الاستشراق وعلم الكلام
اهتم المستشرقون بالتراث العربي والإسلامي وانشغلوا بالبحث فيه والتنقيح والتحقيق في مخطوطاته وحفظه ونقده، حتى أنهم أوْلوا علم الكلام نصيبًا وافرًا وجهدًا واضحًا، فأخذوا بدراسته والجدّ في معرفة نشأته وأبرز مسائله وتنوع مذاهبه، وكان لكثير منهم مآرب سياسية أو دينية، كما كان لفريق منهم حبّ للتعلم والدراسة والبحث الموضوعي البعيد عن العداء والرغبة في الهدم والتشويه.
ومن الغريب أن تكون الدراسات الكلامية أثارت اهتمامًا واسعًا في الجامعات الغربية -على خلاف الحال في العالم العربي-؛ إذ إنّ أهم الدراسات في تاريخ الفرق الإسلامية والمذاهب الكلامية في السنوات الأخيرة قد ظهر على يد أساتذة غربيين مثل: جوزف فان إس، ودانيل جيماريه، ومايكل كوك.[1]
وفي دراسة أجراها عبد العظيم الديب بعنوان “المستشرقون والتراث” بيّن فيها أن نسبة المنشور من جملة المنشورات الاستشراقية التراثية أخذ فيه التصوف وعلم الكلام والفلسفة ما يقارب 43% في حين أن التاريخ والتراجم لم تتجاوز 30% وباقي العلوم مثل الفقه والتفسير والأدب والبلاغة بلغت 4.3 % فقط!
وكان لاهتمام المستشرقين خاصة اللاهوتيين منهم في دراسة علم الكلام للبحث في إن كان يصح أن يكون علمًا لاهوتيًّا على غرار اللاهوت المسيحي كما يقول السيد ولد أباه، وغلب على المستشرقين القول بأنه لا يعدو أن يكون منهجًا جدليًا وليس له وجه في البحث في الإلهيات.
ويُقدم هذا المقال إضاءة حول جهود الاستشراق في علم الكلام وتأتي أهمية التقديم لما لعلم الكلام مُنعكس على الوعي الغربي في موقفه من المسلمين والذي لا يتوقف على البعد النظريّ فقط بل يُترجم إلى أفعالٍ صريحة.
أولًا: مفهوم الاستشراق
كلمة الاستشراق قد تكون من مادة الشرق التي لها أصل في اللغة، فيقال: شرقت الشمس شرقًا وشروقًا إذا طلعت، وشرق المكان شرقًا إذا طلعت عليه الشمس.[2] وكلمة الاستشراق اصطلاحًا لا يُراد بها المفهوم اللغوي؛ فالاستشراق هو طلب علوم الشرق والتخصص في معرفتها.[3]
ويوجد للاستشراق تعاريف كثيرة أذكر منها:
– هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي.[4]
– وذكر بعض الباحثين: هو اهتمام علماء الغرب بعلوم المسلمين وتاريخهم ولغاتهم.[5]
– ويعرف إدوارد سعيد الاستشراق فيقول: هو أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يُسمى “الشرق” وبين ما يُسمى -في معظم الأحيان- “الغرب”.[6] ويطوّر إدوارد سعيد معنىً آخر للاستشراق حيث يقول باختصار: إن الاستشراق أسلوبٌ غربيّ للهيمنة على الشرق، وإعادة بناءه، والتسلط عليه.[7]
وقد استعملتْ كلمة الاستشراق لأول مرة في معجم الأكاديمية الفرنسية سنة 1838م بعد أن شاع استعمالها واًصبحت اللفظة دالة على التخصص في الثقافات الشرقية، حيث أخذ علم الاستشراق يهتم في البداية بالعلاقات الإنسانية والثقافية بين الشرق والغرب، من خلال دراسة اللغات الشرقية والفنون والعادات والمعتقدات كمرحلة أولى لاستكشاف تطور الفكر الإنساني وإيجاد روابط بين الثقافات الشرقية والغربية.[8]
والاستشراق اليوم هو مدرسة وعلم وسياسة واقتصاد، وبخاصة عندما يكون الشرق هو الإسلام، كحضارة وعقيدة وتراث وأمة. ويرتبط هذا المفهوم كل الارتباط بالموروث التاريخي للشخصية الغربية في نظرتها للحضارة العربية والإسلامية، وهو موروث مثقل بالتراكمات النفسية، ومشاعر ضاغطة مسيطرة على حركة الفكر، مؤثرة في السلوكيات والمواقف.[9]
ويُمكن الاستنتاج مما سبق أن الاستشراق مفهوم يقوم على الاهتمام بأحوال الشرق، والكشف عن عقليات شعوبه، وأسراره، وأمزجته، وحضارته، وتلمس مواضع القوة والضعف لهذه الشعوب توطئة لحملات التبشير وموجات الاستعمار، ثم بعد انحسار الاستعمار المباشر أصبح الاستشراق يمهد الأرضية الصالحة للاستعمار الثقافي والسياسي والاقتصادي لشعوب الشرق بصفة عامة، وشعوب الشرق الأدنى بصفة خاصة.[10]
ثانيًا: عناية الاستشراق بعلم الكلام
لعلم الكلام تعريفات عديدة تدل على الاختلاف في وجهات النظر نحو هذا العلم عند كل مفكر وباحث. فيُعرف أبو نصر الفارابي علم الكلام بأنه: “صناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل. وهذا ينقسم إلى جزءين أيضًا: جزء في الآراء، وجزء في الأفعال.”[11]
ويقول التهانوي في التعريف بعلم الكلام: ويسمّى بأصول الدين، أيضًا، وسماه أبو حنيفة رحمه الله تعالى بالفقه الأكبر. وفي مجمع السلوك: “ويسمّى بعلم النظر والاستدلال أيضًا، ويسمّى أيضًا، بعلم التوحيد والصفات. وفي شرح العقائد للتفتازاني: العلم المتعلّق بالأحكام الفرعية، أي العملية يسمّى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية أي الاعتقادية يسمّى علم التوحيد والصفات، انتهى. وهو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير بإيراد الحجج ودفع الشُّبَه.[12]
ويُعرّفه ابن خلدون: “هو علمٌ يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة. وسرّ هذه العقائد الإيمانيّة هو التّوحيد.” [13]
وكان اهتمام المستشرقين بعلم الكلام كبيرًا جدًا وخاصة في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، ورجعوا أولاً إلى المخطوطات المحفوظة في مختلف مكتبات أوروبا، ونشروا ما تيسر لهم نشره، وقاموا بترجمتها إلى مختلف اللغات الأوروبية، لا سيما الألمانية والفرنسية والإنجليزية.[14]
ولقد اتجهت أعمال المُستشرقين إلى التعرف إلى علم الكلام في مضمونهِ الذاتي وقرائنهِ التاريخية والحضارية وإلى مَعالِم المذاهب الكلاميَّة للفِرَق الإسلامية مثل المعتزلة والأشاعرة والإسماعيلية والإمامية والإباضية من الخوارج، واتجه الاهتمام كذلك إلى دراسة كبريات القضايا الكلامية مثل البحث في الصفات الإلهية، وفي نظرية التكليف، وفي منزلة العقل عند المتكلمين واهتمت بعض الدراسات بالتعرف إلى أهمِّ الأعلام من المُتكلِّمين من مختلف المذاهب. واتجه الاهتمام إلى الكشف عن المؤثرات الثقافية في أنساق المتكلمين.[15]
ومن المستشرقين من عني بعلم الكلام عناية خاصة، مثل أوتوبرتسل الذي بدأ دراسته في علم الكلام ببحث عن مذهب الذرة عند المتكلمين، معتمدًا في ذلك على كتاب مقالات الإسلاميين للأشعري، وانتهى إلى أنَّ القول بتأثير الفلسفة الإسلامية في المرحلة الأولى من علم الكلام قولٌ مبالغٌ فيه، وأنه يجب إعادة النظر في تاريخ علم الكلام قبل الأشعري، وكانت آخر أبحاثه عن صفات الله تعالى عند المتكلمين الأوائل.[16]
وكان من المستشرقين من اهتم بتنقيح المخطوطات التي تتعلق بعلم الكلام مثل المستشرق فاريست ليفي بروفنصال، الذي اهتم بتحقيق وتنقيح مخطوطات علم الكلام كانت في مكتبة الأسكوريال في إسبانيا، وقد نشرها في باريس.[17]
وكان للأشعري اهتمام خاص عند المستشرقين باعتباره المؤسس للمذهب الأشعري الذي يُعدّ الأكثر انتشارًا في عهد الدولة العثمانية، فكثرت كتاباتهم عنه، مثل: شبيتا الذي كتب كتابًا عنوانه: تاريخ أبي الحسن الأشعري ومذهبه، كذلك كتب هوتسما العقيدة الإسلامية والأشعري، وكتب تومسون عن الأشعري في صحيفة العالم الإسلامي، وكتب الأب اللار: مشكلة الصفات الإلهية في عقيدة الأشعري، وهجاء الأشعري، وكتب برد نشفيبج المعتزلة والأشعرية في بغداد، وكتب فان ميهرين عن الأشعري، وحقق كتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر، كـــذلك حقق كتاب مقالات الإسلاميين للأشعري كل من ردولف اشتروطمن، وريتير، وحقق الأب مكارثي كتاب اللمع للأشعري.[18]
في حين أن الدراسات حول المدرسة الحنبلية جاءت متأخرة في الاهتمام الاستشراقي؛ إن أول من بدأ بالتنظير حول هذه المدرسة جولدتسيهر، ثم أحدث هنري لاووست منعطفًا جريئًا فيما يتعلق بابن تيمية وفعل كذلك تلميذه جورج مقدسي وخاصة دراسته عن ابن عقيل، حتى جاءت أحداث أيلول لتتفجر الدراسات الاستشراقية حول الحنبلية والعناية الشديدة برجالات هذه المدرسة وتنظيراتهم الكلامية والفقهية.
أما فيما يتعلق بالمدرسة الاعتزالية فقد حظيت هذه المدرسة باهتمام بالغ ظهر في تمجيدهم لرجال هذه الفرقة ونشر مؤلفاتهم، والمبالغة في الثناء عليهم، كما وصفهم المستشرق (شتيز) بأنهم المفكّرون الأحرار في الإسلام، وألّف كتابًا بهذا الاسم، وكتب المستشرق (هاملتون جب) عددًا من الكتب منها؛ وجهة الإسلام (إلى أين يتجه الإسلام) و (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) مجَّد فيه مسلك المعتزلة ومن تأثر بهم في هذا العصر، ودعا إلى إسقاط مذهب أهل السنة، وقبول مفهوم التطور، وقامت المستشرقة (سوسنه ديفلد) بتحقيق كتاب (طبقات المعتزلة) لأحمد بن يحيى المرتضى، صدَّرته بمقدمة أشادت فيها بالمعتزلة وأنها خدمت دين الإسلام خدمة عظيمة من خلال مجادلتها للثنوية وردها لمقالاتهم. وذكرت بأنها –أي المعتزلة‑ وطَّأت لأهل السنة الطريق لإثبات عقيدتهم.[19]
وتقول شميتكه إن الدرس العلمي للمعتزلة قد شهد تقدمًا في العقود الأخيرة حتى انتهى الباحثون إلى تصور دقيق لتطورهم، وهذا الدرس المكثف الذي لحق بالفكر الاعتزالي يدين لتلقي الزيدية له ونقلهم لمذهب الاعتزال، ثم حفظهم له في تراثهم الفكري في مكتبات اليمن.[20]
الاهتمام الاستشراقي في المذهب الاعتزالي يعود إلى أنه يمثل ‑في نظرهم‑ نزعة عقلانية مستفادة من الفلسفة اليونانية، فجهود المعتزلة -في نظرهم- ما هي إلا انعكاس للفلسفة اليونانية، وبالتالي إذا أراد العالم العربي التقدم والازدهار على شاكلة العالم الأوروبي فعليه العودة إلى الفكر الاعتزالي! وهذا لا شك من النظرة المركزية الأوروبية التي تريد أن تضع العالم جميعًا داخل تجربته وتعميم هذه التجربة للشعوب.
ويلاحظ كوربان فيما يتعلق باسم المعتزلة بأنه لا يمكن أن يكون قد أطلق عليهم من خصومهم فقط؛ فالمعتزلة كانوا يفخرون بهذا الاسم طوال تاريخهم، فليس هنالك ما يدل على أن هذا الاسم يُدينهم بشيء. ويرى أن المعتزلة كانوا يعتقدون أنهم وحدهم من دافعوا عن مبدئين رئيسين، وهما: التوحيد، ومبدأ حرية الاختيار. ويُشير كذلك إلى سورة الكهف والفتية الذين أخبر عنهم القرآن بأنهم اعتزلوا وكانوا رمزًا للهدى والإيمان، فاعتزلوا عن قومهم لقولهم بوحدانية الله. وبذلك فالمعتزلة كانوا يفهمون أن هذه التسمية ليست مذمة أو لومًا، فقد اعتزلوا للحفاظ على التوحيد وليدافعوا عن حرية الأفعال والعدل الإلهي.[21]
واهتمت دراسات المستشرقين بعلم الكلام من حيث نشأته، ومدارسه، ومسائله، وتطوره وتاريخه، واختلفوا في بداية هذه النشأة ومتى كانت على وجه التحديد، فجولدتسيهرفي كتابه العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الديانة الإسلامية -وهو من أبرز كتبه وأكثرها سعة واستفاضة وتحدث فيه عن مسائل عدة منها نمو العقيدة وتطورها- يرى أن علم الكلام لم ينشأ إلا في العصر الأموي، أما قبل ذلك فقد كان هنالك قرآن يُفهم بعقلية بسيطة وساذجة كما زعم، كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجدل في العقائد والتفكير في تناقضات القرآن-بحسب ادعاءه-!
ويظهر من عنوان الكتاب ومن الفصل الذي عنونه بـ “نمو العقيدة وتطورها” أنه يفترض الزيادة والنقصان والتحول والتبدل للعقيدة الإسلامية. وقد كان هذا ما تنبّه له الشيخ محمد الغزالي وأول ما انتقد به جولدتسيهر، حيث يقول: العقائد والعبادات عندنا لا تتحمل زيادة أو نقصًا، ولا تخضع لتطور يتقدم بها إلى الأمام، أو يتقهقر بها إلى الخلف.” ويُكمل الغزالي سبب هذا الرأي عند جولدتسيهر حيث وصفه بالارتكاس الفكري ووصف رأيه بالتهمة فقال: “وربما أراد جولدتسيهر بهذه التهمة أن يسوي بين الإسلام والمسيحية في تطور العقيدة وتدرج الإيمان.[22]
فالمستشرقون لا يرون في القرآن الكريم كتابًا كاملًا من وحي رباني وأنه يُعدُّ مصدرًا للعلوم ويحثّ على النظر وإعمال العقل، بل يرونه نصّا مليئًا بالتناقضات جاء علم الكلام ليحلّ إشكالياته ويعمل على عقلنة الدين وإضفاء نسق موضوعي له، فالدين يخالف العقل والمنطق، وجاء علم الكلام ليعمل على تقريب هذه الهوة السحيقة. فكيف يمكن بعد هذه المصادرةِ أن تكون استنتاجاتهم صحيحة وموضوعية؟
وفيما يتعلق بتأخر نشأة علم الكلام عن العهد النبوي والخلفاء الراشدين يقدم ماكدونالد حجته في كون انشغال المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لمدة عشرين سنة أو ثلاثين بنشر دينهم والدعوة إلى الله. لذلك فإن روح الشك والتساؤل تأخرت كثيرًا واقتصرت حينًا من الدهر على المستوى الشخصي، فكانوا رجالاً بمفردهم وخرجوا بآراء فردية، ولم تظهر الفرق سريعًا، وكانت لما ظهرت مبهمة ويصعب الوقوف على آرائها.[23]
وهذا استنتاج خاطئ قصد به ماكدونالد أن الصحابة لم يكونوا يفهمون النص القرآني ولم يتفكروا في مسائله لانشغالهم بالغزو! وقد دلت الآثار على أن الصحابة سألوا الرسول -عليه السلام- في مسائل عقدية عدة؛ مثل حديث أبي رزين العقيلي حين سأل النبي -عليه السلام- أين الله؟ كما ناقش الصحابة مسألة رؤية النبي لربه في ليلة الإسراء والمعراج، وتناقشوا مسألة عذاب الميت ببكاء أهله وغير ذلك من الشواهد التي تنفي زعم المستشرقين بساطة تفكير الصحابة وعدم فهمهم العقلاني للنص القرآني.
ورغم محاولات التجرد والموضوعية التي حاولها بعض المستشرقين -خاصة المتأخرين- نجد أن طبيعة دراسة الإسلام والمسلمين مهما كانت درجة التجرد فإنها تستلزم توافر الانتماء العقدي الذي يفرض جانبًا كبيرًا من التوثيق والتوثق من الأخبار والروايات، والتثبت من مصادر المعلومات، والتسليم بالبداية بأن القرآن الكريم كتاب موحى من عند الله.
فعندما أشاد جولدتسيهر بالمعتزلة باعتبارهم يُقدرون العقل وينأون عن الأفهام التقليدية ويقدم وجهة المعتزلة ويشرح بأنهم أرادوا تنقية التوحيد من كل لبس وتشويه في الاعتقاد الشعبي الموروث، وبقولهم إن الإنسان يخلق أفعاله فهو إنسان حرٌّ مختار، ويقابل هذا الإنسان بحسب عبارة جولدتسير إلهًا لم يعد مستقلاً تمام الاستقلال في أفعاله[24]! وبهذا فإن جولدتسيهر أخرج قول المعتزلة بنسبة الأفعال إلى الإنسان لأنهم أرادوا تنزيه الله عن الظلم والقول بالعدل الإلهي ليدخلهم في تحديد إرادة الله وأفعاله وهذه صفة نقص على الله أضافها على لسان المعتزلة بشكل غير نزيه.
والحقيقة أن المعتزلة لما ذهبوا إلى أن الإنسان يخلق أفعاله ليس لأن الله عاجز عن ذلك، ولكنه أودع القدرة في الإنسان على خلق الأفعال، فهو المعطي، وله القدرة التامة على سلب ما أعطى، وإنما أعطى ما أعطى ليتم التكليف، وتحقيق الثواب والعقاب.[25]
كما يذهب مستشرقون إلى أن علم الكلام ليس أصيلًا بل قد تأثر منذ بدايته بأديان وثقافات أخرى، وقد وجدنا هذا الرأي عند جولدتسيهر ودي بور وماكونالد الذين اعتقدوا بالمؤثر المسيحي في بدايات هذه النشأة، وهذا خلط واضح؛ فقد نشأ علم الكلام وانبثق من مصادر إسلامية وقد جاءت عوامل أخرى خارجية أثرت به لكنها كانت لاحقًا، وقد أفاد النشار أن علم الكلام بقي إسلاميًا بحتًا حتى القرن الخامس ثم بعد ذلك شابته عناصر يونانية ومُزج بالعلوم الفلسفية.
فيَخلص دي بور إلى أن مذاهب المتكلمين تأثرت بعوامل نصرانية بشكل كبير، فتأثرت العقائد الإسلامية في تكوّنها بمذاهب الملكانية واليعاقبة في دمشق، كما تأثرت البصرة وبغداد بالمذاهب النسطورية والغنوصية. ويُدلل على ذلك بأن أول مسألة جرى الخلاف فيها بين المسلمين هي مسألة الاختيار وقد كان النصارى الشرقيون يكادون يقولون جميعًا بالاختيار، حتى أنه يقول بأن نصارى الشرق هم من بحث مسألة الاختيار في كل وجوهها ولم تبحث في هذا الشكل في أي زمن أو مكان؛ إذ كان البحث فيها داخلاً ضمن المشكلات المتصلة بالمسيح، ثم دخلت بالمباحث المتصلة بالإنسان. ويُقدم دليلاً آخر وهو أن طائفة من المسلمين الأوائل الذين قالوا بالاختيار كان لهم أساتذة من النصارى.
وفي معرض نقاش النشار لمسألة تأثّر المعتزلة بالمسيحيّة ومذاهبها، قال: “ذهب الأستاذ نللينو، وفون كريمر، وبكر، إلى أنّ المعتزلة قد تأثّروا في تكوين فكرتهم عن حريّة الإنسان واختياره بآباء الكنيسة، ولكن عن طريق غير مباشر… ولكن هذا خطأ: فالمسيحيّة تنادي بالجبر في أصلها الأوّل، وجوهر المسيحيّة هو التّشبّه بالله والاستغراق فيه.
ويقول الدكتور حسن الشافعي أن المباحث الاعتقادية لعلم الكلام قد نشأت جراء تفاعل العقل المسلم بالكتاب والسنة، فالمشاكل والمسائل الأولى ترجع لطبيعة هذين المصدرين وإلى طريقة القوم في فهمها وللتجارب المعينة التي مرَّ بها المجتمع الإسلامي في صميم حياته.
ثم إن اللاهوت المسيحي قد قام على المنهج الأرسطاليسي حتى آخر الأشكال الحملية، وكان المنطق هو السلاح الذي أقاموا عليه عقائدهم، أما المتكلمون فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن متقدمي المتكلمين لم يستخدموا هذا المنطق حتى القرن الخامس، وأنهم وضعوا منطقًا يخالف في جوهره المنطق الأرسطاليسي.
ويركّز المستشرقون على العامل السياسي لنشأة علم الكلام وقضاياه في حين أن العامل السياسي على الرغم من أهميته لا يكون هو التفسير الوحيد للنشأة، فهنالك عوامل كما ذكرنا في طبيعة النص القرآني والحديثي، ثم عوامل تاريخية، وأخرى نفسية، أما عزو الأمر للعامل السياسي وغلبة السلطان فتلك وجهة ناقصة.
فمثلًا يُعلل ماكدونالد ظهور المرجئة لسبب سياسي؛ فقد استطاع المرجئة في نظره إلى التوصل لرأي يواصلون به تأييد الأمويين دون الإعراب عن الرضا عن سائر أفعالهم ومهاجمة خصومهم، فقالوا إن الأمويين هم حكام الدولة الإسلامية وقد بايعهم المسلمون على السمع والطاعة ويعترفون بوحدانية الله وبنبوة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم ليسوا مشركين، فعلى المسلمين الاعتراف بحكمهم وإرجاء ذنبهم إلى قضاء الله يوم القيامة.[26]
غير أنه من الصعب فصل السياسي عن الديني في المجتمع الإسلامي قديمًا وتطبيق هذا الفصل الحديث يخرج لنا نتائج خاطئة، فقد كان المجتمع كما تنبه وائل حلاق مركبًا معقدًا من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية والدينية ومن الصعب القول بالفصل وعزو نشأة علم الكلام أو بعض مسائله للعامل السياسي وغلبة الملك فهذا تصور حداثي للمجتمعات استحال دون النظر للحقائق على وجهها الصحيح وسوء فهم للأمور فكانوا أن أظهروا أن علماء الكلام كانوا مجرد أداة للسلطة.
أبرز النتائج:
– أسهم المستشرقون في حفظ تراث المسلمين ونشره وتحقيقه في وقت تواضعت فيه الدراسات الشرقية الجادة المنتمية التي تخدم التراث. فقد قام المستشرقون بتحقيق كل موضوع من مواضيع الكتاب والسنة النبوية والفقه والكلام، كما تحدثوا عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، والمحدثين، والمشايخ والصوفية.
– كان اهتمام المستشرقين الرئيس في علم الكلام من جملة الاهتمامات الشاملة والعميقة في وضع الإسلام وتاريخ عقيدته في نفس الإطار التاريخي الأوروبي المسيحي-اليوناني.
– اتجهت أعمال المُستشرقين إلى التعرف إلى علم الكلام في مضمونهِ الذاتي وقرائنهِ التاريخية والحضارية وإلى مَعالِم المذاهب الكلاميَّة للفِرَق الإسلامية.
– لم يكتفِ جولدتسيهر بعرض آراء الفرق بقدر ما أضاف استنتاجاته التي نجد فيها البعد عن جادّة الصواب، بل تخلو من الموضوعية العلمية النزيهة، وأن تقسيمه الذي ألحق به أهل السنة ووصفهم بالفهم الساذج يُظهر مدى إجحافه بحقهم، وعدم معرفة منهجهم في أصلي النقل والعقل. بل إنه أضاف منهج الجبر إليهم وإلى فهم المسلمين الأوائل.
– قدم كوربان لعلم الكلام بالرجوع إلى الكتب الأصيلة في هذا العلم، ولم يكتفِ بعرض ما قالته المذاهب بل بيّن دوافع أقوالهم، وأظهر إشارات أو إضاءات للأقوال مما بيّن مدى تعمقه في دراسة الكلام.
– لعبت المستشرقة شميتكه دورًا رئيسًا في استكشاف الكتابات اللاهوتية والفلسفية غير المحررة وغير المعروفة حتى الآن، وقد استفادت في كتاباتها من المراجع الرئيسة لعلم الكلام، ويظهر على كتابتها طابع العرض والتحليل وقلّ ما تتعرض للنقد أو الترجيح، وتتسم بأنها على قدرٍ كبير من الموضوعية والعمق.
– من المؤلفات التي وضعها دي بور كتاب: “تاريخ الفلسفة في الإسلام” الذي يشير فيه إلى أنه أول محاولة لبيان تاريخ الفلسفة الإسلامية في جملتها، كما يضع ملاحظة في مقدمته بأنه اقتصر في بحثه على فلاسفة الإسلام، وقد تناول في كتابه مذاهب وقضايا كلامية، ولم يكتف بعرضها بل قد بيّن رأيه فيها.
– أتت العناية الاستشراقية بالمدرسة الحنبلية بشكل متأخر وباتت الدراسات حول هذه المدرسة بعد أحداث أيلول أبرز العناوين وأكثرها كثافة.
[1] ولد أباه، السيد، (2014)، الدين والسياسة والأخلاق، ط1، جداول: لبنان، ص 43.
[2]فؤاد، عبد المنعم، (2001)، من افتراءات المستشرقين على الأصول العقدية في الإسلام، ط1، مكتبة العبيكان: الرياض ص 15.
[3] النبهان، محمد فاروق، الاستشراق- تعريفه، مدارسه، آثاره- منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو): الرباط، ص 11.
[4] فؤاد، عبد المنعم، من افتراءات المستشرقين على الأصول العقدية في الإسلام، ص 16.
[5] المرجع نفسه، ص 16.
[6] سعيد، إدوارد، (2006)، الاستشراق، رؤية للنشر والتوزيع: القاهرة، ص 45.
[7] سعيد، إدوارد، الاستشراق، ص 46.
[8] النبهان، محمد فاروق، الاستشراق-تعريفه، مدارسه، آثاره–، ص 11.
[9] المرجع نفسه، ص 12.
[10] الحاج، ساسي سالم، (2002)، نقد الخطاب الاستشراقي، ج1، ط1، دار المدار الإسلامية: بيروت، ص 20.
[11]الفارابي، أبو النصر، إحصاء العلوم، مكتبة الخانجي: القاهرة، ص 71.
[12] التهانوي، محمد بن علي، (1996)، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ط1، مكتبة لبنان ناشرون: بيروت، ص 29.
[13] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، (1988)، مقدمة ابن خلدون، ط2، دار الفكر: بيروت، ص 580.
[14] نادر، ألبير نصري، (1983)، مساهمة المستشرقين في نشر التراث الإسلامي الخاص في علم الكلام، مجلة الإنماء العربي، عدد: 31، ص 306.
[15] التميمي، حيدر قاسم، علم الكلام الإسلامي في دراسة المستشرقين الألمان، مقال على موقع دراسات الوحدة العربية.
[16] الشلالي، هدى، موقف المستشرقين من علم الكلام والأشاعرة (نسخة إلكترونية)، ص 67.
[17] الشلالي، هدى، موقف المستشرقين من علم الكلام والأشاعرة، ص 68.
[18] المرجع نفسه، ص 69.
[19] انظر: الحجيلي، منصور بن عبد العزيز، موقف المستشرقين من المعتزلة والفلاسفة (نسخة إلكترونية)، ص 5.
[20] مجموعة مؤلفين، (2018)، المرجع في تاريخ علم الكلام، تحرير زابينه شميتكه، ط1، مركز نماء للبحوث: بيروت، ص 52.
[21] كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 173.
[22] الغزالي، محمد، (2005)، دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، ط7، دار نهضة مصر للطباعة والنشر: المنصورة، ص 83.
[23] ماكدونالد، دانكن بلاك، تطور الدولة والفقه والكلام في الإسلام، ص 129.
[24]جولدتسيهر، اجنتس، العقيدة والشريعة في الإسلام، دار الكاتب المصري: القاهرة، ص 92.
[25] الدوري، قحطان، العقيدة الإسلامية ومذاهبها، ص 150.
[26] ماكدونالد، دانكن بلاك، (2018)، تطور الدولة والفقه والكلام في الإسلام، ط 1، مركز نماء للبحوث: بيروت، ص 130.