عين على معاني الحجاب من منظور “طه عبد الرحمن”

699

إذا بدأنا من عالم الاجتماع “بورديو” ومفهومه عن الهابيتوس “Habitusلوجدنا أنّ عملية التنشئة الاجتماعية هي التي تجعل الأفراد ينتمون لمجتمع ما، وأن الممارسات السلوكية عادة للأفراد هي وليدة العادات الاجتماعية، لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أننا سنرى نسخًا متشابهة من السلوكيات بين الأفراد، بل سنرى تناغمًا من حيث الشكل والأسلوب، ولعلّ السؤال الذي يمكن أن نسأله هنا، هل الأفراد في نشاطهم وسلوكهم الذي يتناغم مع المجموع يكونون على وعيٍ بسلوكهم ويدركون نتائج تصرفاتهم، أو أنهم غير واعيين بذلك؟

يصعب تصنيف سلوكيات الأفراد وعاداتهم على أنها إلزاميات تجبرنا عليها المجتمعات، ويصعب تصنيفها أيضا على أنها قرارات اتخذت بشكل واعٍ من الأفراد، لذلك لعلها تكون سلوكيات شبه واعية فيها من تأثير المجتمع وفيها من ذاتية الفرد.

إن الثقافة الاجتماعية هي في النهاية ثقافة التعليم نفسها، وإذا حدّدنا حديثنا عن المجال الديني فإن الثقافة الاجتماعية هي الثقافة التي تقدّمها المؤسسة الدينية أو العلماء سواء أكانوا منتمين لدولة أم جماعة أم فرادى، وإنّ محاكمة أقوال العلماء أو أقوال المؤسسة الدينية كانت تتمّ في مجالات خاصة ضيّقة بين العلماء أنفسهم، وكانت أقوال المخالفين أحيانا تفتح مجالا آخر للسلوك الديني مختلفا عن المجال العام، والإنسان قديماً كان يختار بين الآراء ويتمثّلها، لكنه بصفته غير المتخصصة لم يكن يقتحم هذه المجالات الخاصة، ويناقش فيها.

أمّا في عصرنا مع ثورة وسائل التواصل والإعلام المفتوح، انتُهكت كثير من الخصوصيات وأصبح تصنيف العوام عن الخواص تصنيفاً غير واضح، وخصوصاً أن العامي مع وجود الدولة الحديثة بات يتلقى تعليماً إلزامياً إلى سنّ معينة، لكن في الحقيقة تبقى المسألة الجوهرية وهي مسألة الأدوات عند تناول المسائل الخاصة، فالعاميّ وإن تناول موضوعاً خاصاً لكنه كثيراً ما يتناوله بأدوات عامية!

وإذا دخلنا إلى الحديث عن الحجاب، فإن الحجاب حكم شرعيّ امتدّ مجاله خلال قرون عديدة ويظهر لنا كأنه دخل في صلب عادات نساء المسلمين وتصوّراتهم عن الدين، بمعنى أنه صار جزءاً من الثقافة الاجتماعية، وقد نجد تأريخاً لأول امرأة خلعت الحجاب في العصر الحديث وأول من دعا لذلك في كتاب منشور وغير ذلك من الإشارات التي توحي بامتداده فترة طويلة، ونحن وإن كنا لا نملك بحثاً أنثربولوجياً عن نساء المسلمين منذ قرن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا في تعاملهم مع الحجاب، لكن بين أيدينا كلام الفقهاء والعلماء الذي عادة ما يشكّل الثقافة الجمعيّة للأمة، ويوحي بوجود تفاهم معيّن بين أفراد المجتمع عليه، والحجاب في رأي فقهاء المذاهب الأربعة من الفروض الواجبة وفقا للآيات والأحاديث التي يستدلون بها، إضافة إلى ما يذكرونه عن لباس المرأة عموما من صفات يصبّ عمومها في معنى الستر.

وعودة إلى الهابتوس ووسائل التواصل، فإن من سمات الإنسان المعاصر اليوم أنه استدلالي، ليس بمعنى أنه يميل إلى الأدلة العقلانية فقط بل في كونه يميل إلى الحجاج والنقاش في المسائل الخاصة والعامة وفي محاكمة العادات وما نشأ عليه، ووسائل التواصل الاجتماعي سهّلت هذا الشيء بل لعلها أوجدته، وخصوصاً في أسلوبها القائم على الفرش الأفقي في الحسابات التواصلية وابتعادها عن الشكل الهرمي أو العمودي، بمعنى أن الأحقية في الكلام باتت متساوية لجميع الأطراف، ومرتكزات بناء الثقافة الجمعية أصبحت مهددة بشكل أو بآخر، وبات الخوف من ثقافات متعددة داخل المجتمع الواحد خوفاً وجيهاً، وموضوع حكم الحجاب واحد من المواضيع التي باتت متداولة ومستهلكة في المدونات والمجلات بشكل عموميّ.

ولعلّ هذا التداول هو ما دفع بـ”طه عبد الرحمن” إلى إفراد جزء خاص عن الحجاب تحت عنوان “دين الحياء، روح الحجاب” وكان الغرض منه كما يقول “طه” فتح أفق فكري وروحي آخر للكلام عن الحجاب بعد تناولات مغلوطة له.

يتجاوز “طه” نقاشية حكم الحجاب أو صفات لباس المرأة، ويبني أطروحته عن الحجاب بعد تسليمه بكلام الفقهاء، وأظنّ أنّ هذا قد يكون غير مرضي للمرأة التي تملك شكوكاً بموضوع حكم الحجاب، لكنّ طه بحكم اشتغاله الفلسفي أراد أن يفتح أفقاً آخر للنقاش عن الحجاب وهو الأفق الفكريّ.

بيد أنّ طه يفرّق بملاحظات دقيقة بين الفقه الائتماري والفقه الائتماني، فالفقه الائتماري هو الفقه الآمر الناهي الذي هو أقرب للتقعيد القانوني ويمثّله كلام الفقهاء عموما وجهاته دوما جهات معيارية (واجب، مكروه، حلال، حرام)، أما الفقه الائتماني فهو الفقه الذي يربط التشريع بالأخلاق والأحكام بروحها، فكلمة “الإسلام” مختزلة عن “إسلام الوجه لله” قال تعالى “ومن يسلم وجهه لله وهو محسن”، وإسلام الوجه لله معناه الدقيق هو التخلص من الذات أو ما يسميه طه شهوة الاحتياز، فالإنسان يميل للاستقلال في الأحكام وأن يكون سيد نفسه، وهنا يأتي الفقه الائتماني ليخلص الإنسان بالكلية من نزعاته المِلكية، ويخصص المُلك كله لله سبحانه.

ويربط طه ذلك بالحجاب، فالمرأة تقدّم نظر الله إليها على نظر الآخرين أو على رغبة نفسها، وهناك حقيقة إنسية برأي طه أن الحجاب أو اللباس إنما ارتداه الإنسان بداية حياء من ربه وستراً لعورته وليس لعارض طبيعي أو وقائي، ولذلك كان الكشف عقوبة حصلت للإنسان على يد الشيطان حين وسوس لآدم وحواء.

يرى طه أن وسائل الإعلام الحديث دفعت الإنسان للظهور والتكشّف وأن كل واحد فينا هو مشدود للحظة التي يستطيع بها جلب الأنظار إليه، وفي هذا السياق يورد خصوم الحجاب -برأي طه- حججهم وأدلتهم ضدّ الحجاب، ليكسبوا بها أنصاراً، فمثلا يقولون إن الحجاب يخفي المرأة ويحجب عقلها وفكرها أو إنّ الحجاب ينزع عنها باطنها ويجعلها ترتديه بشكل آلي دون اعتقاد به إلى غير ذلك من الاستدلالات التي نسمعها لنفي الحجاب.

يستعمل طه في محاورته لهذه الاستدلالات مداخل متعددة، فيستعمل المدخل السيميائي وأحياناً النفسي وأحياناً الانثربولوجي وأحياناً المنطقي الفلسفي، وأحياناً الروحي! لكن طه كما قلنا لا يناقش فرضية الحجاب بل ينطلق منها إلى روح الحجاب ومعانيه، مع نفيه الكامل أن الحجاب قهر اجتماعي أو عادة تقوم على الجبر، بل يرى ذلك قهراً متوهّماً، لما يحمله الحجاب من خصائص روحية سنراها في عرض الملاحظات، وفي رأي طه علاقة الإنسان بأوامر الدين عموما ليست أبداً علاقة خارجية، بل فيها دائماً تعلقات باطنية دافعة لتمثّلها سلوكاً.

ولعلّ أهمّ ما يمكن أن نخرج به حول الحجاب من كلام طه الملاحظات التالية:

1- ينفي طه أن يكون الحجاب قهراً اجتماعياً أو عادة تقوم على الجبر، بل يرى ذلك قهراً متوهّماً، لما يحمله الحجاب من خصائص روحية، وفي رأي طه علاقة الإنسان بأوامر الدين عموماً ليست أبداً علاقة خارجية، بل فيها دائماً تعلقات باطنية دافعة لتمثّلها سلوكاً.

2- يظنّ بعضهم أن المرأة في الإسلام دلالتها جنسية، وأن أحكام الإسلام تعاملت معها على أساس ذلك، وهنا يقف طه ويحاور ذلك من جانبين يدلان على عكس ذلك:

الجانب الأول: أن العلاقة الجنسية أصلاً بين الزوجين هي علاقة كاسية وليست عارية، بمعنى أن الاتصال الجسدي بينهما وإن لم يكن بواسطة ثياب إلا أن جسد كل منهما لباس للآخر، وكل منهما يكسو ما لم يكسه الآخر في نفسه، وما يريده “طه” في هذا أن العلاقة الجسدية بين الزوجين تحمل معاني وقيم في داخلها وليست فقط جسدين خالصين باستمتاع حسيّ مطلق، فهي ليست صلة ظاهرية تزول مع زوال الشهوة، بل يصبح الزوجان ذاتاً واحدة، وكل منهما يرى في الآخر آية ودليلاً.

الجانب الثاني: العلاقة الجنسية بين الزوجين علاقة مهذّبة لا مسيّبة، بمعنى أن المتعة بين الزوجين ليست سائبة بل محترمة فهي مصونة عن مواضع معينة من الجسد وفي أوقات معينة، فالإسلام يريدها علاقة طيب بطيبة لا خبيث بخبيثة، والطهارة رمز معنوي لذلك، وهذا مبتغى الإسلام من تحريم إتيان المرأة وقت الحيض أو من الدبر.

 3- علماء الإناسة يرون في اللباس وظيفة مزدوجة، فهو يمكن أن يكون ساتراً ويمكن أن يكون داعياً لتخيّل ما تحته، لكن المنطق في رأي طه أن الكاشف هنا هو الناظر نفسه وليس اللباس كما يقولون، ومثل هذا عندما نقول التناقضات العقلية مثلاً فليس المرض في العقل بل في استعمال أصحابه، لذلك حسم الإسلام هذه المسألة بتحريم النظر بشهوة.

4- السيميائيون يدرسون ثقافة المظاهر عموماً، والألبسة عندهم هي علامة من العلامات، وهي في رتبة العلامات اللسانية والتواصلية التعبيرية، بل قد يكون اللباس مقدماً على اللسان، فالحجاب بالنسبة للمرأة يفصح عن أفكارها ومشاعرها وقيمها الباطنية، لذلك هو مظهر ناطق لخصوصية المرأة المسلمة.

5- في متابعة الخط السيميائي “الرمزي” للحجاب فإن الحجاب وإن بدا أنه يقيم مسافة بين المرأة والرجل، لكنها في الحقيقة ليست مسافة إقصاء أو إبعاد أو عداء، إنما هو حدّ تضعه المرأة لنفسها وللرجل، وترسم صورة لكيفية العلاقة مع الرجل وتضع عنواناً لها وهي الاحترام وتحييد الجسد بداية.

6- فضاء الاحترام الذي تصنعه المرأة بحجابها عامل مهم لتكريم الجنسين، فالحجاب ليس عامل تبعيد بينهما بقدر ما هو عامل يحفظ كرامة الأنوثة وكرامة الذكورة، والمرأة لها الفضل في صناعة ذلك.

7- الكرامة قيمة، والقيم لا تدرك بالحس، والحديث عن كون الحجاب مهيناً للمرأة لا يسائل المرأة نفسها، بل يسائل مظهرها ويقارنه بثقافة أخرى، وما تراه ثقافة ذلة قد يراه غيرها عزة.

8- المرأة بلباسها المعمول للعموم تواجه انتهاك الخصوص السائد في المجتمعات بأشكال كثيرة، ولا تجعل جسدها في مرمى الناس كلهم، فلا يختص أحد من عموم الناس بالنظر له إلا من طلبه بحقه، لذلك كانت حضارة الحجاب حضارة مجتمع بأكمله.

9- صلة المرأة بحجابها ليست صلة مباشرة بل يتوسّطها إيمانها بربها، وهذا ما يجعل من الحجاب طاقة روحية تجد المرأة في لبسه الراحة والطمأنينة، وهو ليس كأي لباس آخر، بل هو لباس محاط بمجوعة من الأخلاق وأهمها الحياء، وينتج عنه عدة سلوك وأقوال.

10- علاقة المسلمة بالحجاب ليست علاقة نفسية امتلاكية، بل هي علاقة روحية ائتمانية، فالمسلمة لا تنظر للحجاب ببصرها بل تنظر له ببصيرتها.

11- الإخلال ببعض شروط الحجاب أو اقترانه بلباس لا يناسب الصفة الإسلامية، يجعل من الحجاب فاقداً لخاصيته التي تجعل منه حجاباً مبصراً، فيصير حجاباً معمياً، بمعنى أن المرأة تفقد صلتها الروحية بالحجاب وبالتالي تفقد إمداداها بالمعاني حوله، ويتحولّ حجابها لأهواء ذاتية ونزعات ملكية وتفقد حسّها الائتماني تجاهه وأنه أمانة من الله لا منها.

12- روح الجذب الموجودة في المرأة لا تزول مع الحجاب لكن الحجاب يحميها من الابتذال.

13- علاقة المرأة بالأزياء يجب أن يكون فيها -برأي طه- مسافة كافية بين كونها “تفصيلات” تختار بينهنّ، أو “تجميلات” تغوي بهنّ، فالأزياء المعاصرة قادرة على الجمع بين عطاء الإبداء ومنع الإخفاء.

14- الحجاب ميثاق من الله تعالى للمرأة وليس استمتاعاً خاصاً بالحياة، لذلك يحمل طابع التكليف والمسؤولية والأمانة، بل هو ابتلاء في نظر طه على المرأة أن تتحمّله وتؤدي مهمته.

15- يمكن لأي ملاحظ بسيط أن يقول إن ثورة الجنس الحاصلة اليوم هي داء وإن من أدوات علاجها مفاهيم الحجاب.

16- علاقة المرأة بالحجاب هي علاقة شهودية وليست وجودية، بمعنى أنها تشهد الخالق عليه، وأخلاق الحجاب -بنظر طه- أخلاق عروج ترتقي فيه المسلمة لعالم الملكوت.         

لعلّ ميزة كتاب طه عن الحجاب أنه قريب من الواقع التفصيلي ويلامس مشكلة باتت عامة، لكنه يفترض أعداء معينين ويناقشهم، وهذا على أهميته إلا أنه قد تبقى أسئلة أخرى عن الحجاب لم يحاورها طه، ولعلها تلامس إشكالات وجودية عن المرأة والرجل أكثر من كونها إشكالات عن الحجاب نفسه، ولعلّ طه كان ذكياً عندما جعل عنوان الكتاب “روح الحجاب”، فالكتاب لا يتناول الحجاب من أي جانب بل من جانب معانيه، ولعل أهم سمة في عمل طه في هذا الكتاب هي تعدد مداخل معالجة الموضوع كالمدخل النفسي والرمزي، وابتعاده عن المدخل الفقهي الذي قد تتحوّل النقاشات فيه إلى جدل عقيم أحياناً.