إضاءات على نظرية الستر في الإسلام

1٬815

مفهوم الستر

المعنى اللغوي للستر يتمحور حول الإخفاء والصون، فسَتَرَ الشيءَ يَسْتُرُه سَتْراً: أَخفاه؛ وسَتَرْت الشيء أَسْتُرُه إِذا غَطَّيْته فاسْتَتَر هو. وتَسَتَّرَ أَي تَغَطَّى. وفي الحديث “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ”[1].

سَتِيرٌ فَعِيلٌ بمعنى فاعل أَي من شأْنه وإِرادته حب الستر والصَّوْن[2].

واسم الله تعالى الستير من أسمائه الحسنى، مرتبط بالحلم والحياء، فالله:

  1. حليم ذو أناة وحكمة، لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم، لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص[3]
  2. وهو سبحانه حيي تكفَّلَ بعبادِهِ وبأرزاقِهم؛ يَقبل تَوبَتَهُمْ، ويغفر لهم. وحياء الرَّبِّ تَعَالَى حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجُودٍ وجلالٍ[4]. وكما جاء في الحديث الشريف: مِنْ حديث سَلمَانَ الفارسي رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا”[5].

فمن معاني الستير سبحانه، أنه:

  • يحب السِّتر والصون ويُرغِّب فيه ويحثُّ عليه ويريده.
  • كثير الستر لعيوب عباده، حليم عليهم.
  • أكرم عباده بستر أجسادهم وستر زلَّاتهم.
  • ربط الستر بالحكمة والذوق ورهافة الحس.
  • جعل الحياء دافعاً للستر وجعل الستر دالاً عليه.
  • جمَّل عباده بالستر، وأضفى عليهم برحمته ومغفرته نقاء وطهراً.

والستر نوعان: مادي ومعنوي، فصلتهما الآية الكريمة: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26].

يواري سوءاتكم: أي يستر عوراتكم باللباس وهو الستر المادي، وسميت العورة سوأة لأنه يسوء صاحبَها انكشافُها، كما يسوء الآخرين أيضاً خدش حيائهم في حال رؤيتهم لها.

ولباس التقوى[6] هو الستر المعنوي: فينبغي أن نستر بواطننا بتعميرها بالإيمان والأعمال الصالحة، كما يجب أن نتخلَّق بصفة الستر، فنستر على عيوبنا وعيوب غيرنا. وكما قال الفضيل بن عياض: “المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعيِّر”[7].

والخطاب في هذه الآية خطاب لبني آدم، ذكوراً وإناثاً، لا يختصُّ بالمسلمين فقط، فيه تذكير بنعمة الستر، التي تحفظ الإنسان ظاهراً وباطناً.

الستر فطرة

من رحمة الله بعباده أنه فطر الإنسان على ما فيه خير له في دنياه وآخرته، وجعل الدين حافظاً للفطرة وموجهاً لها، كما مكَّن الفطرة من البقاء ما بقي الإنسان، وجعل فيها قابلية العمل من جديد مهما أصابها من فتور أو عطب.

وفيما يخصُّ الستر فإن الله سبحانه وتعالى:  

  • جعل الستر فطرة عند الإنسان ذكراً وأنثى، فالإنسان يسعى لتغطية جسده حتى أمام نفسه وأقرب المقربين إليه، وهو يتريث في إظهار أعماله التي ينوي القيام بها، فيخفيها بداية حتى يجد اللحظة المناسبة للإعلان، وكذلك عندما يرتكب من الأفعال ما يراه عيباً أو قبيحاً فإنه يميل إلى إخفائه عن الأعين، خوفاً وخجلاً أو تجنباً للمواجهة، فعندما عصى آدم وحواء عليهما السلام ربهما وأكلا من الشجرة: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}[الأعراف/ 22]، فارتبط فعل المعصية مع كشف عورة البدن، وعندما أدركا كيف عصيا ربهما، أدركا أيضاً انكشاف عوراتهما، فراحا يغطيانها ويسترانها بأوراق الشجر حياء وخجلاً، رغم أنهما كانا وحدهما في المكان، وفي هذا دلالة على شعورهما بالحاجة للستر بعد ارتكاب المعصية. 
  • ضبط الله سبحانه وتعالى فطرة الستر بالدين والشرائع، فوجه الإنسان إلى ما يجب عليه ستره من بدنه وأفعاله ومشاعره، وبين له حدود التكشّف والتصرف والإفصاح.
  • ربط سبحانه فطرة الستر بالجمال: جمال اللباس وجمال العفة والنقاء والتقوى. كما ربط الجمال بالكرامة والإكرام، فجمال اللباس تعبير عن كرامة البدن وإكرامه، وجمال التقوى تعبير عن كرامة المشاعر والأرواح وإكرامها. لذلك كان في الالتزام بالتستر والاستتار مجموعة رسائل: رسالة جمال، ورسالة عفة، ورسالة إكرام، ورسالة حكمة.
  • جعل الله سبحانه وتعالى مقاصد فطرة الستر أداة لضبط الميول الجنسية عند الذكر والأنثى، فالستر يحقق التوازن بين فورة الشهوة المتفلتة والتمتع الطيب، فيهذب الاشتهاء ويمنع التلذذ الفاحش، كما أن ستر المعاصي يحقق التوازن بين ضعف النفس وسرعة انزلاقها نحو الخطأ وبين القدرة على الضبط والامتناع والسير في طريق الإصلاح، وهو ما يعين الإنسان على الإقلاع عن الذنوب وإصلاح المفاسد، ويهيئ له سبيل الحياة الطيبة.

الستر والتزين

  • حاجة الإنسان، ذكراً وأنثى، للتزين فطرة أيضاً، سواء منه: التزين المادي، عبر استخدام أدوات الزينة من لباس وحلي وأصباغ لتحسين المظهر، أو التزين المعنوي، عبر إخفاء معايب النفس بإظهار تصرفات وأفعال تجعل الإنسان مقبولاً ومميزاً في مجتمعه.

والفطرتان (الستر والتزين) تشيران إلى إحساس الإنسان بنقصه، لذلك هو ينزع للكمال عبر أدوات الزينة والستر. فالفطرتان تلعبان دوراً نفسياً واجتماعياً.

  • وبما أن التزين والستر يقومان بدور اجتماعي فهما أحد أدوات التعبير عن الثقافة والهوية في المجتمع، فهما يحملان مدلولات تواصلية بين أبناء المجتمع الواحد، وهما وسيلة تفاهم غير لفظي بينهم، تشكلت من خلال توافقات وتفاعلات نشأت في المجتمع نتيجة العيش المشترك، رسّخت معايير وضوابط للستر والتزين اُتفق عليها بينهم.
  • ارتباط فطرة الستر مع فطرة التزين المنضبطة بالتعاليم الدينية عززت المساواة بين الجنسين من جهة تشابه أساليب الستر وحدوده بين الذكر والأنثى، وكذلك تشابه أساليب الزينة أيضاً، كلما كانت فطرتا الستر والتزين في المجتمع نقيتان منضبطان بالشرع وحدوده وجدنا ظهوراً وتحقيقاً لمقاصد اللباس بين الذكر والأنثى، وضبطاً لمحل الزينة وأساليبها وأدواتها.
  • ·               فطرة الستر ومقاصده تضبط جنوح التزين نحو الرغبة بلفت النظر والكبر وتسليع الجسد والروح مما يحوله إلى تبرج مذموم، كما أن فطرة التزين ومقاصده تضبط جنوح الستر نحو التبذل وتحريم الطيبات مما يحوله إلى حرمان. وتوازنهما يعبر عن نضوج فكري ونفسي عند الإنسان، وذوق جمالي وأدبي وتربوي في المجتمع.
  • انكماش فطرة الستر بسبب الآفات التي تصيبها وتغييب مقاصده يبرز تساهل التعرية، فتتراجع الحماية والحفظ والصون، ويتعاظم خطر الإيذاء والتعدي والخضوع للشهوة. كذلك فإن الآفات التي تصيب فطرة التزين ومقاصده تبرز مخاطر التبرج الجاهل، عبر الرغبة بالظهور والكشف ولفت النظر، فيتعاظم خطر الخداع والنفاق والاستهلاك والتسليع. ومع عطب الفطرتين ومقاصدهما تختل لغة التواصل المجتمعي وتتشوش، مما يؤدي للفوضى وعدم التجانس وترسخ الأحقاد والخلافات والعنف الجنسي.

الستر والجنس

  • من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحاجة الجنسية متعلقة بالنضج الجسدي والفكري، وأرشد الإنسان لإشباع تلك الحاجة عن طريق الزواج، فكانت العلاقة الجنسية بين الزوجين مستترة عن العيون ولم تكن عارية، وكانت ميثاقاً غليظاً ولم تكن مستباحة، فهي في الإسلام علاقة كاسية ساترة معِفَّة وليست كاشفة عارية مهيِّجة مرهقة، يقول تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
  • تكبح مقاصد الستر الغلو في إظهار الصورة الجنسية عند المرأة والرجل، ويبين الشرع حدود إظهارها عندهما ليحدد مواقع البصر فيتهذب الانجذاب الجنسي وينحصر في إطاره المسموح بعيداً عن التعدي أو الشذوذ.
  • التكشف والتعرية يؤديان لإهمال الضبط والصون، ويشجعان على الانتهاز والاعتداء والأذى، لذلك استخدمهما المجرمون والمعتدون كوسيلة إخضاع وإذعان وإكراه، وفي هذا إشارة إلى ارتباطهما بهتك الإنسانية والعنف الجنسي، عكس الستر الذي هو حفظ وحماية واحترام للمشاعر ورفع للحرج.
  • التزام حدود الستر والزينة في الإسلام تمنعان الإغراء، الذي يستعين بالتبرج والعري والخضوع بالقول، والإيماءات ذات المدلولات المهيجة. فالإغراء في حقيقته حرب على المشاعر والحواس، كما أن فيه تعزيزاً لسلوك الأخدان، وانجراف نحو سلعنة الجسد ليتحول لمجرد محّفز لعملية جنسية حيوانية رخيصة.

بعض تطبيقات الستر في الإسلام

  1. تحديد العورة والأمر بتغطيتها: سواء للرجال والنساء، على اختلاف بينهما في حدود العورة، يقول تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
  2. الأمر بغض البصر: فالبصر له علاقة بالحواس الأخرى، وغض البصر متصل بالمدارك الأخرى، والأمر به أمر لتلك المدارك بالانضباط والوقوف عند حدود الله. قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30، 31].
  3. النهي عن التجسس وسوء الظن والغيبة والنميمة: لمنع تتبع العورات، قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12].
  4. الاستئذان الذي يحفظ الخصوصيات ويرفع الحرج ويعزز الذوق والحياء والحماية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 27-28].
  5. حد القذف حماية للأعراض ومنعاً للإيذاء وحفظاً لتماسك المجتمع، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4-5].
  6. النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين صوناً للمجتمع: يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
  7. الترغيب بالستر على المسلم وعدم إشهار معايبه أو ذنوبه أو تقصيره أو مشاكله: ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: “لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة”. وفي رواية: “لا يستر الله على عبد في الدنيا، إلا ستره يوم القيامة”[8].
  8. تطبيق اقتصادي للستر: الأمر بإخفاء الصدقة والزكاة وتفريج الكربات المادية، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله…”، وذكر منهم: “ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”[9]. وإخفاء الصدقة له جوانب اجتماعية واقتصادية عظيمة، فعدا عن كونها فعلاً مدنياً تراحمياً فهي تسمح بحرية الإنفاق والاستثمار بعيداً عن الحرج.
  9. الستر كاستراتيجية تخطيط وتنفيذ (عمل، فكرة، حرب، سياسة، دعوة… إلخ): قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/195): عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”[10]. وكمثال أيضاً على استراتيجية الستر الحافظة ما قام أصحاب الكهف الذين وجدوا في تسترهم بالكهف حفظاً لدينهم، وكذلك توجيه يعقوب لابنه يوسف بستر رؤيته عن أخوته حتى لا يثير فيهم غيرتهم وحسدهم حفظاً لنفسه ولأسرته ولأخوته أيضاً.

تأملات في خمار المرأة من خلال نظرية الستر

  1. الأهداف والمقاصد التربوية للستر تتمحور حول الحياء والإكرام والتهذيب والجمال ومنع الإيذاء ورفع الحرج وتحقيق التوازن. ويمكن الوصول إلى تلك الأهداف بالتربية الخلقية والسلوكية، لذلك فقد أمر الإسلام بتعليم الأطفال آداب الاستئذان، واحترام خصوصية الآخرين، ومنع النظر إلى عوراتهم، وحض على تعليمهم وتعويدهم على سلوك الستر مادياً ومعنوياً، بدءاً من أقرب الناس لهم (المحارم)، وصولاً لباقي الناس، فإذا صاروا بالغين مكلفين كان التزامهم بالأوامر والنواهي التي تعزز فيهم الالتزام بالستر وفهم مقاصده وتمثلها أخلاقاً وسلوكاً، ميسراً وسهلاً، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، فخطاب الستر موجه لجميع المسلمين.
  2. منذ بدء الخليقة تشابهت وظائف لباس المرأة مع وظائف لباس الرجل، وفي هذا دلالة على أن اللباس كان يتناسب مع الفطرة والبيئة والجغرافية كما كان في الجزيرة العربية قبل الإسلام. وعندما حدد الإسلام عورة الرجل وعورة المرأة، انتقل بالمجتمع إلى مرحلة أخرى من الضبط، وتحديد الوظيفة الحضارية المنوطة بالمرأة والرجل، فكان لا بد من أنسنة العلاقة بينهما، وتحييد كل ما يمكن أن يؤثر على أداء وظيفة الاستخلاف، فكان الأمر لهما بتغطية العورة وغض البصر وحفظ الفرج، والتزام حدود الزينة المباحة، ليقدم للمرأة وللرجل معاً تكريماً وحماية، ويهذب حواسهما، ويطور النظرة بينهما من الافتتان والتعدي والتخالف إلى العفاف والحفظ والتعاون.
  3. مساحة الجسد المطلوب تغطيتها عند المرأة أوسع من تلك المطلوب تغطيتها من جسد الرجل، فالواجب على المرأة تغطية جسدها كله إلا الوجه والكفين بلباس غير مجسّم ولا شفاف، بينما أُمر الرجل بتغطية ما بين السرة والركبة على الأقل، بثياب غير شافة ولا مجسمة، وما ذلك إلا مراعاة لاختلاف المثيرات الشهوية بينهما، ولتمكينهما من التعامل الواقعي مع بعضهما، فأساس الحماية في ستر جسد المرأة كله والتزامها بحدود الزينة المباحة إرسال إشارة تعريف (أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)، وهي رسالة تصل للرجل أن هذه المرأة مصانة، وعليه التعامل معها بعيداً عن الاشتهاء الجنسي المعتدي، وهو ما يؤمن لها الحماية، بينما يُرسل التبرج والتعري رسالة معاكسة تركّز على المثيرات فقط، عندها تتحول التصرفات الشخصية كالنظرة والابتسامة والمشي والكلام… كاستدعاءات جنسية، تفتح المجال للتعدي والهتك.
  4. كان النهي عن الخضوع بالقول أو الضرب بالأرجل أو التعطر الفواح أو إبداء الزينة غير المباحة موجّهاً للمرأة أساساً، كون الرجل عموماً أكثر تفكيراً بالجنس من المرأة ويتأثر تأثيراً كبيراً بمظهر المرأة وإشاراتها، فهي المطلوبة والمرغوبة وهو الطالب الراغب غالباً، ورسائل المرأة نحوه إما أن تكون حازمة ضابطة أو تكون مستدعية مشجعة على الإقدام.
  5. لم يكن الأمر الإلهي للمسلمات بإسدال الجلباب وضرب الخمار شيئاً مستهجناً أو غريباً، لأن الجلباب والخمار كانا مستخدمين أصلاً، وكان الأمر الإلهي تعديلاً لطريقة لباسهما، فالنساء كن يلبسن خماراً، ولكنهن كن يلبسنه بطريقة يتكشف فيها الصدر والنحر وبعض الشعر، وكن يلبسن ثياباً وأزياء تكون شافة أحياناً. لذلك عندما جاء الإسلام أمر المسلمات بتعديل هذا اللباس ليتوافق مع المنظومة الفكرية الإسلامية ككل، وأهم أساس في تلك المنظومة: مسؤولية الفرد التي تنطلق من أعمال الإنسان لتتكامل مع مصلحة الجماعة، بحيث يكون الفرد جزءاً من الجماعة، يعمل على ما يفيدها ويمتنع عما يضرها دون أن يضر نفسه. وقد تقبل المسلمون والمسلمات أوامر الستر الجديدة دون بروز أي مشكلات تُذكر، ولم نسمع في ذلك الوقت مثلاً عن انتفاضة نسائية ضد الخمار، وامتناع عن الالتزام به كما حدث مع الزكاة، وهما فرضان إسلاميان.
  6. التخفيف من حدود الستر والواجب تغطيته من الجسد بين المحارم[11] يحقق معنى إضافياً من مقاصد الستر الاجتماعية، فالمسؤولية الفردية تجاه هذه الدائرة أكبر من حيث وجوب الحفظ والصون واحترام الخصوصيات، بينما يقدم منع الزواج من المحارم تحديداً جديداً للمسلم يمنعه من التقوقع ضمن دائرة المحارم الضيقة لينطلق نحو التفاعل الاجتماعي الخارجي، لذلك فالمحارم لا يجوز أن يكونوا محلاً للتفكير الجنسي أصلاً وبالتالي يجب أن لا يكون هناك للمساحة نفسها من الستر، كما أن في هذا التخفيف مراعاة لوضع المخالطة والمستمرة ورفعاً للحرج نتيجة الحاجة لذلك.
  7. اتساق مقاصد ستر البدن في الإسلام مع المنظومة الفكرية والحياتية للمجتمع جعل منها تعاليم مرنة، فهي تراعي تطور أنماط اللباس وتبدلها وتغير وظائفها، فلا تمنع تغير الأزياء وتعدد الألوان والأشكال بشرط محافظتها على مقاصد الستر. كما أن هذه المقاصد تراعي أحوال العمر والعمل، فالكبيرات بالسن اللواتي لا يرغبن بالزواج ولا يتمكنَّ منه مثلاً يمكن لهن التخفف من التزام التغطية المطلوبة للجسد بشرط أن لا يتبرجن فيكون في تبرجهن رسائل تناقض عدم رغبتهن بالزواجأو قدرتهن عليه[12]. كما أن العاملات المضطرات لكشف بعض أجزاء من أجسادهن كاليدين ونحوه أثناء قيامهن بعملهن يمكن لهن ذلك بالقدر المطلوب دون تعدٍ أو مجاوزة[13]. وبالنسبة لكشف العورة سواء عند المرأة أو عند الرجل فإن ضابطه الضرورة التي تقدر بقدرها حدوداً ومكاناً وزمناً.
  8. التفريق بين الأمَة والحرَّة في الستر هو تفريق اجتماعي، ولا يوجد نص من قرآن أو حديث نبوي يعززه أو ينصُّ عليه، وللعلماء أقوال متنوعة في الموضوع يمكن مراجعتها[14]، لكن الموضوع اليوم ليس له محل في البحث مع انتهاء الرق وزواله.
  9. اللباس بحد ذاته له لغته الاجتماعية والنفسية والجنسية الخاصة، واستخدامه في عملية التستر لا يؤدي المطلوب حتى مع كفايته وتحقيقه لشروط عدم التجسيم أو الشفاف، إذا كانت لغته لا تتسق مع مفهوم الستر ومقاصده، ومثال ذلك لباس الشهرة والكبر، أو لبس الحرير للرجال، أو اللباس الذي يُقصد به تشبه الرجال بالنساء أو تشبه النساء بالرجال (وهذا لا يعني تشابه الأزياء بل يعني لبس ما هو مخصص للرجال من قبل النساء أو العكس على سبيل الميوعة أو الخداع).
  10. ارتباط اختيار الزي بما يتناسب مع آخر صيحات الموضة مهما كانت شاذة أو غريبة أو لا تناسب المجتمع، لا يتناسب مع مقاصد الستر، لأنه يعبر عن انحراف في التزين واتجاه نحو التسليع وتحديد نموذج مفروض ومسيطر للجمال كما هو الحال الآن، فكثير من إبداعات الموضة لا تنتمي لثقافة المجتمع، وهي انعكاس لثقافة الاستهلاك وتنميط الأذواق.
  11. تحولُ الخمار في عصرنا إلى رمز للتخلف أو القيد ومنع الحرية والكبت، ناتج عن الاستلاب والضعف، فعدم التمييز بين العلامات التي هي من مكونات الحضارة وبين الأمور الشكلية التي لا تؤثر في حضارة الأمم ونهوضها، جعل المقارنة بين الدول يخضع لمعايير القوة والغلبة، فتبدو كأنها مقارنة بين “تقدم” و”تخلف”، وكان الخمار بالطبع علامة تخلف، كونه يُلبس بكثرة في دولنا المغلوبة، بينما لا نجده إلا لماماً في الدول المتغلبة. لذلك بدأ الحديث عن اللباس يأخذ مكانه، ولم يقتصر النقد للباس المرأة وخمارها بل شمل أيضاً لباس الرجل، ومن الطبيعي أن يكون خلع الخمار ضرورة ملحة عند بعض الناس من أجل التقدم والتحرر أو تحت حجة التعايش والاندماج.
  12. رغم كل الحروب على الخمار بقيت نساؤنا تلبسنه، التزاماً لأمر الله حتى صار عادة اجتماعية راسخة، ولم تنتشر تلك الشبهات حوله كما نراها الآن إلا مع اتساع وسائل الاتصال، ومع اتساع النظرة الاستلابية التي صنفته كمعيار للتخلف، ولم تظهر حاجة عند الأهل لإقناع بناتهن بالحجاب في مجتمع متحجب أصلاً ككثير من مجتمعاتنا الريفية والمدنية الصغيرة، لأن البنت كانت تنشأ في جو متحجب لا يشعرها فيه حجابها بالدونية أو التخلف بل كان أداة هامة للانخراط في المجتمع الصغير.
  13. نجد اليوم أن مفاهيم كثيرة ساهمت بزيادة رقعة الاستلاب بصورة كبيرة جداً، ولم يعد بإمكاننا أن ننكر أن كثيراً من المحجبات في مجتمعاتنا يتحجبن تحت ضغط العادات الاجتماعية فقط، وأن كثيراً منهن يعتبرن حجابهن قيداً، وبالتالي يجدنه قبيحاً، ولا أدل على ذلك من أن المحجبات عندما يجدن فرصة لخلع الخمار فإنهن يفعلن ذلك مباشرة، بل ويبالغن في التكشف كما يحدث في الأعراس مثلاً. والتأثير الاستلابي جعل من التستر ولبس غطاء الرأس عملية صعبة، وصارت كثير من الفتيات يرين أن الخمار سينقص من جمالهن، في وقت صار فيه الجمال يخضع لمقاييس استهلاكية أساسها اللذة وتسويق الجسد.
  14. ما نراه اليوم من عري وتحلل يُرتبط دائماً مع الجمال وفق المعيار المفروض المسيطر للجمال، وهو يتعارض مع مفهوم الستر ومقاصده، لذلك صرنا نرى محجبات متبرجات بغرابة جاهلية، وصرنا نرى أشكالاً للتحايل على الخمار واللباس المطلوب حتى غدا بالفعل قطع قماش خادعة لا تلبي مقاصد الستر ولا شروطه في كثير من الحالات.

وللحديث وجوه أخرى كثيرة تحتاج بحثاً وتدقيقاً.


[1] ـ رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع. وفي الحديث أيضاً: عن يعلى بن أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبرَاز بلا إزار فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “إن الله حييٌّ ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر”. رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.

[2] ـ لسان العرب، مادة ستر

[3] ـ شبكة الألوكة، معنى اسم الحليم، على الرابط: https://www.alukah.net/sharia/0/123252/

[4] ـ ابن القيم، مدارج السالكين، 2، 261.

[5] ـ رواه أبو داود، وصحَّحه الألبانيُّ.

[6] ـ التقوى من الوقاية، وهي الصون والحماية، فالصون يكون بالتكريم، والتكريم يكون بالتزين، والتزين يكون بالجمال وحسن السمت، أما الحماية فتكون بالحفظ، والحفظ يكون بالرعاية، والرعاية تكون بالبعد عن كل ما يضرُّ واتخاذ ما يفيد.  قال ابن جرير: لباس التقوى: استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه عن معاصيه، والعلم بما أمر به من طاعته، وذلك بجمع الإيمان العمل والصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن، فإن من اتقى الله كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً، ومنه خائفاً، وله مراقباً، ومن أن يُرى عنه ما يكرهه من عباده مستجيباً، ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه؛ فحسن سمته وهديه، ورُئيت عليه بهجة الإيمان ونوره. انظر، النكت والعيون، 2، 214.

[7] ـ جامع العلوم والحكم، 77.

[8] ـ أخرجه مسلم

[9] ـ متفق عليه.

[10] ـ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة 3/436، وفي صحيح الجامع.

[11] ـالمحارم المحددين بالآية الكريمة: {َلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 22 و23].

[12] ـ ذكر ابن كثير في تفسيره نقلاً عن السدي قوله: كان شريك لي يقال له: “مسلم”، وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان، فجاء يوماً إلى السوق وأثر الحناء في يده، فسألته عن ذلك، فأخبرني أنه خضب رأس مولاته – وهي امرأة حذيفة – فأنكرت ذلك. فقال: إن شئت أدخلتك عليها؟ فقلت: نعم. فأدخلني عليها، فإذا امرأة جليلة، فقلت: إن مسلماً حدثني أنه خضب رأسك؟ فقالت: نعم يا بني، إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً، وقد قال الله في ذلك ما سمعت. تفسير ابن كثير، سورة النور، الآية 60.

[13] ـ راجع الفتوى التالية على الرابط: https://cutt.us/vMpTZ.

[14] ـ انظر مثلاً: https://www.islamweb.net/ar/fatwa/114264/