في سيميائية الصمت

1٬517

لم يبقَ لنا اليوم سوى الصمت. هكذا أضحى يقول الإنسان في وضعٍ لا يحمد حاضره ويجهل مستقبله. لكن أن يكون الإنسان تواقاً إلى الصمت؛ يعني أن يكون في معنى أعمق من الآخرين، فتارة قد نحدد الصمت بما هو فنٌ وتارات نحدده كإيتيقا وفن الوجود أو إيتيقا الوجود الأسمى. إذ أضحت الأنفس اليوم موجهة لا إرادياً إلى التوق إلى الجَهل ما قبل وما وراء المعرفة، وإلى الصمت ما قبل وما وراء الكلام، فما نتذكره ونسترجعه اليوم ليس التقدم الذي شهده الإنسان منذ البدء ولا تطور العقل البشري ومدى حكمته في التعاطي مع الأزمات بل النقص الحاصل في خُلُق الإنسان. ليس الصمت سوى اعتراف بهذا النقص الجامع لكل المستويات. صمتٌ تجاه واقع يشهد بعولمة الغوغاء الجوفاء.

إستيتيقا الصمت

الصمت استيتيقياً هو فن الخلاص والتملص، أو ربّما قد يُلتمس معنىً آخر هو تعليق الحكم، هو تمرينٌ في الامتناع عن الكلام والإشارة والتلميح، وكل وسيط يمكن أن يكون تعبيراً عن موقف أو حكم، هو فن الرفض، رفض إبداء حكم. فالصمت هو: آلية القطع، الرفض، الانتهاء، الإقصاء، اللا-نطق، اللا-تعبير، اللا-تبليغ، بالتالي اللا-تواصل بالمعنى المباشر، فالصمت هنا هو:

صمتٌ تجاه الذات، صمتٌ تجاه الآخر والعالم، صمتٌ تجاه الوجود والواقع، تجاه الحاضر، تجاه المصير.

إنّ الصمت بوصفه انتهاء هو انتهاء الكلام، انتهاء الغوغاء، انتهاء السبيل نحو بلورة موقف، رأي، حكم، حلول، إجابات؛ فالصمتُ فنٌ قد يرافقه تأويلات متعددة بتعدد معانيه ومقاصده.

الصمت تجاه الذات، فالذات الفنانة تطوع الصمت كفنّ من أجل الخلو بالنفس والتأمل، بالتالي يصبح الأثر الفني لفن الصمت هو فن الفلسفة ليخلق هنا الفن فناً آخر.

الصمت هنا فن اللاّ-جمهور واللاّ-تجمهر عكس ما يقوم عليه الفن الحديث اليوم، الّذي يزدهر وينتعش ويكتسب جماليته بالجمهور. والنفور من الاتصال هو اختيار جمالي يعكس قدرة الفنان على ممارسة فن الصمت. فهو هنا يستمر بالكلام، لكن بصمت، بكيفية لا يستطيع الجمهور أن يرى أو يسمع فيها. 

يبدو أنّه يقتضي الأمر العودة إلى تلك الفكرة القائلة بأنّ قوة الفن تكمن في الإنكار، يكون السلاح الحاسم في الحرب المتنافرة للفنان مع جمهوره هو المتاخمة الأقرب فالأقرب إلى الصمت. الفجوة الحسّية أو المفاهيمية بين الفنان وجمهوره، فضاء الحوار المفقود أو المقطوع، بالتالي يتحول الفن إلى إقصاء ليس في صالحه وليس في صالح الفنان، ولكنّ ما هو جميل أنّ الصمت يبقى تعبيراً عن جمال الجمال، أو بالأحرى هو ضربٌ من الإستيتيقية الحرة التي تأبى المحاكاة وهي بذلك تقطع مع الوضعية الكلاسيكية الّتي خلق عليها الفن وهي مقولة الحضور الحسي للفنان ومن ثمّ لمتلقي العمل الفني.

 وكم من مرة اتّهمَ فيها غوته كلايست بأنه يكتب مسرحياته لـ«مسرح غير مرئي». لكن مع الزمن أمسى المسرح غير المرئي «مرئيًّا». وبات القبيح والمتنافر والخالي من المعنى «جميلًا». مما يعزز مقولة أن تاريخ الفن هنا تاريخ أخطاء.

على الشاكلة نفسها يذهب أنصار وفلاسفة الجمال إلى أن الصمت من أسمى وأرقى الفنون، لأنّه ينتقل بالنفس من فوضى الحواس وغوغاء الكلام والصوت إلى الطمأنينة والهدوء، ولحظة الصمت أو ثقافة الفراغ أو الخواء في الفنّ تفعل ما لم تفعله وما عجزت عنه لمسة وريشة الفنان أو إيقاعات أوتار العود، “الصمت ليس فارغًا، الصمت مليء بالأجوبة”، كما يقول الكاتب ألدوس هكسلي.

إيتيقا الصمت، الصمت إرادة اختيار

الصمت الحركة الميتافيزيقية النهائية للفنان؛ بالصمت يحرّر نفسه من الرباط العبودي مع العالم، الذي يأخذ شكل ربّ عمل، زبون، جمهور، خصم، حَكَم، ومشوِّه لعمله. هكذا رأت الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ الصمت؛ فالصمت ليس أمراً أو قانوناً يُفرض على الإنسان ككائن عاقل، وليس عادة أو تقليداً يجب عليه الالتزام به، بل هو حركة ذاتية نابعة من قرار ذاتي خاص بالكائن الواعي بذاته والذي يحب ذاته. هي حركة فاضلة يمارسها الفاضل والحكيم حتى يصنع لنفسه إيتيقا الوجود الأسمى، وهو بعبارة الكاتبة قرارٌ نموذجيّ من هذا النوع يُتَّخَذ فقط بعد أن بَيَّنَ الإنسان أنه يمتلك العبقرية، ومارس هذه العبقرية على نحو جازم، بتفوّقه سلفًا على أنداده، بالمعايير التي يسلّم بها، يبقى أمام الكبرياء مكانًا واحدًا فقط. يختار الإنسان الحركات والأفعال والتصرفات التي يقوم بها، فهو يختار صمته، يختار الزمان والمكان والمقام الذي يحدث فيه الصمت.

الصمت الفضيلة

ينال الصمت منزلة رفيعة في الأخلاق هي منزلة الفضيلة، بوصفه سبيلاً نحو الصفاء، صفاء النفس، وآليةً للفكر والتبصّر وطريقة منولوجية بين الأنا والذات. فالصمت قد يكون مساحة من ظلام شاسعة لا تستطيع إضاءتها كل قناديل العالم، وهو على عكس الاتجاه الذي سار فيه الزهاد والمتصوفة بوصفه مقامًا لرفعة النفس أو الروح وسموها. يحملُ الصمت في طياتِهِ العديد من الرّسائل والتأويلات والمعاني الحقيقيّة؛ فالصمت مهارة وفنّ لا يمكن للكل إتقانه أو اكتسابه، بل هو في نظر البعض مهارة من الصعب تعلمها وتحتاج من التدريب والتعليم الذاتي ما لا يمكن لأحد أن يُعلمه لأحد.

عموماً الصّمت لا يُعتبر شهادة على تراجع أو ضعف بل قد يكون من أقوى الملكات لدى الإنسان وأكثر الردود حكمة، ومن الممكن أن يتعرض لها الفرد أو المجموعة، هذا هو الصَّمت الناعم الحميد الذي يجنّب صاحبه الألم والخطأ وسفاسف الأمور.

فالذات التي تتسم بالهدوء والصّمتِ تتميّزُ بقدرة فريدة على جلب الانتباه؛ لأنّ من يحيط بها سوف يسعى دوماً إلى فكّ الغموض الذي تتسم به، ومن ثم سوف يحاول معرفة سبب الصمت ومحاولة كشف اللغز الكامن وراء هذا الصمت؛ بالتالي سوف يمنح الصَّمت أهميّةً كبيرةً للكلام الصادر من هذه الذات الصامتة المتكلمة التي اعتاد الآخرون على سكونها، كما يكون الصَّمت بمثابة فرصةً للتبصر والتروي بالتالي للتدبّر والتفكير، فعندما يصمت الإنسان يستطيع أن يتأملَ العالم وما يحيط به، وسيحاول تحليل ما يحدث بحكمة.

الصمت وتعليق الحكم

هناك أسئلة ومشاكل ومواقف لا يمكن الإجابة عنها بالكلام لأن الكلام قد يعجز عن ما يقدر عليه الصمت. تعليق الحكم بصفة عامة هو حالة رشيدة للعقل يعلق فيها الشخص الأحكام.

يصمت البشر حين يكتشفون أن ليس لديهم ما يقولونه، وحين تنفذ كل الكلمات وكل الطرق للتعبير عن وضع أو شعور أو رأي أو موقف، فإنّ هذه الحركة تسمى تعليق الحكم.

لكن حتى وإن علق الحكم وصمتت كل الذوات، فإنّ الصمت في معناه الحرفي لا يمكن أن يكون لأنّ ضجيج الوجود أعلى من السكون الذي يتصف به مفهوم الصمت. وفكرة الصمت المحض هي فكرة ميتافيزيقية لا يمكن أن ترقى لمستوى الممارسة الواقعية الّتي يوجد عليها البشر اليوم.

يقول جون كيغ “ليس هناك من شيء يُدعى صمتًا. ثمة دائمًا شيء يحدث يصنع صوتًا”، لكن رداً على هذا الموقف يمكن القول إنه حتى وإن وُجد الصوت قد يكون هناك صمت، فلطالما تعالت الأصوات لكن ماذا يقابلها، يقابلها الصمت. قد يكون صوت الطفل وقد يكون صوت السجين وقد يكون صوت الشعب وربما صوت الفقير… لكن من الذي سوف يسمعه. سوف تسمعه ذاته لكنها سوف تصمت، قد يسمعه الآخر لكنه سوف يصمت، وفي هذا المعنى قد يعبر الصمت عن إميتين؛ إمّا اللاّ- مبالاة وإمّا تعليق الحكم.

يبقى الصمت ضرباً (وضروب) من الكلام قد نفهمها، وقد يغيب علينا فهمها، وهو شكل من أشكال الحوار لا مفر منه لأنّ الصمت لغة من لا لغة له، ووسيط رمزي يحمل الذات إلى العالم ويخلصها من عزلتها، هذا هو الصمت الرنان والبليغ.

إجمالاً، للصمت مكاسب وحدود، مكسب نفسي يداوي الغضب، ومكسب أخلاقي في قوة التخلق والتسامي القيمي، لكنّ ما يجعل الصمت منبوذاً أن يكون صمتاً عن الحق أو صمتاً خبيثاً كذلك الّذي يدنس الحقيقة بالكذب والنفاق تحت جبة الصمت والغموض الّذي يصاحبه حين تكون الذات الصامتة ذاتاً ملغزة.