ما هي السنة التي لا يزيغ عنها إلا هالك
يشعر المرء بشيء من الغموض والاضطراب عندما يقارن بين تعريف الفقهاء للسنّة حين جعلوا السنّة هي ما يقابل الفرض أو الواجب حيث يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وبين الآيات والأحاديث النبوية التي تُساق لبيان أهمية المحافظة على السنة. فالفقهاء في تعريفهم للسنّة يعتمدون على معنى الحديث المشهور أنه “جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا هو يَسْأَلُهُ عَنِ الإسْلَامِ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليَومِ واللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: هلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ، قَالَ: وذَكَرَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ، فأدْبَرَ الرَّجُلُ وهو يقولُ: واللَّهِ لا أزِيدُ علَى هذا، ولَا أنْقُصُ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أفْلَحَ إنْ صَدَقَ”.
فالتطوع أمر مرغوب ومستحب وله من الثواب والمكافأة ما بينّه الحديث القدسي المشهور “وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه”. فالتكاليف الشرعية عند الفقهاء تدور بين فريضة واجبة ضَمَن الرسول صلى الله عليه وسلم الفلاح لمن صدق في أدائها (أفلح إن صدق)، وبين نافلة تطوعية لا لوم ولا تثريب على من تركها ولم يتطوع بأداء شيء منها. وتكمن المشكلة في تعريف الفقهاء حين جعلوا السنّة مساوية للنوافل التطوعية التي لا يعاقب تاركها. ولا يخفى أن تعريف الفقهاء يُلقي بظلال التهاون والتراخي على مفهوم اتباع السُنّة، ولا يستقيم مع النصوص الآمرة باتباع النبي وأحكامه وقضائه وسلوكه مع ربط ذلك بصدق الإيمان في مثل قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
ولا شك أنّ الفقهاء لم يقصدوا أن يثبطوا الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره، وكان ذلك منهم اصطلاحاً علمياً لم يحمل في عصورهم ما وصل إليه الناس من تهاون في الأزمنة اللاحقة، وقد أجمع الفقهاء على أن ما ورد من أقوال النبي وأفعاله وتقريره وسيرته هي مصدر للتشريع وبيان الأحكام بعد القرآن.
ومما يزيد أمر تعريف السنة النبوية التباساً ما يتأصل ويتأكد في خطب ومواعظ الخطاب الديني من تسوية معنى السنة بهيئات وآداب وفضائل من أقوال وأفعال للنبي صلى الله عليه وسلّم يقع جميعها تحت تعريف المندوب والمستحب الذي يُثاب فاعله ولا يأثم تاركه. وزيادة على ذلك فإن كثيراً من الهيئات والآداب – خارج نطاق العبادات والشعائر- يقع ضمن الوسائل والظروف ومعطيات بيئة المدينة في عهد النبوة.
ولذلك كان من الضروري استنقاذ معنى السنّة من الاختزال الذي لا تستقيم معه النصوص الآمرة باتباع السنة أو النصوص التي تربط البعد عنها بالضلال أو الهلاك. فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “خَلَّفتُ فِيكمْ شَيئينِ لنْ تَضِلُّوا بعدَهُمَا: كتابَ اللهِ وسُنَّتِي”، وقوله: “قدْ تركتُكمْ على البيضاءِ ليلُها كنهارِها، لا يَزِيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ، ومنْ يعشْ منكمْ فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكمْ بما عرَفْتمْ منْ سنتِي، وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ، عضُّوا عليها بالنواجذِ”.
ومن هنا كان السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذا المقال: ما هي السُنّة التي لا يزيغ عنها إلا هالك؟
وإذا بدأنا بالمعنى اللغوي للسنة نجد أنها تعني الطريقة والعادة والسيرة. فسنة النبي صلى الله عليه وسلّم هي طريقته ومعالم شخصيته وسيرته في معالجة أمور حياته، والتي يمكن أن نضعها في سمات عامة وتوجهات جامعة تستوعب مجالات الاقتداء والتأسي وتستوعب كذلك آحاد النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلّم من أقوال وأفعال وتقريرات. ونقول عندها باطمئنان أن من تنكب هذه السنة بسماتها وتوجهاتها هالك ومتعرض للضلال.
الربانية
كان صلى الله عليه وسلّم ربانياً بمعنى أن كل شيء في حياته وحركاته وسكناته يذكّـره بالله عزّ وجلّ. فقد استولى معنى التوحيد على قلبه فلم يعد يرى ويستشعر من الكون حوله إلا تجليات الله سبحانه بأسمائه وأوصافه. ويعجب المرء من كثرة النصوص الواردة عنه صلى الله عليه وسلّم في الأذكار التي كان يرددها في كل حال من أحواله، وكل هذه الأذكار تعبير عن مركزية التوحيد ومركزية الخضوع لله وحده. وتعبير عن الاستجابة اللازمة عند مطالعة تجليات الله سبحانه. فلا تخلو لحظة من حياته صلى الله عليه وسلّم من ذكر يؤكد هذه الاستجابة الواجبة على العبيد في حق الله سبحانه. فحال النوم والاستيقاظ، وحال الأكل والشرب، وحال السفر والركوب والنزول وحال العسر واليسر والصحة والمرض، ونزول المطر وتقلب الليل والنهار وكثير غيرها من الأحوال والمواقف، تذكر العبد بالخالق المتفـرّد بالخلق والأمر فينطلق اللسان ثناء على الله بما هو أهله. ويستشعر القلب وجود الله ورحمته ولطفه وقيوميته خضوعاً ومحبة وتعظيماً وخوفاً ورجاءً ودعاءً وتوكلاً. إن سمة الربانية في شخصية النبي صلى الله عليه وسلّم أمر لا يمكن تجاوزه عندما نذكر السنة ولزوم اتباعها، فالأمر يتعلق بحقيقة الإيمان وليس بنوافل التطوعات التي لا تثريب على تاركها، بل إن ترك هذه السمة في حياة المؤمن يعرضه لتهديد الله سبحانه {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. ولهذا نستطيع أن نجزم أن هذه السمة -السُنّة- لا يزيغ عنها إلا هالك.
الأخلاقية
كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتمتع بشخصية أخلاقية جمعت من الكمالات البشرية ما لم يحظ به أحد من خلق الله. وبلغ صلى الله عليه وسلّم من هذه الكمالات في شمولها وعمقها ما يجعله رمزاً للكمال الإنساني يقتبس الناس من تنوع مجالاته ما شاء الله لهم من الخير. لقد شهد الله سبحانه بعلوّ قدره صلى الله عليه وسلّم في أخلاقه وشرف نفسه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وشهد له سبحانه بأنه صلى الله عليه وسلّم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وشهد له قومه بأنه الصادق الأمين، وشهدت له زوجه خديجة رضي الله عنها عندما قالت: “كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ”. وكان صلى الله عليه وسلّم يقدّر حسن الخلق ومكارم الأخلاق ويشيد بفضل من تحلّى بها من الناس وكان يقول: “إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”. وكان يقول: “ما من شيءٍ يُوضَعُ في المِيزانِ أثْقلُ من حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ صاحِبَ حُسنِ الخلُقِ ليَبلُغُ بهِ درَجةَ صاحِبِ الصَّومِ والصلاة”. هذا بالإضافة إلى طائفة كبيرة من أحاديثه عليه الصلاة والسلام التي توجه إلى آحاد الأخلاق ومكارمها حسب ما يقتضيه حال السائل أو ما تقتضيه المواقف من توجيه وإرشاد. فالرحمة والحلم والعفو والتواضع والرفق والسماحة والكرم والنظافة والعدل والاعتدال واللطف ومحبة الخير ورعاية الضعيف والمسكين وكثير غيرها، كانت من معالم شخصيته وسمت حياته صلى الله عليه وسلّم. فالنظر إلى هذا السمت الشريف من شخصيته صلى الله عليه وسلّم يجب أن لا يختزل إلى أعمال تطوعية يؤجر فاعلها ولا يعاقب تاركها. بل يجب أن تؤخذ على محمل الجد الذي نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلّم: “إِن مِنْ أَحَبِّكُم إِليَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجلساً يَومَ القِيَامَةِ، أَحَاسِنَكُم أَخلاقاً. وإِنَّ أَبَغَضَكُم إِليَّ وَأَبْعَدكُم مِنِّي يومَ الْقِيامةِ، الثَّرْثَارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ”.
البساطة والزهد والبعد عن التكلف
كان صلى الله عليه وسلّم يعيش حياة البساطة، يبتعد عن تكلّف التنعم والترفه ويرضى بالقليل وينفق مما تيسر راضي النفس غير متطلع إلى مزيد من متاع الدنيا. وكان يقول: “كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيل “. ورغم طبيعته الراضية الزاهدة صلى الله عليه وسلّم كانت توجيهات القرآن الكريم تؤكد سمت البساطة والرضى بقوله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]. وقد ورد في الحديث الصحيح “أنه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ نام على حَصيرٍ فقامَ وقد أثَّرَ في جنبِهِ، فقُلنا يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَك وِطاءً فقالَ: مالي ولِلدُّنيا ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكِبٍ استظلَّ تحتَ شجَرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها”. وقد أمر الله تعالى نبيه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن يأخذ أهله بما أخذ به نفسه من الزهادة والبعد عن الزينة عندما طلب أزواجه نصيباً مما أفاء الله على رسوله من الفيء فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]. وكان صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقول لأصحابه: “ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أخْشَى علَيْكُم أنْ تُبْسَطَ عـلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُلْهيكُمْ كما ألْهَتْهُم”. وكان صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا يتميز عن أصحابه بعلامة ولا سمة أو إشارة أمارة وزعامة وقد روى البخاري” بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ علَى جَمَلٍ، فأناخَهُ في المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قالَ لهمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّكِئٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّـكئ. . .الحديث”. وقد استعاذ النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من الفقر واستعاذ من جهد البلاء فلم يكن زهده تزكية للفقر ودعوة لتحريم الطيبات ولكن زهده صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كان توجيهاً لمعالي الأمور واستعداداً لمتطلبات الدعوة والجهاد وتنبيهاً إلى خطورة التكاثر والتنافس على المتاع والتفاخر بالزينة والتأنق، وتشجيعاً على خلق الصبر والاحتمال لمتطلبات الدعوة والجهاد. إن زهد النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كان خلقاً وسمة بارزة وطريقة للتعامل مع متطلبات التكافل والنظر إلى حقوق الضعفاء والمساكين كأهم ما يتجلى به صدق الإيمان. فالبساطة والزهد والبعد عن التكلف ليس عملاً تطوعياً يؤجر فاعله ولا تثريب على من تركه بل هو خلق أصيل وسمة بارزة في شخصية النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا يزيغ عنها إلا متعرض للهلاك والفتنة وانحلال العزيمة عن معالي الأمور.
الجدية في نشر الهداية
من أوائل ما نزل من القرآن قول الله تعالى آمراً نبيه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ “قم فأنذر”. ومنذ تلك اللحظة استولت فكرة استنقاذ الناس من الضلالة على قلب النبي الكريم إلى الحدّ الذي كان يؤرقه ويزعجه حتى تكرر في القرآن الكريم نصح النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ألا يهلك نفسه شفقة عليهم ورحمة بهم فهم قد اختاروا الضلال وهم المسؤولون عن اختيارهم وكفرهم. فقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقوله: ( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 82]، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، كل ذلك وأمثاله في القرآن الكريم فيه دلالة واضحة على تمكن سمة الجدية واستشعار المسؤولية عن هداية الناس وإرشادهم لما فيه صلاحهم وخيرهم في الدنيا والآخرة. وكان صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: “مَثَلِي ومَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أوْقَدَ نارًا، فَجَعَلَ الجَنادِبُ والْفَراشُ يَقَعْنَ فيها، وهو يَذُبُّهُنَّ عَنْها، وأنا آخِذٌ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِن يَدِي”. وكان صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا يترك فرصة للتعليم والإرشاد والتزكية والنصيحة ولإقراء القرآن كما يدل على ذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ في الأُمُورِ كُلِّهَا كما يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ”. إن سمة الجدية في نشر الهداية واستنقاذ الناس من ورطة الجهل والضلال والكفر هي السمة التي تمثلها أصحاب رسول الله حين انساحوا في الأرض مع حركة الجهاد فأقبل الناس على دين الله أفواجاً وتأسست مراكز التعليم واستقر الإسلام في البلاد التي وصلها الصحابة الكرام ببركة ما أكرمهم الله به من اقتفاء سنة النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وهديه وطريقته في الحياة.
التعامل السنني مع واقع البيئة العربية وعناصرها
اختار الله سبحانه نبيه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من بيت من بيوت العرب التي تتمتع بالمكانة والشرف وذلك لأن الله سبحانه يعلم من طبيعة العرب وأخلاقهم وعوائدهم ما يجعلهم لا يأنفون من اتباع من عرفوا مكانته ومكانة عشيرته في قومه. لقد كان قول الله تعالى: {اللهُ أعلمُ حيثُ يَجْعَلُ رسالتَهُ} [الأنعام: 126] باباً واسعاً للمتأملين في حكمة الاختيار الرباني لمحمد صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقبيلته قريش وبلدته مكة حيث أسهمت هذه العوامل في قبول العرب للدعوة واستجابتهم لها ولم يأنفوا من اتباع من عرفوا منزلته في أعرافهم وعوائدهم. والمتأمل في سيرة النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَوخطوات نشر دعوته ومراحل مواجهة المكذبين المنكرين يجد أنه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كان يتصرف بحكمة العارف لسنن الله في خلقه والعارف لأعراف قومه وعناصر بيئة العرب في جزيرتهم وما حولها. فكان كل توجيه لأصحابه زيادة في امتلاكهم لمقومات الثبات وعناصر القوة والمنعة وتمهيداً لمزيد من التمكين. وقد كتب الدكتور عماد الدين خليل كتاباً بعنوان (دراسة في السيرة) بيّن فيه أن كل خطوة من سيرته عليه الصلاة والسلام كانت مشتملة على كل عناصر وإمكانيات النجاح المتاحة في بيئته وعصره حيث لم يفته توظيف كل شيء حتى أرجل الغنم تعفّـي على آثار أسماء ذات النطاقين وهي تأتي بالزاد وأخبار قريش للمهاجرَين الكريمَـين. إن هذا النظر إلى سيرة النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في التزامه الصارم لمقتضيات عالم الأسباب والمعرفة الدقيقة لمواهب الناس وطبائعهم، والمعرفة الدقيقة بأحوال العالم في جزيرة العرب وما وراءها، والتعامل مع كل ذلك بحكمة القائد البصير، هو السنة التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
إن هذا النظر الشامل إلى سيرة النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وسنته هو النظر الذي يمكّـن من الاقتداء والتأسي. أما النظر إلى السيرة النبوية من زاوية المعجزات والخوارق التي أيد الله بها نبيه للتثبيت وإظهار الكرامة والفضل فليس فيه مجال للتأسي والاقتداء. إن هذا النظر إلى شخصية النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ومعالم سيرته لا يغني عنه آحاد الفضائل والهيئات والنوافل، وإن كانت مما يقرب الفرد من ربه ويعلي درجته عنده، ولكن الفهم لسنة النبي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَعلى مستوى الأمة وما ينتشر فيها من ثقافة وعادات وأعراف إن لم ينتقل إلى أفق الاقتداء بسمات شخصيته ومنهج حياته فلن يرفع الأمة من وهدتها ومعاناتها ولن يضعها كما أراد الله لها خير أمة أخرجت للناس.