درس من التاريخ
لاتزال مواقف التاريخ وصفحاته الماضية قادرة على مدّنا بالعبر والدروس التي تبني المستقبل على ضوء الماضي، وتضبط العلاقة بين الفكر والواقع وتحدد معالم شخصية الأمة وطريقتها في الاستجابة للمتغيرات والتطورات والأحداث والوقائع.
وبين يدي اليوم موقف من مواقف التاريخ ونقطة سوداء مؤلمة في تاريخ الإسلام والمسلمين ما تزال آثارها ونتائجها تملأ تفكير المسلمين وواقعهم إلى اليوم.
وقد فتحت موقعة الجمل باب الفتنة والاختلاف؛ فقد كانت أول صدام مسلح بين المسلمين. وقد كَثُر الكلام عن تحديد المخطئ والمصيب، وكثر الكلام عن تبرير موقف كل فريق بما ينسجم مع عدالتهم وفضلهم وسبقهم في الإسلام. ورغم كل ما قيل فإن ما يهم ذكره من الناحية العملية في حياة كل مسلم، والدروس المستفادة من هذا الحادث الأليم ما زالت بحاجة إلى من يستخرجها ويبرزها لتكون دليل عمل ومنهج تفكير. وقد أصبح شائعاً في طريقة تفكير المسلمين الابتعاد عن الخوض في النقاط السوداء في تاريخ الأمة خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى الخوض فيما لا يعني من جرح أناس أو تخطئتهم أو الحكم لهم أو عليهم. ولكن هناك فرق كبير بين من يدرس ويبحث ليستنتج العبر ويستخلص الدروس التي تمنع تكرر المأساة، وبين من لا يعنيه إلا أن يكون طرفاً في النزاع يُحيي منه ما اندثر ويحرك منه ما سكن، وكأن الخلاف ما زال يعيشه الناس الساعة، ولا يتصور إلا أن ينقسم الناس إلى مؤيد أو معارض لشخص أو فئة بعينها.
نقل محقق كتاب “العواصم من القواصم” للقاضي أبو بكر ابن العربي، عند الحديث عن موقعة الجمل من أقوال أئمة المؤرخين الطبري وابن كثير، ما يلفت النظر إلى حقيقة مهمة لا بد من الوقوف عليها وتأملها. “كان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة، فاستجاب أصحاب الجمل وأذعن علي لذلك، وبعث علي إلى طلحة و الزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننظر في هذا الأمر. فأرسلا إليه أنّا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس. فاطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين. فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا محمد بن طلحة السجاد إلى علي، وعولوا جميعاً على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى أجمعوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم وانسلوا إلى ذلك الأمر انسلالاً، وهكذا أنشبوا الحرب بين علي وإخوته الزبير وطلحة. فظن أصحاب الجمل أن علياً غدر بهم وظن علي أن إخوانه غدروا به، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية، فكيف وقد بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن”اه.
وهنا لا بد من وقفة، لا لتحديد المخطئ أو المصيب في هذا الخلاف بل لإلقاء بعض الضوء على سبب ما وقع، ليكون ذلك درساً وعبرة لضبط الأمور والاهتداء إلى طريقة تؤدي إلى منع الخلاف بين المؤمنين أو حصره ومنع تفاقمه أو امتداده. لقد اتفق الطرفان على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية. وقد كان من الواضح أن هذا الصلح سيشكّل خطراً على فئة حركت الفتنة واختلطت بالصفوف. فما هي الترتيبات والتدابير التي اتخذها من رضي بالصلح من الفريقين حتى تسير خطة الصلح إلى نهايتها لا يفسدها محترف فتنة وإفساد؟ والجواب المؤسف: لا شيء. ومن هذه النقطة نستطيع أن نستجلي الدرس ونستخلص العبرة.
لقد كان واضحاً أن الصحابة وهم خير القرون وأفضل الأمة وأشرف الخلق وفيهم المبشرون بالجنة، وفيهم المهاجرون والسابقون والمجاهدون، لقد كان واضحاً أن كل تلك الميزات لم تنجِ المسلمين ولم تنقذهم من شرور دعاة الفتنة عند غياب الضوابط الإدارية والتنظيمية التي تضع حداً لسوء التفاهم واختلاط الأمور. فالإخلاص وصدق النيات وإرادة الخير وكل ما يتصوره المرء من ميزات خير وفضل، لا تكفي ما لم تستند إلى قاعدة إدارية لا تدع مجالاً لسوء فهم أو سوء تأويل، ولا تترك ثغرة ينفذ منها الذين لا يألون المؤمنين خبالاً وأذى.
وفي القرآن الكريم وفي أطول آية من آياته، آية المداينة، أَمرٌ للمؤمنين بكتابة الدين وتوثيقه والإشهاد عليه ولو كان صغيراً. وجاء في هذه الآية من التفصيلات ما يعجب المرء معه ويتساءل عن سبب هذا الحرص على الضبط والتوثيق. والجواب حاضر في الآية: {ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] فالعدل والقسط محبوبان لله تعالى، ويحب الله تعالى من عباده أن يلتزموا بما يوصلهم إليهما. فـقطع دابر الخلاف وإمكانية التنازع أمرٌ لا بد منه لسلامة الصدور ودوام الأخوّة. وكل ذلك ممكن بالتوثيق والضبط كما أمر الله به في أمر مادي دنيوي فيه تحقيق مصلحة الناس واستقرار في استقامة أمور معاشهم، فمن باب أولى أن يكون الضبط والتوثيق أشد ضرورة وآكد عندما يتعلق الأمر بأمور المسلمين العامة ومصالحهم الجماعية الكبرى.
ورغم وضوح هذا الأمر في أصول الشريعة وفروعها بما لا يدع مجالاً للشك، فقد انتشرت بين المسلمين فكرة عجيبة ولا يدرون أنها كانت السبب المباشر للشرخ الكبير الذي حدث بين المسلمين في تاريخهم الأول في موقعة الجمل. لقد أصبح الدليل على حسن الظن والثقة وسلامة الصدر إغفال الضبط والتوثيق وإهمالهما عمداً أو حياءً، خوفاً أن يكون في السؤال عن الضبط والتوثيق غمز بالثقة وتعريض بسلامة الصدر. والنتيجة النهائية لإهمال فن الضبط والتوثيق ماثل في أمة لا تحسن فنّ التعاون والتنسيق على أي مستوى وفي أي مجال، وماثل في أمة غلبت عليها الفردية القاتلة. فقد أحدث إهمال فن الضبط والتوثيق شروخاً عميقة في عقلية الناس وضمائرهم دفعتهم إلى سوء الظن ومحاولة استيعاب الأمور في قبضة واحدة لا تعرف التفويض أو التوكيل في إطار مدروس متفق عليه. وقد يمثل هذا التوجه المريض في ثقافة الأمة أبيات من لامية العجم المشهورة:
أعدى عدوك أدنى من وثقت به فحاذر الناس واصحبهم على دَخَلِ
فإنما رجــل الدنـيــا وواحــدها مـن لا يعـوّل في الدنــيا على رجـل
لذلك نجد الكثيرين يخافون من الدخول في شراكة أو عمل تجاري مع أقرب الأصدقاء أو الأهل لأن الفكرة الشائعة أن هذا العمل سيودي بالصداقة ويهدم المودة بين الأقارب. والسبب معروف يكمن في إهمال الضبط والتوثيق حياءً واعتماداً على حسن ظنّ غائم لا تنضبط معه واجبات ولا تتحدد مسؤوليات، فيحل سوء التفاهم مكان الثقة وتعصف خيبة الأمل بأواصر المحبة.
وفي خضم الأجواء المأساوية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، التي تعاني منها الأمة، والتي تعكس النتائج التي لا تتخلف لإهمال فن الضبط والتوثيق والتنسيق، تبرز الأهمية البالغة للدرس التاريخي للأمة في موقعة الجمل حيث أصابت الفتنة خير الناس بعد الرسل واكتوى بنارها المبشرون بالجنة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينجهم إخلاصهم وصدق نياتهم عندما غابت الضوابط الإدارية والتنظيمية، فاندس من خلال هذه الثغرة أعداء الأمة وأفسدوا ذات بينها بالخديعة والكذب.
وفي عالم اليوم، نما علم الضبط والتوثيق والإدارة بشكل كبير بحيث غدا هذا الفن جزءاً أساسياً في كل المعاملات المالية والتجارية وكل العلاقات الرسمية والدولية في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد. ولذلك يبدو واضحاً أن نمو فن الضبط والتوثيق في بيئة ما ينعكس على استقرار العلاقات الاقتصادية والسياسية عند أهل تلك البيئة فلا تتعرض علاقاتهم لهزات عنيفة تودي بما اتفقوا عليه من مصالح مشتركة. فحتى عند حدوث خلاف في وجهات النظر في أي قضية وتتوتر العلاقات لا يتعدى التوتر نقطة الخلاف، أو يتجاوز مجال الخصام لتبقى جميع مجالات التفاهم والتعاون على حالها لا تتأثر ولا تتغير.