاقي الأخلاقي هو الذي تُجمع عليه الأديان كلها، ففي كل دين خير إنساني عام يعكس العلاقة القوية مع الله، وقد دفعه هذا الغنى الروحي والأخلاقي في الديانات ‑والذي لا يقل عن المسيحية في أيّ من أرصدتها‑ إلى إعادة النظر في كل المقولات اللاهوتية المسيحية التي تدعم الفرادة المسيحية وتفوقها الأخلاقي والروحي، أو تلك الأفكار التي تؤيد الادعاء بأن المسيحية هي المظهر الأكمل لتجلي الله والطريق الأسمى للخلاص[22].

ولقد سعى جون هيك إلى أنسنة الخلاص، وذلك بإخراجه من مجرد الاعتقاد بمجموعة حقائق ملزمة صادرة من وحي رباني إلى مجموعة من النظم الأخلاقية، سواءً اعتمدت على وحي أم كانت من صنع الإنسان، وبذلك يمكن اعتبار الشيوعية وجمعيات المجتمع المدني في نظره دين، وقوله هذا يترتب عليه إزالة القداسة عن الأديان، وتفكيك هويتها، ويغدو في قوله هذا شبيهًا بما نادى به جان جاك روسو عندما دعا إلى دين مدني، وأن يتخير كل إنسان لنفسه دينًا يريده[23].

والركيزة الخامسة للنظرية قائمة على نظام الحقائق، فيرى التعدديون أن الحقيقة ليست بذلك الوضوح والتكشف لتغدو جلية لكل من ينظر إليها، بل هي تركيبة تتراكم بعضها فوق بعض لدرجة خفائها، وسعي الإنسان المحموم لإدراكها نتج عنه تعدد للفرق والمذاهب.

الانتقادات الموجهة للتعددية/ البلورالية

قامت العديد من الانتقادات للنظرية التعددية، وقد جاءت هذه الانتقادات إما على شكل بنيوي، ما يعني رصد تلك المباني والمنابع التي استمدت النظرية شرعيتها منها، كالمصادرات المتقدمة على الفلسفة النقدية، ونظرية القبض والبسط، والشريعة الصامتة، وغير ذلك من المرتكزات التي استند إليها أصحاب المذهب البلورالي. أما الشكل الثاني للانتقادات المقدمة فكان من داخل النسيج الفكري الذي تولدت منه النظرية، وهذا يتطلب تسليمًا كاملاً ‑ولو جدليًا‑ بالأرضية التي يرتكز إليها أصحاب المذهب، ثم تحاكم النظرية من خلال الانسجام والتناغم بين الأرض والبناء، وعدم مراعاة النظرية نفسها للحدود المنطقية والمنطلقات المعرفية المفترضة، مما يوقع في خطأ منهجي واضح، بل في تناقض بحسب المحصلة النهائية[24].

يبدأ علي رضا قائمي في نقده للنظرية بإعادة استدعاء شلايرماخر، حيث يرى علي رضا أننا إذا أردنا أن نتخذ موقفًا من التعددية فينبغي إلقاء النظر على مسألة جوهر الدين ولبّه، ولقد تبلور هذا الشكل من البحث في فكر الفيلسوف الديني الألماني فريدريش شلايرماخر، الذي قام بمهمة إحياء الدين والإيمان المسيحي بعد أن مُنيّ فكر الإلهيات الطبيعية بهزيمة بمجيء التجريبيين أمثال ديفيد هيوم، وبعد أن حصرته الفلسفة النقدية لكانط في الدائرة الأخلاقية وفصلته عن الإطار المعرفي النظري[25].

لقد انطلق شلايرماخر من سؤال: ما هو جوهر الدين؟ ووضع عدة افتراضات رجّح منها التجربة الدينية ومجموعة الأحاسيس الدينية كجوهر وقلب للدين، وقد انقسم من أخذ بهذا الرأي إلى حصر التجربة العرفانية كجوهر وهذا ما ذهب إليه والتر ستيس، وفسرها رودلف أوتو بالتجربة الروحية إذ لاحظ أن هذا الإحساس هو واقعة نفسانية، لا تنشأ عن إرادة أو تصميم. وأيًّا ما كان الجواب المقدم، فإن معرفة جوهر الدين هو الذي يمدنا بمعرفة الظاهرة الدينية، والسؤال المطروح ما هو جوهر الدين عند أصحاب المذهب البلورالي؟

يرى علي رضا أن أصحاب المذهب البلورالي لم يقدموا تصورًا واضحًا لمسألة جوهر الدين، فينتقد المبنى الأول الذي قدمه سروش في مجمل حديثه عن القبض والبسط في أن فهمنا للنص الديني متكثر ومتنوع وسيّال أيضًا، بالتالي ليس هناك تفسير رسمي واحد للدين بأنه إذا لم يكن ثمة تفسير رسمي، وأن جميع هذه التفسيرات ليست إلا شيئًا خارجًا عن الدين، فهذا يعني أن التفسيرات المتحولة ليست جوهرًا للدين.

ويميز علي رضا بين جون هيك في نظريته البلورالية وشلايرماخر، حيث إن جون هيك يوافق على استحالة التجربة بلا تفسير، لكنه يتخذ طريقًا آخر لإثبات التعددية وشرحها، فهو يعتقد بأن كافة التجارب تُعد من مقولة التجربة المعرفية، لا من مقولة الإحساس، إذ يوافق على استحالة التجربة العارية من التفسير، وهو يتمسك بتمييز وايتغنشتاين المتأخر بين “الرؤية” و”الرؤية على ما هو عليه”. في حين يرى شلايرماخر أن التجربة الدينية من مقولة الإحساس، وفارغة من أي جهاز مفاهيمي واعتقادي ديني، وبالتالي فالتعاليم الدينية تفاسير لتجربة فارغة غير مفسرة.

ثم تقع النظرية البلورالية على مصادرة خاطئة في ركيزة الهداية، وقد أعقبت في هذه الركيزة في كون الهداية لا تنحصر في الهداية الدينية، كما أن الله قد أرسل الرسل، وأنزل الكتاب، ووهب العقل ليستطيع الناس من خلال هذه المصادر البحث عن الحقيقة.

وينتقد جعفر السبحاني مثال جلال الدين الرومي الذي اجتره جون هيك‑مثال الفيل والغرفة المظلمة‑ للتدليل على الفهم التعددي للدين، فيذكر السبحاني أن المسائل الماورائية لا يمكن إدراكها بالحس والتجربة، ويتبع رأي المتكلمين وفلاسفة الإسلام في أن معرفة الله تكون من خلال العقل والبرهان[26].

وثمة تشبيه ثاني لجلال الدين الرومي يُمثّل عليه أتباع البلورالية، يقول المولوي الرومي:

من المنظار يا عقل الوجود … اختلاف المؤمن والمجوس واليهود

يفسر أتباع البلورالية أن الأنبياء جاؤوا بحقائق جزئية، مكملة لبعضها، فكل واحد نظر للحقيقة من زاوية. ومن المعقول الموافقة على هذا الرأي لو كانت الحقائق الدينية مكملة لبعضها، لكن ثمة دين ينظر للإله الواحد الأحد، ودين آخر يرى الإله متعدد مركب، إن التوفيق بين المتناقضين لا يمكن عقلاً.

ويقع البلوراليين في نفي الوحي حين يجعلون تجربة الأنبياء خاضعة للشرط اللغوي والثقافي والفكري، وبالتالي فالرسالات هي نتاج جهازهم الإدراكي، لا من مقام الربوبية.

ويتابع المختصون في نقد الأدلة والمرتكزات التي قدمتها البلورالية، ويرون أن هذا المذهب كان أحد آليات العلمنة، ونزع القداسة عن الأديان، وأوقعنا في حالة من النسبية والسيولة، فليس ثمة معايير واضحة للتمييز ما بين الحق والباطل، والصواب من الخطأ، بل كافة التفسيرات الداخلية في الدين الوحد، أو الأفهام الدينية المتعددة مساوية لبعضها بعضًا.

الخاتمة

تعني التعددية الدينية كما صاغها جون هيك نظرية خاصة عن علاقة الأديان كتقاليد ثقافية، واختلافها في ادعاءاتها المختلفة للحقيقة، وهي النظرية التي تقول بأن الأديان العالمية الكبرى إنما هي تنوع نظرات الإنسان إلى الحقيقة الإلهية، وتصوراته عن الحقيقة، ثم استجابته لها.

ويمكن من خلال هذا التعريف بيان نسبية الأديان، وكذلك عدّ التجربة الدينية مشروطة بالظرف التاريخي والثقافي وإغفال حقيقة كون الأديان مبنية على الوحي الإلهي وليست عبارة عن استجابة الأنبياء المشروطة. كما يستعير هيك تفكيك كانط عن الشيء في ذاته مقارنة بالشيء في أذهاننا.

وترتكز نظرية التعددية إلى العديد من الأبنية، ومن ضمنها تكثر الفهم الديني، وقد استفاد من هذا المعنى عبد الكريم سروش وصاغه من خلال نظرية القبض والبسط. كما ترتكز النظرية إلى تعدد تفسير التجربة الدينية، وتعدد الحقائق، وغير ذلك من المباني والمرتكزات التي قدم لها باحثون نقدًا بنيويًا أو نقدًا جدليًا من داخل النسيج الفكري للنظرية.

ونتيجة ما توصلت إليه في نظرية التعددية هي أنها نتاج للعلمنة وكذلك أحد أدواتها المهمة، بالرجوع إلى ماكس فيبر في أطروحته القائلة بأن العلمنة تعمل على تقويض الدين. يمكن لي القول بأن التعددية هي شكلٌ مقيد للدين، تغيب فيه نظرته الشمولية، وكذلك قداسته المميزة، ويعدو المتدين بنية وظيفية ليس أكثر.

لقد تحققت نبوءة نيتشه في الحضارة الغربية عن غياب نجمهم الذي يهتدون به، لقد باتت الحياة تافهة وذات بعد واحد، وصدقت نبوءة فيبر في القفص الحديدي الذي هربت منه الروح. إلا أن الحديث عن مجتمع خالٍ من الدين هو ما لم يتحقق[27]. فقد أخذ الإنسان الغربي يبحث عن شكلٍ من أشكال الدين يأخذ سمة التوافقية والانتقائية، وأرى أن التعددية الدينية نمطٌ لتدينٍ حديث.


[1] جعفر السبحاني، التعددية الدينية نقد وتحليل، ص5.

[2] عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، ص7.

[3] حيدر حب الله، التعددية الدينية، ص28.

[4] حسن الصفار، قراءة في المعنى، ص17.

[5] مجموعة مؤلفين (ورقة مصباح اليزدي)، بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة، ص13.

[6] حيدر حب الله، التعددية الدينية، ص53.

[7] المرجع السابق، ص55.

[8] حسن الشافعي، التعددية الدينية من وجهة نظر إسلامية، ص1.

[9] مجموعة مؤلفين (ورقة مصباح اليزدي)، بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة، ص3.

[10] جعفر السبحاني، التعددية الدينية، نقد وتحليل، ص23.

[11] حيدر حب الله، التعددية الدينية، ص57.

[12] محروس محمد بسيوني، التعددية الدينية رؤية نقدية، ص428.

[13] مايكل كوك، أديان قديمة وسياسة حديثة، ص641.

[14] هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، ص246.

[15] يورغن هابرماس، المجتمع ما بعد العلماني، تعريب: ريم يوسف، مجلة الاستغراب، ص48.

[16] محروس محمد بسيوني، التعددية الدينية، رؤية نقدية، ص434.

[17] المرجع السابق، ص437.

[18] حيدر حب الله، التعددية الدينية، ص81 .

[19] المرجع السابق، ص 83. الركائز الواردة مستفادة من كتاب حيدر حب الله، التعددية الدينة.  

[20] آن ماري شيمل، أبعاد صوفية في الإسلام، 27.

[21] حيدر حب الله، التعددية الدينية، ص92.

[22] محروس محمد بسيوني، التعددية الدينية رؤية نقدية، ص467.

[23] المرجع نفسه، ص468.

[24] حيدر حب الله، التعددية الدينية، ص 108- 109.

[25] مجموعة مؤلفين (علي رضا قائمي)، بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة، ص64.

[26] جعفر السبحاني، التعددية الدينية نقد وتحليل، ص 51- 52.

[27] جوتفرايد كونزلن، مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا، النص الوارد تعليق لمحمد عمارة، ص40.