المجتمعات المحليّة في قبضة العروس الميكانيكية
إنّ وسائل الإعلام الالكترونية ساعدت على انكماش الكرة الأرضية وتقلصها في الزمان والمكان حتى أضحت قرية عالمية صغيرة يتخبط فيها وعي الإنسان بمسؤوليته بالتالي أضحى العصر يسمى بعصر القلق ولعلّ الأسباب واضحة في هذا السياق وهي الآتية:
الثورة الالكترونية الحديثة تجبر الإنسان على المشاركة والالتزام بشكل عميق في آلياتها واستراتيجياتها وهذا من شأنه أن يقود إلى ما يسمى بالعولمة.
والعروس الالكترونية هي تلك الأجهزة والآليات الإعلامية التي تصنع الثقافة الشعبية والجماهيرية في العالم أجمع وهي أجهزة الاتصال الالكترونية -خاصة التلفاز- التي تُسيطر على حياة الشعوب، وتؤثر على معتقداتها وأفكارها ومن ثمّ تحكم قبضتها على هوياتها. فعصر الالكترونيات قد أزاح عصر الطباعة، والدافع هو أنّ الوسائل الالكترونية تجعل الاتصال سريعاً، وتجعل الشعوب -على اختلافها واختلاف هوياتها- تنصهر بل تذوب في بوتقة واحدة، ما جعل من هذه الوسائل الالكترونية تقضي على الفردية والقومية، وأدت إلى ولادة مجتمع عولمي عالمي جديد وواحد.
المجتمع صار مجتمع معلومات بقيادة أجهزة الحاسوب والالكترونيات. وهذه العروس الالكترونية أحدثت ثورة في شتى مجالات المعيش الإنساني. باعتبار أنّ الإنسان حيوان كسول بطبعه، ومثلما يقول المسيري: “الإنسان الاستهلاكي الحديث يفضل ما هو سهل وبسيط على ما هو جميل ومركب”.
وقد ذهب بعض العلماء والباحثين إلى مراقبة تطور حياة البشر من خلال تطور وسائل وأدوات الإعلام، فقسّموا تاريخ البشرية إلى مراحل تبعاً لمراحل تطور وسائل الإعلام والاتصال، وهو ما يطلق عليه بالتفسير الإعلامي للتاريخ، وهو التفسير الذي يقسم التطور الاجتماعي للبشرية على ضوء تطور وسائل الإعلام، وهذه المراحل كالتالي:
– المرحلة السمعية في التاريخ: النفخ في الأبواق والمنادين.
– المرحلة الخطية: النقش والرسم على جدران المقابر والمعابد والقصور والكتابة المنسوخة على الجلود أو الورق.
– المرحلة الطباعية: الصحف.
– المرحلة الالكترونية: الراديو والتلفزيون والفيديو واستخدامات الكمبيوتر والأقمار الاصطناعية في الإعلام.
فعلى مرّ الزمن تطور الإعلام، وتطورت وسائله وأساليبه وأدواته وأصبح واقعاً لا يمكن لبني البشر أن يتخلوا عنه، بل وأصبح الإعلام هو المحرك الأساس للرأي العام والمرآة العاكسة للأحداث. وكانت وسائل الإعلام المكتوبة ولا سيما الصحافة إلى عهد قريب المسيطر الأساس على اهتمام الجماهير، وساعد إنشاء الخدمات البريدية على سرعة وصول الصحف إلى المشتركين، وكذلك سرعة وصول الأخبار من مختلف الأماكن إلى البلد الذي تصدر فيه الصحيفة[1].
لكنّ ما يشهده البشر اليوم هو هيمنة هذه الوسائل الالكترونية على المجتمعات المحليّة وإتلاف محدداتها بإحكام قبضتها على الأفراد والجماعات بيد أنّ المجتمع المحلي أهم مجتمع في الدراسات الاجتماعية؛ لما له من الأثر البالغ على حياة الفرد والمجموعة، ففيه يعيش الإنسان ويترعرع ويكتسب الثقافة والهوية ومقوّماته الاجتماعية.
فمن الواضح إذن أنّ هناك بصفة عامة أربع نقاط أساسية لتكوين المجتمع المحلي، وهي: الجماعة والتفاعل، والروابط، والزمان والمكان. غير أنهّ مع ظهور ما يسمى الانترنت وانتشار ظاهرة استخدامها في كل أرجاء الكوزموس، قد تلاشت فكرة المجتمع المحلي وتحولت إلى فكرة المجتمع العالمي أو العولمي وهو ما سمح بولادة هوية جديدة وجنس آخر من الجماعات والمجتمعات الإنسانية والتي أصطلح على تسميتها بـ : المجتمعات الافتراضية أو الرقمية.
إنّ التشابه الخادع بين هذه المجتمعات مع المجتمعات الواقعية يكمن في وجود الأفراد والتفاعل بينهم وتقاسمهم الروابط والمشاعر والزمان إلا أنّ الأمر الذي يكشف هذا الخداع هو أنّه في المجتمعات الافتراضية يغيب فيها عنصر المكان؛ فالمكان لم تعد له أهمية، وتكنولوجيا الاتصال عن بعد امتصت كل المعمورة وقلصت العالم إلى نقطة تقاطع هي الزمن الحقيقي، ومن هنا تنبع فكرة “القرية العالمية” المتولدة عن زوال المكان واختصار الزمن.
وباتت أجهزة الاتصال الالكترونية تُسيطر وتؤثر على سلوكيات وعقول الشعوب ومؤسساتها. وتمادت هذه الشبكات الاجتماعية في هيمنتها على الوعي المحلي وأصبحت ظاهرة عالمية واسعة الانتشار، شكلت وعي الأفراد وجعلتهم يعتنقون هوية دخيلة وهي آليات استطاعت أن تحظى باهتمام واسـع خاصـة لـدى فئـة الـشباب حيث مكنت من خلق علاقات اجتماعية افتراضية ووفرت لهم فضاءً مفتوحاً للتعبير والنقد بكل حريـة، وأسهمت أيـضاً في تـشكيل هويات افتراضية داخل مجتمع افتراضي وذلك بفعل جاذبيته وقدرته على إتاحة نطاق واسع من الحرية والاختيار.
إذ يعتبر الحديث عن الهوية أهم القضايا التي يطرحها استخدام مواقع الشبكات الاجتماعية، باعتبار طرحها للعديـد من الإشكالات على غرار إشكال الهوية الفردية الحقيقية والتي اُستبدلت بهوية افتراضية، دخيلة، خيالية، إذ بات أمام الفـرد اسـتخدام أكثر مـن هوية غير هويته الحقيقية وذلك عن طريق تبني أسماء مستعارة وصور غير حقيقية إضافة إلى تغيير المعلومات الشخصية كالسنّ، الجنس، والمهنة وغيرها…
إنّ الكتابات “الفيسبوكية” فضاءٌ يمارس فيه الفاعلون الفيسبوكيون عنفَهم ضدّ الآخرين وضدّ أنفسهم حين يعبرون عن عدم دراية بذواتهم بالنظر إلى الأقنعة التي تخفي هوياتهم الحقيقية. والنتيجة هنا تأسيس “هوية فيسبوكية”.
إذ نلاحظ أنّ البعض من المبحرين على الفيسبوك يسعون إلى استغلال هذه المساحة من الحرية التعبيرية لممارسة العنف الرمزي ضدّ أنفسهم وضدّ الآخرين سواء قام هذا العنف الرمزي على وساطة اللغة أو الصورة، في كلّ الأحوال ممارسة العنف من تحصيل الحاصل.
إنّ ما يقوم به مستعملو وسائل الإعلام المعاصر خاصة شبكة الإنترنت اليوم بعيد كل البعد عن العيش في قرية عالمية متجانسة، بل تتداخل الأوضاع، وما كان وسيلة للترفيه والتواصل أضحى أيضاً وسيلة للابتزاز والإرهاب وتهديداً للذاكرة الجماعية والهويات المحلية.
وباتت فكرة أن التكنولوجيا أهمّ وأبقى وأشد فعالية وأعمق تأثيراً من المضمون الفكري والصياغة اللغوية والنوايا الفردية أو الجمعية التي تصدر عنها الرسالة الإعلامية، هي الأصحّ والأكثر يقينيّة.