العقل وآليات التفكير الفقهي
أولاً: آلة التفكير المنهجي.. ثقافة أصوليّة عقلانيّة
الثقافة الأصوليّة العقلانيّة حاجة حقيقية للمجتمعات المسلمة، وهي حاجة ملحة للمجتمعات غير المسلمة، كونها تقدم منهجية جديدة في رؤية العالم ومعالجة القضايا وتوليد الحلول، هي مناهج تفكير واستدلال ومعالجة نابعة من منظومة أصول الفقه التي حَمَلت قسطاً كبيراً من طبيعة العقليّة المسلمة العالمية، أسهم في بنائها أناس ينتمون لثقافاتٍ وشعوب مختلفة من العرب والترك والفرس والهند والأمازيغ والكُرد والهنود والشركس والتتار والقوقاز والملايو والجاوية والأوربيين والصينيين والروس وغيرهم كثير.
علاء الدين السمرقندي (539ه) أحد أعلام الأصوليين شَرَح العلاقة المباشرة بين الأصول ومنهجية العقل فقال: “سميتُ هذا الكتاب: ميزان الأصول في نتائج العقول، لِيَزن العاقل قضايا العقول بهذا الميزان، حتى يظهر له الحقّ مثل العيان، فيعتقد الحقّ الصريح ويردّ الباطل المليح”. (ميزان الأصول، السمرقندي، 5).
أصول الفقه.. صناعات ثقيلة في المعرفة
قدم الأصوليون عدة أمثلة تشرح طبيعة أصول الفقه وتقارن بينها وبين الفقه، من أشهرها تشبيه علم الأصول بعملية الصناعة، يقولون: “الأصولي كصانع السلاح، والفقيه كصاحب سلاح، ولكن لا يحسن إصلاحها إذا فسدت”. (البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، 1\22).
في عملية الصناعة الكاملة نحتاج (1) تحديد مجال الصناعة (2) معدّات ومكنات وخطوط إنتاج مصنوعة بعناية فائقة ومركبة من أجزاء كثيرة تتحرك بوتيرة منسجمة (3) صنّاع مهرة يصنعون الآلات وخطوط الإنتاج بأدق التفاصيل (4) مواد خام أوليّة تنطلق منها عملية التصنيع (5) خبراء مهندسون وعمال يُدخلون المواد الخام داخل المصنع ويقومون بتشغيل الآلات ويتابعون عملية إنتاج المنتجات على نحو تفصيلي عملي (6) منتجات الصناعة وهي أمور جاهزة للاستخدام في الحياة.
أيّ أننا أمام مصنعين مختلفين؛ يتخصص الأول في مجال صناعة الآلات والأدوات والمعدات، ويتخصص الثاني في مجال صناعة المنتجات مستخدماً تلك الآلات والمعدات، المصنع الأول هو مصنع “أصول الفقه” يتخصص في الصناعة المعرفيّة الثقيلة، حيث يقدم أدوات المعرفة الدينية الإسلامية التي تنظم عمل العقليّة المسلمة بشكلٍ كبير، وهي معداتٌ معرفيّة أصوليّة تتكون من مجموعة قواعد ونظريات متماسكة ومنسجمة ومركبة مع بعضها بإحكام.
المصنع الثاني هو مصنع “الفقه” حيث تقوم الصناعة الفقهية باستنباط الأحكام الشرعيّة العملية (الصلاة واجبة، التبسم مندوب، الخمر حرام، الربا حرام)، إذا جمعنا كل المنتجات التشريعية في مكانٍ واحد فنحن أمام “الفقه” الذي تذهب إليه وتأخذ منه أحكاماً مهيأة قابلة للتطبيق في سياقها المناسب (قُمْ وَصَلِ، لا تَشْرب الخمر، لا تتعامَل بالرِبا).
ما هي المواد الأولية التي يتم الاعتماد عليها في إنتاج الأحكام الفقهية؟ إنها “نصوص الوحي” المتمثلة بآيات القرآن والسّنة النبويّة. مَنْ الذي يقوم بعملية إدخال النصوص وتشغيل ماكينات الإنتاج التشريعيّ؟ إنّهم “الفقهاء” وَهُمْ على مراتبٍ ودرجات كما أنّ المهندسين والعمال على مراتبٍ ودرجات في الخبرة؛ أعلاهم مرتبة هو “المجتهد”.
حين يقول الفقهاء مثلاً: الخَمْر حَرام، فهذا “حكمٌ فقهيّ” قابل للاستخدام المباشر مِنْ طرفي كشخص مسلم أُريد الالتزام بشرع الله، ما هي المواد الخام التي تم إدخالها للمصنع الأصولي؟ آيات وأحاديث مثل آية: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، هذه المواد الخام هي “الأدلة التفصيلية”، كلّ دليل منها يتناول مسألة معينة.
لكنْ كيف تَدل هذه الآية بعينها على تحريمِ الخَمْر؟ هنا نجدُ أحد المعدات المعرفيّة المتمثل بقاعدةٍ أصوليّة: “الأصلُ في النَهيّ التحريم”، وكلمة (اجتنبوه) هي صيغةُ نهيّ تُفيد التحريم، فيَنتج حكمٌ فقهيّ عمليّ هو “الخَمْر حرام/لا تَشْرب الخمر”، طبعاً هذا اختصارٌ مُخلٌّ لكنّه كافٍ للتعبير عن الفكرة بالمجمل.
الصنّاع المهرة الذين يصنعون المعدّات المعرفيّة الأُصوليّة في المصنع الأول هُم “الأصوليون”، أما الذين يستخدمون هذه المعدّات لإنتاج الأحكام هم “الفقهاء”، مثلاً أبو حنيفة أصوليّ وفقيه في الوقت نفسه، لأنه اشتغل بالأمرين، أما الإمام علاء الدين البُخاري فهو أصوليّ لم يشتغل بالفقه كثيراً.
هذا تبسيطٌ -قد يكون مُخلاً قليلاً- لما يعنيه الفقه وأصول الفقه، وأحد التعريفات العلميّة لأصول الفقه: “العلم بالقواعد التي يُتوَصَّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلتها التفصيليّة” (شرح مختصر الروضة، الطوفي، 1\120)، هذه “القواعد التي يُتوَصَّل بها إلى استنباط الأحكام”، هيّ بالضبط المعدات المعرفية الثقيلة التي صنعها الأصوليون وَصَقلوها لأجل تمكين الفقهاء من استخدامها وتشغيلها في إنتاج الأحكام الشرعيّة العمليّة على نحوٍ موثوق ومعتبر، ولهذا تم تشبيه الأصول بأنه “مَيلَق” يعني أداة تمحّص الذهب لتكشف الجيّد من الرديء، والفقه هو الذهب. (البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، 1\22).
من مخرجات التفكير إلى مناهج التفكير
هكذا يُركز أُصول الفقه على منهج التفكير لا مُخرَج التفكير، يفحص ويختبر الطريق الموصل للمعرفة أن يكون موثوقاً ومبنياً بشكل مُحكَم، وإذا كان المثال السابق يدور حول الصناعة، فإنّ المثال القادم سيجعلنا نقترب أكثر من خلال عالم الاستثمار. دعونا نذهب مع الإمام الغزالي (ت: 505 ه) في تشبيهٍ آخر لهذا العِلم في كتابه “المستصفى”، يَطلب منّا بداية أن نتخيل أحكام الشريعة كأنها ثمرات، وكل ثمرة لها مُثمِر ومستثمر وعملية استثمار، هكذا تدور موضوعات أصول الفقه على هذه الرباعية.
1. الثمرة هي الأحكام
نجد هنا دراسة لخصائص الأحكام وأنواعها، مثلاً نجد أنّ الأصناف الرئيسة للأحكام التكليفية خمسة: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، لا يُناقش هنا ما هي الواجبات (الصلاة، برّ الوالدين..)، فهذه أحكام جزئية تفصيلية مكانها الفقه… أما أُصول الفقه فتُركز على “الأحكام الكليّة”، لذلك يتمّ هنا نقاش طبيعة الواجب ومعاييره ومؤشراته ومستوياته وكيف أميزه عن المندوب، فيُخبرك مثلاً أنّ الواجب هو ما طلبه الشرع طلباً جازماً وهو ما يترتب على تركه إثم وعقاب، ويشرح لك أنواع الواجب وأنّ هناك واجب موسع وواجب مضيق، وواجب لذاته وواجب لغيره، وفرض عين وفرض كفاية وكيف تميّز بينهما وماذا يترتب على كل واحد.
2. المُثمِر هو الأدلة
إذا كان هناك ثمرات واستثمار فلا بدّ من وجود رأسمال نستثمر به. رأس المال هو الأدلة الكليّة الإجمالية. مثلاً القرآن دليلٌ كليٌّ والسّنةُ دليلٌ كليٌّ ثانٍ والإجماعُ دليلٌ كليٌّ ثالث والقياس دليلٌ كليٌّ رابع، هذه الأدلة الكليّة هي نفسُها مصادر التشريع. بعض العلماء يسميها “مآخذ الأحكام” أيّ أنّها مكانٌ موثوقٌ بإمكانك أخْذ الأحكام منه. يَدرس أُصول الفقه طبيعة كلّ دليل ومدى قوة نتائِجِه (ظنيّ أو قطعيّ)، وشروط استعماله لمن يُريد استنباط أحكام عملية منه، وضبط نطاق هذا الدليل وماذا تفعل حين يحدث تعارضٌ ظاهريٌّ بين دليلين كليين.
مثلاً حديث: ” تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة”، هذا الحديث دليلٌ جزئيٌّ على أنّ التبسُّمَ مندوبٌ. وحديث: “مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ” دليلٌ جزئيٌّ على تحريم شُرْبِ الخَمْر ولو قطرة. هذه أدلةٌ جزئيّة تفصيليّة لأنها تتناول مسائل معيّنة، مثل هذا الاستدلال والكلام نجده في الفقه، أما أصول الفقه فهو يُناقش هلّ السّنة النبويّة بحدِّ ذاتِها حجة؟ وما هي درجةُ الحديث الذي يُحتج به؟ فالدليل الكليّ الإجماليّ هنا هو “السّنة” وهو محلّ اهتمام أُصول الفقه، أما الدليل الجزئيّ التفصيليّ فهو “حديثٌ معيّن” من السّنة النبويّة يتناول مسألة بعينها.
3. الاستثمار هو دلالة الأدلة
في الفقرة السابقة تبين للأصوليين أنّ السّنة النبويّة دليلٌ كليّ موثوق، لذلك يمكنني الرجوع إليه لأستخرج الأحكام منه، رجعت الآن إلى السّنة فوجدتُ حديثاً صحيحاً يقولُ فيه النبي: “لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْن اثنينِ وهو غَضْبانُ” (البخاري). سأقومُ باستثمار هذا الحديث لينتج ليّ ثمرات “أحكام”، فكيف أستثمره بأقصى طاقته؟ وكيف تدلُّ الألفاظ على المعاني؟
هنا تأتي أنواع الدلالة ودرجاتها، فهناك دلالة العبارة ودلالة الإشارة ومفهوم المخالفة وغير ذلك. دلالة العبارة في هذا الحديث تنتج حُكماً بمنع القاضي من القضاء عند الغضب، أما دلالة الإيماء فتنتج حكماً آخر أوسع وهو أنّ كلّ أمر يسبب تشويش الفكر والذهن يُمنع معه القضاء، سواء كان غضباً أو خوفاً أو جوعاً.. لأنّ علّة الحديث الجوهرية ليست خصوص الغضب بل ما يُحدثه من تشوش يمنع الحكم المنصف. يشرح الأصوليون متى وكيف وما هي معايير استعمال دلالة الإيماء ومتى تكون خاطئة وصائبة. لا يركزون على دلالة هذا الحديث أو تلك الآية، بل تركيزهم على المنطق نفسِه وآليات التفكير المستعملة ومدى موثوقيتها.
مثالٌ آخر، القرآن دليلٌ كليّ بل هو مَنبع الأدلة الكليّة، حين أرجع إليه أجد آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] تدلّ الآية بعبارتها الصريحة على وجوب الشورى في الأمر العام، هذه دلالة العبارة، لكنها تدلّ أيضاً دلالة إشارة إلى وجوب إيجاد هيئة من الأمة تنوب عن الأمة في رأيها وقرارها، لأنّه يستحيل مشاورة كلّ فرد لوحده.
4. المستثمر هو المجتهد
يتناول أصول الفقه وضع شروطٍ ضامنة لِأن تجري عملية الاجتهاد والاستثمار بشكلٍ سليم، فيحلل طبيعة الاجتهاد نفسِه كعمليّة معرفيّة مرتبطة بالواقع والنصّ والنّاس والمصالح.. وشروط المجتهد وقدراته المطلوبة، يظهر الحسّ العمليّ عند تقسيم درجات المجتهدين بحسب معايير علمية دقيقة، وكيف تنتظم هذه الجماعة العلميّة، وما الذي يمكن أن يؤثر عليها من عوامل نفسيّة واجتماعيّة وسياسيّة وما ينبغي فعله عند كلّ حالة.
انطلاقاً من تشبيه أصول الفقه بعملية الاستثمار تم تعريفه بأنه “معرفةُ دلائل الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد”. (نهاية السول، الإسنوي، 15). أجندة أعمال الأصولي تدور على ثلاث قضايا جوهرية: (1) دلائل الفقه الإجمالية وهي الأدلة الكليّة وليس الأدلة الجزئيّة التفصيليّة الخاصة بحكمٍ شرعيّ معين (2) كيفية الاستفادة منها أي كيف بالضبط نستنبط الأحكام الفقهيّة من تلك الأدلة (3) حال المستفيد أيّ أحوال وخصائص المجتهد الذي يستخرج الأحكام وما هي شروطه وما هو وضع المقلد وغير ذلك.
الدرس البليغ الذي نتعلمه من أصول الفقه اليوم أنّ علينا أن ننتبه للطريقةِ التي نبني بها أفكارنا وآراءنا. أن نفحص “أصول التفكير” الشخصي والمهني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فهي التي نتحرك بها ونعيش عليها.
خلاصة
- أصول الفقه آلة عقلانيّة ضخمة ودقيقة جداً تهدف لفهم الإسلام وكيفية تنزيله في العالم المعاش.
- المواد الأوليّة التي يقوم عليها الفقه هي نصوصُ الوحيّ قرآناً وسنة.
- موضوعات أُصول الفقه أربعة: الأحكام – الأدلة – الدلالات – الاجتهاد.
- أصول الفقه معنيّ بمناهج التفكير والاستدلال، والفقه معنيّ بمخرجات التفكير والاجتهاد، وكلاهما مهمٌ جداً.
- الثقافة الأصوليّة ثقافة تغوص عميقاً نحو الجذور وأصول الأفكار والآراء والتشريعات، وكيفية بنائها ومدى صلابة ذلك البناء.
ثانياً: العقلانيّة الإسلاميّة ومصادر التشريع
في كتابه “كشف الأسرار” يَشرح عالِم الأصول الكبير علاء الدين البخاري (ت: 730 ه) كيف تأسست مصادر التشريع وعلى أيّ منطق، محللاً طبيعة العقلانيّة الإسلاميّة التي تَفتحت داخلها المذاهب ومناهج التفكير في العالم الإسلاميّ، وكيف أنّ العقلانيّة تركيبٌ عبقريٌّ وعميق بين عنصريين هما “الوحيّ” و”الرأي”.
حكاها الإمام الدبوسي كقاعدة أصوليّة عامة: “الشرعُ والعقلُ حجتان للهِ على عبادِه يتأيَّد أحدهما بالآخر ولا يتناقض”. (تقويم الأدلة، الدبوسي، 458).
ثنائيّة الوحيّ والرأيّ حكاها الإمام الغزالي بطريقةٍ أخرى فقال: “خيرُ العِلم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأيّ والشّرع، فلا هو تصرفٌ بمحضِ العقولِ بحيث لا يتلقاه الشّرع بالقبول، ولا هو مبنيٌ على التقليد الذي لا يَشهد له العقل بالتأييد والتسديد”. (المستصفى، الغزالي، 4).
والتصنيف المشهور لمصادر التشريع يقسم إلى مصادر أصلية ومصادر تبعية. فالمصادر الأصليّة أربعة: القرآن، السنة، الإجماع، القياس.
والمصادر التبعيّة أدلة إضافية تستمد حجيتها من المصادر الأصليّة، وهي متعددة ويختلف الأصوليون في نطاقها ومدى استعمالها، من أهمها: قول الصحابي وعمل أهل المدينة والمصلحة المرسلة والاستحسان والاستصحاب، وكذلك شرع من قبلنا. أما العُرف وسدّ الذرائع فإنها مصادرٌ تشريعيّة جزئيّة في حقّ القاضي والمفتيّ بالخصوص. أيّ أنّ المصادر التبعيّة تعود في نهاية المطاف إلى المصادر الأصليّة.
يَشرح الأصوليون -مثل الآمدي وعلاء الدين البخاري والشاطبي- المنطق الذي تأسست عليه المصادر الأصليّة، بأن أحكام الشريعة إما أن تثبت بوحي أو برأي، ثمّ الوحي وحيان والرأي رأيان، فالأحكام:
1. إن ثبتت بوحيّ متلو فهو القرآن (متلو يعني نصٌّ معجز يُتعبد بتلاوته).
2. وإن ثبتت بوحيّ غير متلو فهي السّنة.
3. وإن ثبتت برأيّ الجميع فهو الإجماع.
4. وإن ثبتت برأيّ البعض فهو القياس.
هذه مصادر العقلانيّة الإسلاميّة وأدلتها النهائية حين تصوغ الفلسفة وتنسج نظام التفكير والعلوم، وحين تقرر التشريعات والقوانين ونُظُم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وحين تمنح المعنى للحياة الفردية، وحين توقد شعلة الروح في قلوب العالمين، إنّها ترجع إلى كلام الله وسّنة رسولِه ورأيّ الجماعة ورأيّ الأفراد.
تتكون عناصر العقلانيّة الواسعة من الوحيّ والرأيّ، كلاهما معاً في اللحظة نفسها، والعقل هنا أشبه بضفيرة معقدة من خيوط وحيّ ورأيّ يتفاعلان طوال الوقت، مع كلّ إعمال للعقل في دراسة قضية معينة يشتغل الوحي والرأي لإنتاج حكم بخصوصها، إنّه علاقةُ ازدواج ومصاحبة كما ذكر الغزالي منذ قليل.
إنّ حُكم المسألة حسب العقل السليم هو محصلةُ التفاعل بين الوحيّ والرأيّ بالضرورة، وليس أمراً جاهزاً يُحضره أحدهم بغرور كأنه جهاز لقياس الحرارة يُخرجه من جيبه ليستخدمه، المؤكد أنّ هذا ليس العقل، لعلّه هو الهوى بعينه.
عقلانيّة الوحي والرأي تبلورت في وقتٍ مبكر عند الفقهاء والأصوليين، فنجد محمد بن الحسن الشيباني التلميذ الصغير لأبي حنيفة يستخدم هذه العقلانيّة الواسعة ليشرح علاقة الحديث النبويّ بالرأي فيقول: “لا يستقيم الحَديثُ إلا بالرأيّ، ولا يستقيم الرأيّ إلا بالحَديث”. أي لا يُؤدي الحديث هدفَه إلا باستعمال الرأيّ فيه بأن يدرك معانيه التي هي مناطُ الأحكام، ولا يستقيم العمل بالرأي والأخذ به إلا بانضمام الحديث إليه.
شدة الترابط هذه جعلت علماءً كباراً -كالغزالي والشاطبي وابن خلدون- يشرحون أنّ كلاً من الوحي والرأي مفتقر إلى الآخر، لأنّ الاستدلال بالوحي قرآناً أو سنةً لا بدّ فيه من النظر والرأي، والرأي لا يُعتبر صحيحاً مستنيراً إلا إذا استند إلى وحي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
وإذا تَخيلنا الوحي والرأي يقعان على مسطرةٍ واحدةٍ ملونة بلونين يتداخلان بشكلٍ مُتدرج، لونٌ أخضر للوحي ولونٌ أزرق للرأي، فإننا سنرى في أقصى طرف الرأي ظلالاً ونقاطاً خضراء تعود للوحي، وفي أقصى طرف الوحي ظلالاً ونقاطاً زرقاء تعود للرأي، هذه هي الحالةُ الفعليّة للعلاقة بينهما… والتي أعتقد أنّها أكثر دقة من الحالة النظريّة حيث يظهر العقل والنقل وكأنهما أمران منفصلان نضطر بعدها إلى نقاش هل يتعارضان أو يتوافقان.
فالمقابلة ليست بين العقل” و”النقل”، بل هي بين “عقل مجرد من الوحي”، أيّ مستخرج منه، و”عقل مؤيد بالوحي”، وإذا أردت أن تستخدم لغة موجزة أكثر فهي بين “رأي مجرد” و “رأي مُؤيَّد.”
مثلاً حين قام ابن خلدون بتحليل النُظُم السياسية ومصدر القوانين فيها، ذكر من أنواعها السياسة العقليّة التي تعتمد النظر العقلي في تقدير مصالح الناس وتعمل على تحقيقها. ثُم يشرح أنّه رغم منافع هذا النظام ومزاياه إلا أنّه مذمومٌ قاصر، لأنه “نظر بغير نورِ الله”، فتقدير المصالح وتحديدها هنا يستند إلى عقول الناس فقط وتحيزاتهم دون انفتاح على الوحي، ويستدلّ ابن خلدون بالآية المركزية التي استدلّ بها الأصوليون وهي: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]. يتبنى ابن خلدون نفس العقلانيّة العالميّة المنفتحة على الوحي التي تبناها الأصوليون، إنها تتركب من أمرين: “نظرٌ” في الأشياء والأحداث مؤيَّدٌ “بنورِ الله”. (تاريخ ابن خلدون، 1\238)
يترجم العزّ بن عبد السلام والشاطبي هذه الآية القرآنية إلى لغة أصوليّة عمليّة، فيذكران أنّ مصدر معرفة المصالح الدنيوية يكون بالعقل والتجارب بعد أن يُمهّد الشرع أصول المصالح بأحكام تفصيلية أو قواعد عامة، هكذا نجد أننا لم نبرح ثنائية الوحي والرأي.
الملفت في الأمر أنك تجدهم حين يناقشون مسألةً معينة يضعون أدلتها ضمن رباعيّة (من القرآن- من السنة- من الإجماع- من المعقول)، مثلاً في موضوع الشركة يأتون بهذه الرباعيّة ويقدمون في الأدلة المعقولة تحليلاً اقتصادياً اجتماعياً لأهمية تأسيس الشركات الخاصة ودورها في عمارة العالم. والطريف أن تجدهم ضمن هذه الأدلة يستندون إلى آيات وأحاديث ليس لكونها وحيّ بل لما تَحمله داخلها من معاني معقولة مصلحيّة، فالوحي المحفوظ عندنا يقدم هذه المزية النادرة ويكرس حالة التداخل بين الوحي والرأي، مضمون الوحي عقلانيّ.
هكذا يبدو من الطبيعي جداً أن تظهر قاعدة أصولية عظيمة الشأن تنص أن “الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبد”، فالأصل في الأحكام والتكاليف الشرعية المقررة في الشريعة أن تكون لها علل ومصالح مدركة، وهذا هو المقصود بمعقوليتها، والاستثناء فيها أن تكون عللها ومصالحها خفية مجهولة، بحيث لا يمكن للعقل إدراكها، وهذا هو المقصود بالتعبد فيها، وهذا ما يكثر في أبواب العبادات. (المعلمة 456/5)
خلاصة
1. الأفضل أن نتخيل الوحي والرأي على أنّهما خطان متوازيان يمتدان في مدى واحد، يقتربان في بعض النقاط إلى حدّ التطابق ويفترقان في بعض النقاط مع بقاء جسور متينة، في الحالتين يسيران باتجاهٍ واحد.
2. المصادر الأصليّة الأربعة تُجسد بوضوح العقلانيّة الواسعة؛ اثنان منها يركزان على الوحي (القرآن والسنة) واثنان منها يركزان على الرأي (الإجماع والقياس)، مع وجود ارتباط واعتماد متبادل بينها.
3. تنفتح العقلانيّة وتتسع باتساع مصادرها وجودة تلك المصادر ومدى النور الذي تزودنا به كي نرى زوايا خارج فضائنا البشري المحدود جداً.
ثالثاً: ثنائية الوحيّ.. الفكرة والحياة معاً
مصادر التشريع الأصلية = القرآن + السنة + الإجماع + القياس. في هذه المصادر تنعكس العقلانيّة الإسلاميّة الواسعة التي تتركب من الوحي والرأي، والأصل الذي تستند إليه كل الأدلة في وجودها وحجيتها إنما هو “القرآن”، لأنه كلام الله الذي نخلص له العبادة، وحتى نخلص له العبادة يجب ألا نخضع إلى غير كلامه وأمره، فإذا نظرنا في كتاب الله وجدنا أنه منح طاعة الرسول نفس حكم طاعة الله وربطهما ببعضهما في آيات كثيرة مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
ثم جاءت آيات كثيرة تؤسس طاعة الرسول بشكل مستقل: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)، (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا )، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً).
طاعة الله ورَدُّ الأمر إليه يكون من خلال اتباع ما جاء في كتابِه، وطاعة الرسول ورَدُّ الأمر إليه يكون باتباع ما جاء في سنته، كلاهما وحي لأنّ الرسول {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]. الفرق بين القرآن والسنة أنّ القرآن وحيّ متلو (نص مُعجز) والسّنة وحيّ غير متلو كما يقول الأصوليون، وهذه الثنائية أشار لها النبي نفسه في حديث: “إلا إنّي أُوتيت القرآن ومثله معه”. (رواه أبو داود وأحمد، صحيح). فالرسول أوتي القرآن وأوتي وحيّاً مثله لكنه ليس بقرآن، وهذا هو السنة.
ومن المهم أن نتذكر أنّ الأصل الواقعيّ للقرآن هو رسولُ الله، فهو الذي أخبرنا بالقرآن نفسه، من فمه الصادق تلقينا الوحي القرآني وعرفناه، إنّه الذي تلتقي عنده كل الطرق صلى الله عليه وسلم.
هكذا تغدو السّنة النبويّة هي المصدر الثاني للإسلام، لأنّها تُخبر عن أحكامِ الله وتبيّن القرآن على نحو تفصيلي أكثر، فالسّنة هي “ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير على سبيل التبليغ والتشريع”، لذلك فإنّ الرسول يحمل أمام الله مهمتين رئيسيتين:
1. تبليغ القرآن المنزل: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك}.
2. بيان القرآن المنزل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
كانت هذه الرؤية واضحة عند الصحابة والصحابيات، فقد سأل سعد بن هشام السيدة عائشة: أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَت: أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ قُلتُ: بَلَى. قَالَت: “فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّه كَانَ القُرآنَ”. (رواه مسلم) أي أنّ حياة الرسول هي ترجمة واقعية وجواب مباشر عن كيف يمكن العيش بالقرآن. عند تدقيق النظر يتضح أنّ القرآن والسنة هما في الحقيقة المصادر الأصلية للشريعة التي يستند إليها ما عداها كما أشار الأصوليون، منهما يصدر نور الوحي بشكل مباشر وخصب كأنه قد نزل للتو.
ثنائية الوحي (القرآن – السنة) تنبع من ثنائية جوهريّة تطبع الإسلام كلّه وهي أنّه يجمع بين البُعد الروحي الغيبي وبين البُعد المادي المعاش، معاً في نفس الوقت، فلا يمكن فهم القرآن فهماً صحيحاً بدون حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل القرآن حقيقة معاشة بشكل ملموس، وفقط من خلال فهمنا لحياة النبي يعرض الإسلام نفسه كفلسفة عمليّة وخطة شاملة للحياة، وإذا كان القرآن هو الفكرة والحقيقة والروح فإنّ السنة النبوية -كما أشار بيغوفيتش- هي التطبيق والممارسة والحياة الفعلية، القرآن يعطي الإلهام والسنة تعطي الخبرة، والروعة في ذلك أنّ كلاهما وحيّ.
من يريد أن يفهم الإسلام من القرآن دون السنة فإنه لا يرد شطر الوحي فحسب، بل يشّوه المنطق الداخلي للإسلام. إنّه يريد أن تكون مصادر التشريع مسيحية في منطقها، تطرح الفكرة مجردة دون سند واقعي يشرح امتدادها ويجسدها في عالم الناس والمصالح. ولعل هذا المنطق يلتقي مع منطق المشركين الذين كانوا يرون أنّ الوحي لا ينبغي أن ينزل على بشر يعيش حياة البشر ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، بل يهبط كتاب جليل وسط أجواء مهيبة من السماء يلقيه أحد ملائكة الله.
حسناً، ماذا سنفعل الآن بهذا الكتاب؟ كيف سنفهمه فهماً تنفيذياً نعيش به؟
وإذا كانت المهمة الرئيسة للقرآن أن يجيب على أسئلة: ماذا؟ ولماذا؟ فإنّ المهمة الرئيسة للسنة أن تجيب على أسئلة: كيف؟ ومتى؟ وأين؟ وكم؟ ومع من؟ السّنة بتعريفها اللغوي هي؛ طريقةٌ في العيش، طريقةٌ في السير.
مثلاً في معالجة قضية اجتماعية معقدة كقضية الفقر، يأتي القرآن فيجيب على سؤال: ماذا نفعل؟ يُوجب الزكاة على الغني ويُوجب العمل على الفقير القادر. ويجيب على سؤال: لماذا نأخذ مِنَ الغني ونعطي الفقير؟ لتطهير النفس من الشّح ولبناء اقتصاد يُتداول فيه المال. ولأنّ للفقير حقاً في مال الغني من حيث التضامن ومن حيث أنّ الغني يستخدم موارد الطبيعة كالهواء والماء والتي هي ملكية كونية يشترك في ملكها الفقير، فيجب أن يحصل على عوائدها بوصفه شريكاً تم استثمار شيء من ملكه الكوني.
ثم تأتي السنة فتؤكد ذلك لكنّها تتفرغ للإجابة على أسئلة كيف وكم ومتى وأين ومن؟ تجب الزكاة على من مَلك مالاً مقداره (200 درهم أو 20 دينار) ومضت عليه سنة قمرية، فإنه يُخرج زكاة من المال بقدر 2.5 %، وهو ما لم يتم بيانه في القرآن.
كثيراً ما يخطر في البال، أنّ الذين يرفضون السّنة يحملون فشلاً في فهم طبيعة الحياة وكيفية أخذها بقوةٍ واقتدار، لأنّ آلية التفكير التي دفعتهم لهذا لا تهتم بالطريقة وكيفية إنجاز الأمور وإحداث التغيير والتفاصيل الصغيرة الحاسمة، هم يهتمون فقط بالأفكار العامة والمبادئ المجردة. أما الطريقة والعمليّة فهي أمرٌ لا يبلغ أهمية تستحق الوحي.
ميّزة مصدريّ التشريع (قرآن وسنة) أنهما يُقدمان لنا نظرةً عميقةً للحياة وبصيرةً داخلية ممتازة. لأنكم تحتاجون الأفكار الكلية والمبادئ العامة والتوجهات الكبرى كما تحتاجون الكيفية والطريقة العملية والتفاصيل المهمّة والحوامل الواقعية للفكرة.. كلاهما مهمٌّ جداً، حتى على مستوى الوحي.
عادة ما يفشل الإنسان في فعل شيءٍ إذا توفر له ماذا؟ ولم يتوفر له كيف؟ على الأقل يحتاج أمثلة وإضاءات عن كيف؟ وهذا المتوقع من الدين الخاتم الذي هو رحمةٌ للناس تُيّسر عليهم حياتهم وتنير دروبها الصعبة.
وقد تَنبأ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده، فكان يُحذر بشكل متكرر من هذه الظاهرة، حتى أنّ عدداً من الصحابة نقلوا ذلك، فقد جاء عن أبي رافع عن النبي أنّه قال: “لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه”. (رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن). وجاء عن المقدام بن معدي كِرِب قال: قال رسول الله: “يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يُحَدَّث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه. وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله”. (رواه الترمذي والحاكم في المستدرك، حديث حسن).
رابعاً: الإجماع.. العلم والعدالة والحرية في نقطة واحدة
تتركب العقلانيّة الإسلاميّة من ثنائية الوحي والرأي معاً، وتترك أَثرها على مصادر التشريع الأصليّة في صيغتها الرباعيّة المشهورة: (الكتاب – السنة – الإجماع – القياس). شرح الأصوليون أنّ المصدرين الأوليْن يمثلان الوحي بشكل مباشر، وأنّ المصدرين الأخيرين يمثلان الرأي بشكل مباشر، والرأي نوعان كما ذكر علماء الأصول: رأي الجميع الذي يتشكل منه الإجماع، ورأي الأفراد الذين يمارسون الاجتهاد دون حصول إجماع.
في الحياة الواقعية يبدأ الأمر عادة برأي فردي لأشخاص كثيرين (المصدر الرابع) ثم يتشّكل منه رأيٌّ جماعي (المصدر الثالث)، يبدأ الاجتهاد بأفراد يتفاعلون مع الوحي ويستندون إليه في إنتاج أحكام ورؤى اجتهادية مبنيّ على علمٍ واستدلالٍ كافٍ، تعالج قضايا الحياة في الاقتصاد والسياسة والأسرة وغيرها..
لكي يكون لهذه الآراء وزنها وقيمتها يجب أن تكون محكومة بثلاثِ قيم جوهريّة:
1. العلم
2. العدالة
3. الحرية
يقتضي “العلم” أن يتمتع صاحب الرأي بأهليّة ومعدات معرفيّة مناسبة تجعل رأيه مبنيّاً على علم كافٍ بالمسألة، فالإجماع يستمد مكانته من أنّ أشخاصاً كثيرين قاموا بعمليات فهم واستدلال وتفاعل مع الوحي، ثم التقت كلها عند نقطةٍ واحدة ورأي واحد، لذلك ذكر الأصوليون أنّ الإجماع لا ينعقد إلا إذا كان مبنيّاً على مستند ودليل، إدراك هذا يحتاج إلى شخص مؤهل بأدوات علمية كافية. كلّ ذلك ليتحقق احترام العلم عبر ضمانات وإجراءات حقيقية ولا يبقى مجرد كلام فارغ.
وتقتضي “العدالة” أن يكون صاحب الرأي نزيهاً ليس فاسقاً يخوض في المعاصي ويتبع هواه، الملفت للنظر أنّ مفهوم العدالة مفهوم شخصي. أيّ أنّ العدالة صفةٌ للشخص وليست صفة للتعامل هل تم بعدل أو ظلم، والقصد منها أنّ هذا الرجل يعدل في معاملة نفسه ولا يظلمها بالمعاصي فتدخل النار، ولذلك هو ملتزمٌ بالطاعات لا يفعل الكبائر والموبقات ولا يصّر على الصغائر، فهو نزيهٌ ومستقيمٌ مع نفسه لا تتناقض أفكاره مع أفعاله.
وتقتضي “الحريّة” أن يكون صاحب الرأي قادراً على إبداء رأيه وليس واقعاً تحت إكراه، فإذا ثبت أنّ الشخص أو العالِم واقعٌ تحت إكراه حقيقي فإنه يخرج عن أن يُعتَدَّ بقوله.
ماذا يحدث بعد أن يجتهد المجتهدون؟
أغلب تلك الاجتهادات -الموجهة بالعلم والعدالة والحرية- ستصل إلى نتائج مختلفة بسبب طبيعة نصوص الوحي وطبيعة التفكير والاجتهاد، القليل منها فقط سيصل إلى النتيجة نفسها، هنا بالضبط نكون وجهاً لوجه أمام ظاهرة الإجماع، فهذه الآراء الاجتهادية التي عبَرَت فوق الجسور الثلاثة “العلم والعدالة والحرية” ووصلت إلى نتيجة واحدة ونقطة واحدة لا بدّ أن تحصل على مكانة جديدة تمنحها حجيّة كبيرة جداً تفوق بقية الاجتهادات.
هذه سردية نشوء الإجماع بشكل موجز. والقيم الثلاثة هي خلاصة الشروط التي وضعها الأصوليون للآراء التي يتشكّل منه الإجماع. إذا فكرنا قليلاً في قيمة العلم سنجد -كما وجد الأصوليون مثل البزدوي والآمدي- أنّ الأهليّة والمعدات المعرفيّة الكافية لبناء رأي مُعتبر يمكن تصنيفها إلى مستويين:
الأول: أهليّة الفهم العام
وهي التي تتوفر لكل مسلم لديه حدّ أدنى من الوعي والمعرفة بالإسلام، وهنا ينشأ “الإجماع العام” الذي يشترك فيه أبناء الأمة المسلمة سواء كانوا علماء أو غير علماء، ويسميه الأصوليون “إجماع الأمة” أو “إجماع العامة والخاصة”.
الثاني: أهليّة الفهم الدقيق
وهي التي تحتاج إلى مؤهلات علميّة وأدوات معرفيّة متخصصة وعمليات فهم واستدلال من النوع المعمق، وهنا ينشأ “الإجماع الخاص” الذي يشترك فيه العلماء المجتهدون فقط، وهو الذي يسميه الأصوليون “إجماع علماء الأمة” أو “إجماع الخاصة”.
والاجتهاد رتبةٌ علميةٌ عاليةٌ جداً لا يحوزها إلا من أمضى عمره في البحث ودراسة الإسلام والأحكام وشهد له مجتمع العلماء بالرسوخ في العلم، ولفظ الاجتهاد مأخوذ ممن بذل “أقصى الجهد” في الحصول على شيء ما.
لذلك لا يَدخل فيه العُلماء العاديون الذين درسوا وبحثوا لكن لم يبذلوا أقصى جهدهم ولم يبلغ فهمهم وتحليلهم للعلم تلك الرتبة، فضلاً عن أن يدخل فيه الهواة الذين يدّعون تجديد الإسلام في أيّام العطلة الأسبوعية أو بعد انتهاء الدوام الرسمي.
يقول الأصولي علاء الدين البخاري وهو يشرح تنوع الاستعداد العلمي وأثره على الإجماع:
” إنّ الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه الخواص والعوام. كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة ونحوها.. أمهات الشرائع.. وهذا مجمع عليه من جهة الخواص والعوام، ويشترط في انعقاد الإجماع عليه اتفاقهم جميعاً.. وإلى ما يختص بدركه الخواص من أهل الرأي والاجتهاد، وهو ما يحتاج فيه إلى الرأي، كتفصيل أحكام الصلاة والنكاح والطلاق والبيع”. (كشف الأسرار، علاء الدين البخاري، 3\239).
الإجماع.. خَتم النبوة وبدء الأمة
من يتتبع الأدلة التي ذكرها الأصوليون لحجية الإجماع يكتشف نظاماً فكرياً يَمتد في قلب الإسلام والأمة المسلمة، يعمل هذا النظام على استمرارية الحقيقة حتى قيام الساعة، وذلك من خلال توريثها من مقام النبوة إلى مقام الأمة.
يقوم هذا الأمر على ثلاثة مبادئ مترابطة: 1. ختم النبوة 2. عصمة الأمة 3. الرأي العام.
يعني ختم النبوة أنّه مع سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يبقَ هناك شخص نتلقى منه الوحي المعصوم عن الخطأ، وأنّ الحقيقة القطعيّة لم تَعد متوفرة عند أحد نذهب إليه فنسأله، لأنّ النبوة قد خُتمت وخبر السماء قد انقطع. لكنّها تعني أمراً آخر في المقابل، وهو أنّ العقل والرأي المستند إلى إرث النبوة “قرآناً وسنةً” أصبح هو السندُ الوحيدُ الذي نتلمس به حكم الله في مواقف الحياة المختلفة..
هذا الرأي المسدَّد بالوحي يمكن أن يأخذ العصمة التي كانت للنبي حال حياته، وذلك في حالة واحدة هي الإجماع (أن تصل العقول المسلمة المجتهدة إلى نفس النقطة والنتيجة في قضية معينة من قضايا الحياة)، أي أنّ الذي يتابع مهمة الوحي المعصوم بعد ختم النبوة هو الرأي المعصوم. يتشكل هذا الرأي المعصوم بواسطة إجماع يتصف بالعلم والعدالة والحرية.
من يمنح هذه المكانة التشريعية العالية للإجماع فإنّه في الوقت نفسه يمنح العقل والرأي مكانةً جوهريةً في أصول التشريع الإسلامي. لأنّ الإجماع في حقيقته هو رأي أنتجته عقول مشتركة أو كما يقول الأصوليون هو “رأيُّ الجميع” في فهم الوحي أو في استنباط حكم لقضية واقعية معينة.
ليس مصادفة أنّ أول إجماع ينعقد بعد وفاة خاتم النبيين كان الإجماع على وجوب إقامة سلطة سياسية حاكمة (الإجماع على وجوب الإمامة كما يقول الفقهاء والأصوليون). ثم تلاه مباشرةً إجماع ثانٍ وهو إجماع سياسيّ على بيعة أبي بكر الصديق خليفةً للمسلمين، هذه الأهمية الكبيرة للرأي شأن العقلانيّة الإسلاميّة التي تقوم بتركيب عبقريّ بين الوحي والرأي على طول الخط. ومن يُنكر حجية الإجماع فإنه يقلل من أهمية العقل ودوره في الشريعة وفي تنظيم العالم وفق منظور الشريعة.
شرح الأصوليون هذا المبدأ واعتبروا أنّ الإجماع يضمن دوام الشريعة بعد ختم النبوة، يقول ابن فورك: “لما خُتم أمر الرسالة بنبينا محمد رسول الله عصم جملة أمته من الإجماع على الخطأ في كل عصر، حتى يكونوا معصومين في التبليغ والأداء ويكونوا كنبي جَدَّدَ شريعةً”. (البحر المحيط للزركشي).
ويقول علاء الدين البخاري: “نبينا خاتم الأنبياء وشريعته دائمة إلى قيام الساعة. والإجماع حجّة قطعيّة لتدوم الشريعة بوجوده”. (كشف الأسرار للبخاري).
لقد هدم الشيعة مبدأ ختم النبوة حين نقلوا العصمةَ من الرسول بعد وفاته إلى أشخاص. ابتداءً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وانتهاءً بسلسلة الأئمة المعصومين عندهم. هي المشكلة المسيحية نفسها حيث نقلوا العصمة من عيسى المسيح إلى أشخاص وباباوات، كلاهما طريق خاطئ، إما أن يكون هناك رسول من الله وإما أن تكون الأمة هي المرجع النهائي. كل شيء سوى ذلك فهو مهلكة للعقل ولمصالح الناس.
بعد الوحي.. الأمة مصدر التشريع المسدد بالوحي
ختم النبوة يقتضي أنّه لم يعد هناك شخص معصوم في قوله، كما يقتضي أنّ العقل والرأي هو الذي سيتابع الأمر من حيث اكتمل الوحي وخُتم، وكما يقول ابن تيمية: “هذه الأمة لا نبيّ بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة”. اجتهاد الفرد ورأيه قابل للخطأ “أما اجتهاد الأمة المعصومة فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله”، مثلما يشير الغزالي والآمدي والطوفي وغيرهم. هكذا ينتقل الأمر من “النبي المعصوم” إلى “الأمة المعصومة” ونكون أمام ظاهرة الإجماع.
إذن.. الأمة هي التي تَرث أمانة النبوة وتمد الخط إلى نهايته. في قلبها يقع مستودع الحقيقة. إليها المرجعية في التشريع وفي تنظيم العالَم وشؤون الدنيا. وهي تصبح كذلك إذا كانت تستند للوحي وتهتدي بنوره المحفوظ القرآن والسنة. ضمن هذا الموقع بالضبط تكون الأمة ويكون الإجماع معها، فهو المصدر الثالث بعد مصدري الوحي “القرآن والسنة”، وهما اللذان منحا الأمة هذا الموقع أصلاً.
فمن آيات القرآن: {مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، هكذا جمعت الآية بين مخالفة الرسول واتباع طريقٍ مغاير لطريق الأمة المؤمنة، فلو جاز المضي في رأيٍ يخالف رأي الأمة المؤمنة لما قرنه القرآن مع مخالفة الرسول ولما أعطاه حكماً واحداً في الوعيد والتهديد.. الإجماع هو التعبير الإجرائي الرسمي عن رأي الأمة في مسألة معينة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى وتبينه، منها أنّ النبي في أواخر حياته حين عيَّن للصلاة نيابة عنه أبا بكر علّل ذلك بقوله: “يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر”، فهذا تنزيلٌ للآية القرآنية أنزله رسول الله على مسألة واقعيّة محددة وذكر الدليل بأنّ الأمة المؤمنة تأبى إلا أبا بكر، ومنها حديث: “سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها” وحديث: “لا تجتمع أمتي على الضلالة”..
يُلاحظ من الأدلة القرآنية والنبوية التي استند إليها الأصوليون في حجية الإجماع أنه تدور حول مرجعية الأمة في التشريع وإدارة شؤون العالَم السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ هذا المنطق الذي تشكل في العالم الإسلامي يُعتبر نقلةً جذريّةً في الوعي السياسي والديني العالمي، فإنّ السياق التاريخي الذي نشأ فيه كان يضع القداسة والعصمة ومرجعية التشريع والقوانين في يدّ الحكام أو رجال الدين، فكان ذلك يولد استبداداً سياسياً واستبداداً دينياً.
أما في العالَم الإسلامي فلم يجرؤ أحد -عدا الشيعة- أن يضع العصمة أو مصدرية التشريع إلا في “الأمة”، ليس هناك مذهب فقهي أصولي يرى أنّ العلماء المسلمين معصومون أو أنّ الحكام معصومون وقولهم يُعتبر من مصادر التشريع أو أدلة الأحكام. المعصوم بعد ختم النبوة هو الأمة والأمة فقط، والأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها، إن إجماع الأمة نوعٌ من صور التعبير عن الإرادة الإلهية، فلها وَحدها دون حكامها حق التعبير عن الإرادة الإلهية بعد القرآن والسنة النبوية” كما يقول العلامة السنهوري.
يترتب على هذا نتيجتين حاسمتين:
الأولى: الأمة المسلمة على امتدادها الضخم هي مرجعيّة التشريع القطعيّة بعد الوحي. هذا نطاق الإجماع المعتمد وليس نطاقه بلد معين أو شعب معين أو قومية معينة، يعني هذا أنّ هناك تنوعاً مذهلاً من الشعوب والعرقيات والثقافات والأعراف هو الذي سيحمل فوقه قوة التشريع القطعيّة.
فالإجماع يُشبه الحوْض الحقوقيّ الكبير الذي يستوعب شعوباً وثقافات متنوعة. يجمعهم على أساسيات في الحقوق والواجبات وكيفية التعامل وإدارة شؤون العالم والسلطة.. المسلم السوري والتركي والمغربي والماليزي والباكستاني والأوربي والأمريكي والروسي والصيني.. كلهم وغيرهم يدخلون في تشكيل الإجماع..
هذا الامتداد الضخم يَضمن الموضوعية والاستقلالية الفائقة في وقتٍ واحد، ضمان الموضوعية بأنّ العقول المجتهدة رغم اختلاف ثقافتها وزوايا نظرها وصلت إلى نتيجة متطابقة فيما يخص قضية معينة، وضمان الاستقلالية يظهر في النتيجة التالية.
الثانية: سلطة التشريع العليا التي لا يمكن مخالفتها تقع داخل الأمة وخارج أجهزة الدولة وهياكل السلطة.
هي ليست “سلطة تشريعية” من بين سلطاتٍ ثلاث يمكن للحاكم المستبد أن يقهر أعضائها أو يشتريهم بالمال..
إنّها سلطة تشريع تصدر أحكاماً وقوانين قليلة جداً لكنّها محوريّة جداً.. فهي استقلالية لا نعرف ما يشبهها في عالمِنا المعاصر، مثلاً من الأحكام المُجمع عليها والمتعلقة بالاقتصاد أنّ فرض الضرائب “المكوس” محرم إلا إذا كانت هناك حاجة واضحة وكان على نحو عادل وضمن نظام عادل وشروط عديدة.
إنّ مصدر الإجماع يقع خارج قوة السلطة السياسية.. خاصة وأنّ المسائل المُجمع عليها قد ترسّخت عبر عصور سابقة وأصبحت كأعرافٍ حقوقيّة راسخة في الوعي. فليس أمام الحكومة إلا أن يخالفها جهاراً وتحدياً دون أن يتمكن من تغطيتها عبر تشريع يصدره برلمان.