في الإسلام الثقافي
اسم الكتاب: في الإسلام الثقافي
الكاتب: بنسالم حميش
الدار المصرية اللبنانية، 2016، (336 صفحة)
الوسوم: إسلام ثقافي، إسلام سياسي، أصول الفقه، اجتهاد، فلسفة إسلامية، المفكرون المدجنون، إسلاموفوبيا
نهاية عام 2016، صدر عن الدار المصريّة اللبنانيّة، عملٌ فكريٌ، وتأريخيّ، للمفكر المغربيّ بنسالم حميّش، بعنوان “في الإسلام الثقافيّ”. وعلى الرغم من اشتهار حميّش؛ مشتغلًا بالأدب التاريخيّ، أو ما بات يُعرف اليوم بـ “التخييل التاريخيّ”، أي ذلك التأريخ الذي يتوسل الرواية، والسرد، في بسط أحداثه، ووقائعه، كما أبان عن ذلك في رواياته العديدة (هذا الأندلسيّ، مجنون الحكم، العلّامة… إلخ) إلا أنّ أعماله الفلسفيّة، والفكريّة، لا تقل أهميّةً عن أعماله الروائية، بدايةً من (بداوة الفكر، والتشكيلات الأيديولوجية للإسلام، الخلدونيّة، مرآيا الاستشراق…) وليس انتهاءً بمؤلفه الذي نتوخّى تقدميه في هذه المراجعة.
محفّزات، أو نوابض عمل بنسالم حميش، تتحدد أساسًا في أمرين:
الأمر الأول: الخروج عن تأطيرات الحديث العام عن الإسلام بوصفه سياسيًا محضًا، من خلال ما بات يعرف اليوم بـ “الإسلام السياسيّ”، ومحاولة الالتفات إلى الإسلام اللا-سياسيّ، ومدياته الحضاريّة، والفكريّة، والفلسفيّة. والحال أن حميش لا يقف موقفًا ضدّيًا، مبدأيًا من الإسلام السياسيّ كما فعل غيره من الباحثين، والكتّاب، أمثال سعيد عشماوي، وعادل ظاهر، وعبد المجيد الشرفي، وبنسعيد العلوي، وإنما يرى أنّ الذهاب إلى الديموقراطيّة كنسق سوسيو-سياسيّ، وقانونيّ، يخرجنا من كل هذه المعركة.([i]) وهو ما بدأ يتبلور عمليًا على أيّة حال عند الجيل الثاني من الحركات الإٍسلامية (النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب، وتركيا، والشراكة والإنقاذ، في الأردن) بحيث باتت هذه الحركات أقرب ما تكون إلى توصيف الباحث الأمريكي آًصف بيات من كونها (حركات ما بعد الإسلام السياسيّ). على ذلك، يقف الكتاب على أرضيّة الإسلام الثقافيّ، والمعرفيّ، والفلسفي، محاولًا إعادة قراءة، وترسيمِ حيوات، وأفكار خمسة مفكرين من أصحاب الثقافة العالمة في تراثنا القديم: (أبو حنيفة النعمان، أبو حيان التوحيديّ، ابن رشد، ابن بطوطة، ابن خلدون).
الأمر الثاني: محاولة تقديم رؤىً طارفة، ومستجدة، تقطع مع مزاجٍ سلبيٍّ، وعدميٍّ، يذيع في المجالات البحثية العربية، محصّلهُ التذمّر من سماع أيّ خبرٍ عن صدور كتاب جديد يتناول تأريخ أو إعادة قراءة مفكّرٍ أو عالم من رجالات الأمة الإسلاميّة المتقدّمين. ولا فرق هنا بين كون هذا التأريخ جاء على طريقة “المسوح الجامعة” (الجابري، مروة، محمود إسماعيل، أدونيس، إلخ) أو جاء على الطريقة “المرفقية القطاعيّة” (محمد المصباحي، محمد بوهلال، محسن مهدي، عبد الأمير الأعسم، بنسالم حمّيش، إلخ) بحيث يُفرد كل واحدٍ منهم ‑أي العلماء المتقدّمين‑ في دراسة خاصّة، لا يجتمع معه فيها غيره، خلافًا لطريقة المسوح الجامعة. والسبب في ذلك، الحديث الدائم عن (الإشباع). أي أنّ هذه القضية، أو هذا المفكر قد قُتل بحثًا. ولا فائدة للحديث حينئذ، لأنّ الأفكار تناهت، والتأويلات ليست سوى اجترارتٍ لا فائدة تجنى من وراءها.([ii])
ويبرز هذا الإشكال أكثر ما يبرز حال الحديث عن المفكرين الكبار، ممّن تحوّلت شخصياهم وأفكارهم حقولًا دراسيّة كـ (ابن خلدون-الدراسات الخلدونيّة، ابن رشد-الدراسات الرشدّية، الغزالي-الدراسات الغزاليّة إلخ). والحاصل أنّ فكرة (الإشباع) تعمل عمل قُطّاع الطرق، تمنع البحث استباقًا. ومع ركاكة ما تستند إليه، إلا أنّها ذائعةٌ في المجال البحثيّ، كما يشير حميش.
ينتظم الكتاب في سبعة فصول أساسيّة، وملحقٍ. خمسة منها خصصها حميش للحديث عن مفكرين كبار من طينة ابن رشد، وابن خلدون. الفصل السادس، قام فيه حميش بمقايسة مدى طواعيّة، أو إمكانيّة، الفقه الإسلامي، ليتراسل ويتماهى، مع القانون الحديث، ومواثيق حقوق الإنسان. الفصل السابع، كان تنويعًا نقديًا، حدّيًا، لخطابات عديدٍ من المفكرين، والباحثين، ممن أوقفوا أقلامهم، وألسنتهم قصد “التشهير بالمسلمين” ‑على حد تعبير الراحل جلال أمين‑([iii])، أمثال محمد أركون، وأدونيس، وغيرهما من رجالات من يسميهم حميّش بـ “المدجنين الجدد”.
أبو حنيفة النعمان، وأنسنة الفقه الإسلامي:
إذا كان الفقه، وأصوله، بحسب غير واحدٍ من الدارسين، هو التعبير الأدق عن نمط الفكر الإسلامي بل ركنه الركين، فإن الاجتهاد قياسًا إلى هذا الفقه عنصرٌ ديناميٌ ما انفك حتى بعد انسداده المزعوم ينفخ فيه الحياة والاستمرار. وعلى هذا النحو لا يكون الفقه إلا التعبير المركب، والثري عن المبادئ الأصيلة الموجهة، التي كان لأبي حنيفة النعمان قصب السبق في صياغتها وتجريبها، وذلك على ضوء وعيه المبكر، كفقيه، بكون الاجتهاد روح هذا الدين. بناءً على ذلك يحاول حميش في هذا الفصل استعادة لحظة الإمام الفقيه أبي حنيفة النعمان، التي اتّسمت بمناقب عدّة جعلتها الأكثر رحابة من بين اللحظات الفقهيّة الأخُر. وذلك من جهة كونها توسيعًا لدائرتيّ المعقول، والإنسانيّ في الفقه الإسلاميّ. ([iv])
تكمن أهمية مراجعة حميش للحظة الإمام أبي حنيفة، والدعوة إلى استعادتها، أنها تنطوي على همِّ إصلاحيّ، بعيد كل البعد عن الهواجس الأيديولوجيّة، التي لا تؤمن بداية بالفقه الإسلامي، وإمكاناته، ومنجزاته، لكنّها لا تفتأ في الحديث عن لحظة “انهزام” الإمام أبي حنيفة، أمام الفقهاء الآخرين، وبدايات تشكّل النكوص الأول للمسلمين في الميدان العقليّ-الفقهيّ، لتكتمل فيما بعد بالنكوص الثاني بعد “انهزام” المعتزلة أمام أهل الحديث، في الميدان العقليّ-العقديّ/الكلاميّ.([v])
يلاحظ بنسالم حميّش أنّ القرينة الأساسيّة التي وجّهت أبي حنيفة صوب “تأنيس الفقه الإسلاميّ”، أي إضفاء طابعٍ إنسانيٍ عليه؛ وعيه بمحدودية النصّ الشرعيّ، ولا-محدوديّة الواقع الإنسانيّ، أو “تعذّر إحاطة ما يتناهى بما لا يتناهى” ‑بحسب تعبير الإمام الغزالي- وما يستتبع ذلك من كون اعتبار الإنسان كائنًا ناقصًا مشروطًا بوجوده في الزمان والمكان، وقادرًا بالوقت نفسه على الاجتهاد والابداع والتخّلق.([vi])
يرى حميش أنّ المفهوم المركزي الذي انبنت عليه آراء، واختيارات الإمام أبي حنيفة هو مفهوم الاجتهاد، بحث صار دالًا تتجلى من خلاله الممارسات المعرفيّة (من استحسان وقياس وإجماع). وبذلك يتموضع الاجتهاد في الامتداد التأويلي للواقع، ويتم استعماله قصد تعديل أو تجديد الوجود في علاقته بالمعرفة. وبعبارت أخرى، إنه التعبير عن تسرب الإنسان في الشريعة النصية، وعن انخراطه الذاتي النشط في “المنزّل”. يحاول بعد ذلك بنسالم حميش، استجلاء تصورّات الإمام أبي حنيفة حول الرأي، والاستحسان، والقياس، والاختلاف، والإجماع، وغيرها من الأدوات الاجتهاديّة المعروفة في علم أصول الفقه، منتهيًا بالدعوة إلى ضرورة انبعاث الفقه الحنفي اليوم، ليقدم فقهًا واعيًا بما يجد في أنظمة الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ومستجيبًا لغايات العصر الإنمائية والتحديثية من جهة، ومُجنبًا صورة الإسلام المثلى غوائل التبخيس، والتهجين خارجيًّا من جهة أخرى.([vii])
أبو حيّان التوحيديّ، وتجربة الكتابة، والوجود:
يحاول بنسالم حميش في هذا الفصل، رد الاعتبار إلى مثقفٍ كبيرٍ، وفيلسوف طالما تمّ تقزيمه، في الدوائر الفلسفية، والدينيّة. “أبو حيان التوحيديّ”، أو “المثقف العفريتيّ” كما يحب تسميته بذلك المفكر المغربي محمد الشيخ، تدليلًا على عمق معرفته، واتساعها، وقوة درايته بثقافة عصره، وزمنه، حيث جالس في عصره المناطقة، والفلاسفة، واللغويين، والحكماء، والمتصوفة، والسحرة، والمنجمين، والمستبصرين، والكهّان، والبغايا، والجماعات السريّة، والحكام، والأدباء، والوزراء، والورّاقين، والأطباء، والفقراء، والمجانين، والمجاذيب، والشعراء..الخ، وليتسيّد بذلك قمة الثقافة العربية في القرن الرابع الهجري كما أبان عن ذلك محمد آركون، وآدم متز، وغيرهما.([viii])
يرى حميش أنّ أحد أهم شروط استئناف الاهتمام بالفلسفة العربيّة “الكلاسيكيّة” يكمن في توسيع دائرتها المرجعيّة كي تصل إلى الفلسفة الأدبيّة، والتي من أقطابها التوحيدي، وسلفه الجاحظ، وزميله أبو علي مسكويه، محاوره في كتاب الهوامل والشوامل، فضلًا عن المعري، وابن حزم، والسهروردي. لأجل ذلك يبدي حميش انزعاجًا من حالة التهميش المشوب بالاستخفاف الذي يخص به غالبًا مؤرخو الفلسفة العربية؛ التراث الأدبي عمومًا، والفلسفة الأدبية تحديدًا. في حين أنّ هذه الفلسفة مع أولئك الأعلام، تستحق مكانتها بين الفلسفات الوجودية، واللا-نسقيّة، وذلك لأنها قد اجتهدت، هي بدورها، وتوفقت في تركيز الفكر على المخلوقات ومقالاتهم ‑وهذا الكلام يصلح كردٍ من حميّش على بعض المفكرين ممن عابوا على الثقافة العربية غياب مبحث الإنسان فيها؟‑([ix]) سالكة في هذا طريقًا تساؤليًا منفتحًا، تربط فيه بكل حزم وأصالة، الفكر باللغة، والقول بالبلاغة، كما أنها استجابت ‑خلافًا للفلسفة العربية المشائية‑ لأهم مكون في نمط الإبداع الفكري العربي، والمتجلي في المقطعيّة أو الشذريّة، التي يجسدها البيت في الشعر، والحديث في الخطاب النبوي، والفتوى في الفقه، والشحطة في التصوف، والحكمة والمقابسة في الفلسفة، والوصلة في الموسيقى، والخط والفسيفساء في الفن والعمارة، وينسحب ذلك على الآية القرآنية، طبعًا مع وجود فارق في النظم القرآني من حيث قابلية آياته للاندراج في وحدات دلالية.([x])
يعمد حميش في حديثه عن التوحيدي إلى توضيعه في سياقٍ فلسفيٍّ وجوديٍ لا-نسقيّ، وذلك عبر الاقتراب من آلامه، وتوجّعاته في حياته، ودراسة نصوصه الشذريّة، وصولًا إلى البؤرة الوجوديّة، والإنسانيّة، في منجزه الفلسفيّ، التي تتلخص بحسب حميش في عدّة قضايا أساسيّة: (الشعور الحاد بالعبث، الوعي الشقي، الانهيارات الوجوديّة، الغربة وحالة الخفّة الأنطولوجيّة، الوجود الذيليّ، الوعي بالغير وفلسفة الصداقة… إلخ).([xi]) ولم يكتفِ حميش بإبراز هذه العناصر الفلسفيّة الوجوديّة فقط، بل قايسها مع غيرها من نصوصٍ فلسفيةٍ وجوديّةٍ غربيّةٍ من أمثال نصوص شوبنهاور، وهايدجر، وأونامونو، وسارتر، وغيرهم.([xii]) وعمله بذلك يقترب من عمل عبد الرحمن بدوي، ومحمد الشيخ.([xiii])
ابن رشد، وحدود الرشديّة:
خصص بنسالم حمّيش، الفصل الثالث للحديث عن فيلسوف قرطبة ابن رشد، وحاول في هذا الفصل إثارة بعض النقاط المنهجيّة التي يغفل عنها الباحثون عادة حين الحديث عن ابن رشد، خصوصًا وأنّ القراءات متضاربة لكتابات ابن رشد، ولمسألة العقل والعقلانيّة فيها.
من الإشارات المهمة في نص حمّيش عن ابن رشد “الوعي بالزمنيّة القروسطيّة لـ ابن رشد” دينيًا، وذهنيًا، وحساسيّةً([xiv]) وتحديد مشروعه بدقة، والذي يكاد ينحصر أساسًا، بادئ ذي بدء، كخطابٍ في “الحكمة” و”الأدلة” ذي إنتاجية مشروطة أو محكومة من جهة “الشريعة” و”عقائد الملة” وقطعياتها المزاحمة للعقل.([xv]) لأجل ذلك كان الحديث الدؤوب عن الاستعادة الرشديّة من قبل الرشديين الجدد في سياقنا العربي، غالبًا ما يهدر السياق التاريخيّ الذي ظهر فيه ابن رشد، غير آبهٍ بالحدود والمديات التي يتأطر بها الاشتغال الرشديّ.([xvi]) وهنا تجدر الإشارة إلى “التفكير بالحد” التي يشير إليها المفكر المغربيّ “علي أومليل” على الدوام في كتاباته.([xvii]) أي الوعي بحدود المفكرين، وإمكاناتهم الفلسفيّة، وضرورة عدم إقحامهم في “معارك من جند”. ولعل أصل ذلك في تقدير حمّيش يعود بدءًا إلى قلة الاهتمام الفلسفيّ عندهم بمفاهيم يستعملونها كبدهيات أحادية المركز والمرجع والمعنى، أو كماهيات لا-تاريخيّة من صلب الفلسفة السرمديّة Philosophia perennis ، التي عرفت في الفلسفة المسيحيّة، وأبرزها في سياقاتهم التفاضليّة: العقل والعقلانية والبرهانيّة، وأضدادها: الإيمان والغنوص والعرفانيّة… إلــخ.([xviii])
أيضًا من الإشارات التي يجدر الوقوف عليها في هذا الفصل، طبيعة الاستحضار الرشدي للنص اليونانيّ، الذي تشوبه العديد من المشاكل ‑كما يرى حمّيش([xix])‑: أولًا: على المستوى اللساني، فابن رشد أحاديّ اللغة، لم يطالع نصوصًا أصليّة كما فعل غيره من الشُرّاح، والمترجمين، في الحضارة العربية الإسلاميّة، كأبي الطيب البغدادي، والفارابي، وغيرهما، وهذا أوقعه في مشاكل، وهنات لا يمكن التغافل عنها. ثانيًا: على المستوى الموضوعيّ، ويمكن تضمينه كفرع على المشكل الأول، وهو عدم معرفة ابن رشد بالتراث اليوناني غير الأرسطي، إذ معرفة ابن رشد تكاد تنحصر في النص الأرسطي، دون معرفة بالنص الأيونيّ، أو السفسطائيّ، أو الإيلي، أو الرواقي، وغيرها من النصوص اليونانيّة المدرسيّة المهمّة. ثالثًا: الانقياد الطوعيّ، شبه الكامل لـ أرسطو، أو من “كمل عنده الحق” كما يصفه ابن رشد، وعدم الشعور بما يسميه حميش “العبء الأرسطي” الذي شعر به بعض الفلاسفة، والمفكرين قديمًا، كابن سينا ‑مع كونه من شّرّاحه‑ وأبي سعيد السيرافي، وأبي الحسن العامري، وأبي البركات البغداديّ وغيرهم من الفلاسفة المسلمين. وهو ما جعله مثار انتقاد وتندّر من قبل بعض الفلاسفة، والمفكرين المسلمين كابن سبعين في كتابه “بدّ العارف” وابن خلدون في “مقدمته”. وهنا التساؤل عن مدى إمكان إيجاد بصمةٍ إبداعيةٍ في شرح، وتلخيص “النص الأرسطيّ”؟! وعن جدوى استعادة النص الرشديّ مع كونه لا يعدو شرحًا تقليديًا للنص الأرسطي الذي تجاوزته الفلسفة الحديثة في أغلب قضاياه، من المنطق، إلى اللغة، إلى العلم!
ابن بطوطة، وابن خلدون، رحّالةٌ وسوسيولوجيّ:
في الفصل الرابع والخامس، يخصص بنسالم حميش حديثًا مُطوّلًا عن ابن بطوطة، ورحلته، وحديثًا آخرًا عن ابن خلدون وسيرته. يغلب على هذين الفصلين العقد الأوتوبيوغرافي، الذي لا يعدو عن تسجيل الحوداث، الوقائع، وتفاصيلها. في حديثه عن ابن بطوطة، تكمن القيمة الأساسيّة في إظهاره أنّ العالم الإسلامي الذي اتخذ من طرف الغرب طوال قرون موضوعًا لنزعاته الإغرابية exotisme قد أنتج هو بدوره إغرابيته، التي تعهد أمرها على العموم أصناف من أهل الجغرافيا والرحلات والسفارات، كانوا بشكل من الأشكال مولعين بالآخر من حيث ثقافته ومقولاته ونمط عيشه.([xx])
ومن اللافت الوقوف على الباعث الذي أناط ابن بطوطة رحلته عليه، وحيث كانت الرحلات تسوقها غايات التجارة (كسب المال)، أو الديانة (طلب العلم)، أو السياسة (المهام الدبلوماسيّة)، آنس ابن بطوطة خاطرٌ وجوديّ، كان باعثه على السفر. كانت الرحلة، كفعل وإنجاز، عند ابن بطوطة ذات دلالة أنطولوجيّة تتلخص في (توخي رفع الضيق عن الذات باكتشاف الآخر).([xxi])
وعودًا على ابن خلدون، فقد خصص بنسالم الفصل الخامس للحديث عن سيرة ابن خلدون، وتقلباتها. لا يقول حميش الشيء الكثير في هذا الفصل، ومردُّ ذلك عائدٌ إلى أنّه كان قد خصص كتابًا كاملًا للحديث عن ابن خلدون.([xxii])
الإصلاح الإسلامي، وإعادة النظر في المدونة الفقهيّة:
يقيم حمّيش في هذا الفصل مقارنةً بين ميثاق حقوق الإنسان، ومدى فاعلية الفقه الإسلامي، والمدونة القانونيّة، في الاتفاق، والتماهي مع هذه الحقوق والمواثيق، ويدعو إلى تنقيح، وغربلة بعض القضايا الفقهية المُشكلة (الحدود، وقضايا المرأة،… إلخ) في هذا الفصل تبرز الغايات الإصلاحيّة لبنسالم حميش، التي لا تدعو لقطائع معرفية، أو تبرع في التشتيم والاستهزاء، وإنما تنطلق من وعيٍ بعمق، وثراء المنجز الفقهي الإسلامي، بدايةً، كعتبة أولى لتدويل هذا الفقه، وإصلاحه.([xxiii])
آركون، أدونيس، والمدجنون الجدد:
في الفصل السابع، الذي يمثل قفلة الكتاب تقريبًا، يثير حميّش مصطلح (المدجنين الجدد)([xxiv]) والذي يعني به على التقريب، المفكرين، والباحثين العرب ‑المسلمين الذين تستقطبهم لوبيات الإسلاموفوبيا، رغبةً في تزييف المعرفة حول الإسلام والمسلمين على العموم. بدايةً من محمد أركون واشتغالاته المؤدلجة على التراث الإسلامي، التي يخصص لها حديثًا مطولًا في الكتاب، وليس انتهاءً بأدونيس، ومالك شبل، وآل بني سلامة؛ فتحي ورجاء. وبذلك يقترب بنسالم حمّيش من حديث محمد الطالبي عن “النزعة الإنسلاخسلاميّة” عند الأسماء نفسها تقريبًا، وعند حميد دباشي عمّا يصطلح عليه بـ “المخبرين المحليّين”.([xxv])
(5) انظر على سبيل المثال كتاب: روبرت رايلي، انغلاق العقل المسلم، منشورات الجمل، كمثال على هذا الطابع الأيديولوجي في تناول الإمام أبي حنيفة النعمان.
([viii]) انظر على سبيل المثال: محمد آركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، دار الساقي. آدم متز، الحضارة العربية في القرن الرابع الهجري، دار الفكر العربي.
([ix]) غياب مبحث الإنسان؛ ثيمة أساسيّة في فكر المفكر المصري حسن حنفي، حيث تتكرر في عديد كتاباته، ودراساته، انظر على سبيل المثال كتابه: دراسات إسلامية، دار التنوير، 1982، ص299.