الدراما والطوبيا بعيون بيجوفيتش
هل للبشر صور ثابتة؟ هل للحياة شكل واحد فريد؟ هل هناك مقولات معينة ثابتة وجوهرية ينبغي على كل البشر إدراكها؟
من الجمل التي حملها عصر التنوير على لسان فونتين “سيكون أي عمل في السياسة، في الأخلاق، في النقد، وربما في الأدب أيضًا، أكثر جمالًا، مع أخذ كافة الجوانب في الاعتبار، إذا جرى صنعه بواسطة مهندس!”، لماذا يرى فونتين أن المهندس هو الأجدر بذلك، لأن عصر التنوير كان يرى في الطبيعة عالمًا معقولًا ينبغي أن نفهمه ونستمدّ منه مبادئ الحياة، والمهندس هو الأقدر على إدراك العلاقات المعقولة والظاهرة بين الأشياء.
إن دخول قناعات عصر التنوير على المجتمع الإنساني وتطبيقها على الإنسان نفسه، قتلت الجمال والإحساس وجعلت الحياة خالية من الحياة، يقول غوته “إن “مندلسون” يعامل الجمال كما يعامل عالم الحشرات أو الفراشات، فهو يقبض على المخلوقات المسكينة، ويثبتها بدبابيس، وبينما تذبل ألوانها الفريدة، تتمدد هناك جثة بلا حياة، هذه هي الاستطيقا؟”
وإذا سألنا سؤالاً عاماً في شكل ثنائيات قد تكون زائفة، أيهما يحمل قيمة حقيقية للمجتمع، هل العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية؟ نحن نعلم جميعاً قيمة ما يقدّمه الطبيب والمهندس لكننا نعيش إشكالاً نفسيًا -على الأقل- في قيمة ما يقدّمه الفيلسوف أو الأديب أو عالم الاجتماع!
من السهل أن نخرج من هذه الثنائية ونقول كلاهما هامّ وكلاهما يستند إلى الآخر، ويمكن أن نقول فلسفة العلوم شاهدة على حضور الفكر والنظر في مسائل التطبيق، لكن لو نظرنا بشكل أدقّ إلى محلّ اشتغال كل منهما سنجد أن العلوم الطبيعية تشتغل بالقوانين الواضحة أو التي يعمل العلم على إيضاحها، كما تميل العلوم الطبيعية للتعميم لتبني ظواهر وقضايا يمكن الإمساك بها، أما العلوم الإنسانية فهي تتعامل مع لغز محيّر هو الإنسان، لذلك هي تميل للفردية وإظهار الخصوصية وهذا ما نلحظه في الأدب عمومًا وفي حقول علم الاجتماع.
في الحقيقة لم يكن الأدب بالنسبة لدوستويفسكي إلا وسيلة تفكير في قضايا تشغل الإنسان منذ وجوده، كقضايا الشرّ والخير والعقاب والحبّ والأخلاق والمنافع، إن الفنّ في نظر بيجوفيتش محاولة يائسة للإمساك بجوهر الحياة، وأي عمل فني يظل في حالة من التوق ومن اللا تحقق إزاء محاولة التجسيد، فهو دون بلوغها، إن أعمال دوستويفسكي الفنّية ليست إبداعًا للجميل، إذا قصدنا بالجميل نقيض القبيح، لكنها إبداع للجميل إذا قصدنا بالجميل نقيض الزيف، فهي تعبّر عن البحث الأصيل عن الحقيقة، عن مصير الإنسان، عن ماهيته، إن دوستويفسكي كان يحترم الإنسان فعلًا حين قدّمه على أنه سرّ، على أنه ذو طبيعة مزدوجة ومربكة، كانت شخصيات دوستويفكي تكشف عن لا محدودية الإنسان وغرابته وتناقضاته، أما الوضوح الساذج الذي يلغي هوامش المناورة ومثله المنطق المنتظم الذي يجعل الإنسان آلة بلا وعي؛ كلاهما يسيء للإنسان في ثقافة دوستويفسكي: “من الممكن أن يكون قانونًا منطقيًا لكنه ليس قانون الإنسانية”.
العلم يعطينا صورة دقيقة عن العالم لكنه في نفس الوقت يجعل الحياة خالية من الحياة ويجعل الإنسان خاليًا من الإنسانية، العلم يرينا الإنسان قد تطوّر تدريجيًا داخل الطبيعة وكأنه نتاج لها، أما الفنّ فإنه يرينا الإنسان في صور غامضة كأنه قادم من عالم مجهول.
يقول بيجوفيتش إن ” نيوتن وشكسبير وأينشتاين ودوستويفسكي يجسدون فكرتين كل واحدة منهما تنظر في اتجاه معاكس، أو يمثلون نوعين من المعرفة منفصلين كلية..، فقضية المصير الإنساني وغربة الإنسان في الكون وهشاشته والموت والخلاص من هذه المعضلات كل ذلك لا يمكن أن يكون موضوع علم من العلوم”.
عندما نعالج حضور العلوم في الإنسان نفسه ومدى قربها وبعدها منه، فإن هذا سيقودنا إلى إشكالية أخرى هي الطوبيا والدراما، أو إشكالية البراني والجواني بتعبير بيجوفيتش.
قسم بيجوفيتش النظرة نحو الإنسان إلى نظرتين، نظرة الطوبيا ونظرة الدراما، في نظرة الطوبيا نحن لا نرى سوى العالم وسوى المجتمع، أما الإنسان فنقطة هامشية فيه، نرى فقط نصوصًا وأدلجات وقوانين ورؤى سابقة، أما في نظرة الدراما فيصبح العالم هامشًا والإنسان هو المتن، الإنسان بآلامه وصراعاته واضطراباته، فلو أخذنا سؤال الشرّ مثلاً ستنقسم الإجابة إلى إجابتين بشكل واضح، هناك من يرى أن الشرّ ينبع من الداخل وهناك من يرى أن الشرّ يأتي من الخارج، وكل إجابة تعبّر عن منطقها في تفسير الحياة وتفسير لغز الإنسان.
في عالم الطوبيا تتلاشى الحواضن الاجتماعية والروابط الأسرية، وقد تحرّم علاقات الحبّ كما حصل في الصين أيام ماوتسي مونغ، ويتحوّل الإنسان إلى هامش تافه لبناء المجتمع، كأن المجتمع لا يتشكل أصلاً من الأفراد أنفسهم، لكن الطوبيا تسلب شخصية الإنسان وتحوله إلى آلة للإنتاج والاستهلاك ثم التلاشي.
في الفلم الجميل Equilibrium الذي يصنّف من أفلام الخيال العلمي يصوّر مجتمعًا تجبره الدولة على أخذ أدوية وفواصل تقطعه عن المشاعر وعن الأحاسيس، وتحوّله لآلة عاملة لا تستطيع أن ترفع رأسها في وجه الدولة الظالمة، وفي أحد الحوارات ضمن هذا الفلم يسأل أحد الضباط ضابطًا آخر يخفي عدم أخذه للأدوية لماذا ترتب مكتبك؟ هل بدأت تشعر بالملل منه؟ فيقول له: لا! أرتبه لزيادة الإنتاجية في المجتمع فقط! وعندما تقبض الدولة على هذا الضابط يقولون اقبضوا على هذا المجرم إنه يشعر الآن!
“في روايات دوستويفسكي تتجلى النفس الإنسانية في عذاباتها الهائلة وتتعاظم المشكلات والأحداث التاريخية بحيث يبدو العالم الخارجي بكل ما فيه… وهماً على هامش الواقع”، هذا ما يحصل عادة أن تتحول مقولة المجتمع إلى وحش يلتهم حقوق الإنسان دون مرعاة لاضطراباته وعذاباته، بل يُنسى أصلاً أنه لا وجود للمجتمع دون إنسان.
من المغالطات المنطقية ما يسمى بمغالطة التشييء وهي أننا نضفي خصائص عليا على شيء ما من قبيل الاستعارة ثم يصبح هذا الشيء غاية في ذاته معزولاً عن تكويناته، فيصير مصطلح الأمة معزولاً عن أفراده وعن رخائهم أو ضعفهم، كأن هناك كائنًا عملاقًا اسمه الأمة ينبغي أن نضحي لأجله بالأفراد ونذبحهم في سبيله، كان هتلر في أواخر حياته وقد صار على مقربة من هزيمة ساحقة يتحدث عن الأمة وأن على الشعب الألماني أن يفديها بأرواحه! ونسي أنه لم يبق للألمان قوة وأنهم سُحقوا!
وكذلك يمكن أن نقول عن مفهوم الدولة كل الناس يسعى لها وينظّر فيها وكأنه شيء منعزل عن الأفراد لا تحكمه إلا قواعد الإنتاج والاستهلاك والقوة، وهذا ما وقع فيه الماركسي ومن قبله النازي، وهذا ما يقع فيه المسلم عندما يتحدث عن تطبيق الشريعة وكأنها منظومة منعزلة عن الإنسان ولا تتأثر به، ورضي الله عن سيدنا عمر الذي أوقف حكم السارق في عام الرمادة لأنه كان عام جوع وقحط.
ربما كان على الحقوق الإنسانية أن تتجه لفعل التخلق، فالمذاهب المادية عليها أن تعترف بالقوة الأخلاقية للحقوق والقوانين، وضمنيًا ستعترف بتفوق الفكرة على الأشياء، وإلا فإن الحقوق الإنسانية ستجيّرها السلطة السياسية والقوة المادية، وستصبح مستحقة بالصراع فقط كما عبّر بلوك “لا يوجد حقوق إنسانية فطرية ولكن الحقوق يتم الحصول عليها أو يجب الحصول عليها من خلال الصراع”.
ودوستويفسكي يعبر عن مشكلة فراغ الأخلاق والمحرك الداخلي بوضوح في رواية الأبله “لا أؤمن بالعربات التي تحمل الخبز للبشرية! لأن هذه العربات إن لم تقدها فكرة أخلاقية روحية، يمكنها ببرود وهدوء أن تحرم من حقّ الخبز الذي تنقله جزءاً كبيراً من النوع الإنساني، وقد رأينا هذا فعلاً… محبّ البشر هو من آكل لحوم البشر إذا كان الأساس الأخلاقي الذي يقف عليه مهتزاً مترنحاً”.
ليس الناس كائنات نبيلة حلوة الشمائل كما يقول بيجوفيتش إنما هم فحسب مهيأون لفعل الخير، إن لهم أبدانًا وفيهم غلظة وتتجاذبهم الرغبات والمغريات، وإذا جعلنا من الناس كائنات معصومة من الخطأ خالية من الإثم سنرى بدلاً من ذلك أننا حصلنا على شخصيات زائفة حساسة شاحبة كائنات غير قادرة على فعل شر ولا خير، فنحن عندما نفصلهم عن أمهم الأرض نفصلهم عن الحياة، وحيث لا توجد حياة لا توجد فضيلة أيضًا” لذلك كانت “الدراما أكثر حقيقة من المثل العليا المجردة”.
دوستويفسكي يصور الأمراض بطريقة إنسانية ويحاصر أي إنسان يحاول التبرير أو الهرب، فهو يبرع في تصوير دناءة النفس وخفايا أساليبها في ارتكاب الأخطاء، فهو يواجه النفس بمشكلاتها وعيوبها، ولا يحميها من باب الإنسانية من أن ترى عورتها، بل يحرج الإنسان في رؤية وجه من وجوهه لا يمكن له أن يهرب منه، كما يقول بيجوفيتش “نظرية الذنب نظرية إنسانية حتى وهي تعلن حكمًا قاسيًا على الإنسان”.
وقريبًا من الداخل والخارج والطوبيا والدراما يعنون بيجوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” عن الطبيعة الإسلامية للقانون، ويتحدث فيه عن ضرورة وضع النفس في مركز أعلى من الحقائق والقوانين، وأنّ العامل الذي تسبب في كارثة المنجم وقُتل بسببه عدد كبير من الأشخاص هو أقل جرمًا في حكم القاضي العادل من الذي قتل شخصًا واحداً لسبب واحد وهو أن عامل المنجم لم يقصد القتل وكان خطأً غير مقصود بينما قصد القاتل الثاني القتل وتعمّده.
إننا هنا لا نحكم على الحدث بقدر ما نحكم على ما حدث في قلب مرتكب الجريمة، لذلك كلما أخذنا في الاعتبار قصد الإنسان كلما اقتربنا من حكم الله أكثر، وخير دليل على ذلك التفريق الذي أنزله الله في كتابه بين القاتل العمد والقاتل الخطأ.
إن حقوق الإنسان لا تكون بعدم عقوبة الإنسان إزاء جريمة ارتكبها بل تكون بعقابه لأن الإنسانية الحقيقية ليست الشفقة بل التأكيد على كون الإنسان مكلفًا مسؤولًا، وأنه ليس طفلًا أو غير عاقل، وبالتالي تكون العقوبة متسقة مع حفظ الكرامة الإنسانية.
إن بعض الأسئلة التي نسألها كسؤال الشرّ مثلاً نفترض إجابتين هما الشرّ الداخلي والشرّ الخارجي، التفاحة الفاسدة أو صندوق التفاح، وبالتالي يحضر الإنسان أو يحضر المجتمع، وأظنّ أن الشريعة أقرب إلى تحميل الإنسان وتكليفه، لكنها لا تغفل النظر عن الخارج لأن الإنسان قد يكون ضحية شرّ منظّم فيكون واحداً ضعيفًا في سلسة كبيرة وجهّته وعلّمته، وهذه النظرة نفسها وإن كانت قد تصب في محور الطوبيا الذي يحمّ الخارج المسؤولية دائمًا لكنها في النهاية تنظر إلى الخارج وهي مشدودة نحو الإنسان ولأجله.
بدأت هذه المقالة بالحديث عن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية وتأثير عصر التنوير ثم تحدثت عن موقف العلم من الإنسان وموقف الفلسفة والأدب منه، ثم قادنا هذا الحديث إلى قسمة الدراما والطوبيا وتهميش الثانية للإنسان في مقابل المجتمع المتوهّم، ثم تحدثنا عن مغالطة التشييء التي تهمل الإنسان كله في سبيل مفاهيم وقوانين وجدت لخدمة الإنسان، ثم تحدثنا عن الحقوق الإنسانية وأنها عندما تخلو من الأخلاق الإنسانية وتتجرد من ملاحظة النفس وحالها فإنها ستتحول لقوانين ظالمة، وكانت نهاية الحديث عن الطبيعة الإسلامية في نظرتها للقوانين وأنها أقرب إلى الإنسان نفسه.