المسؤولية المهنية: رؤية شرعية

550

وصلني مرةً أحد كتب الإعلان وكان هذه المرة متميزاً بشكل يدعو إلى التأمل والتفكير العميق. كان الكتيب إعلاناً عن مجموعة من الكتب التي تعرض أنظمة وقوانين الجودة وحماية الصحة وتأمين السلامة لأكثر من مائتي صناعة وفرع من فروع الخدمات، بالإضافة إلى سلسلة من الكتب المتعلقة بحماية البيئة لكل ولاية أمريكية بشكل مستقل حيث تتناول هذه الكتب خصوصيات البيئة والتشريعات التي أصدرتها كل ولاية لتكون منسجمة مع القوانين العامة في البلاد. وطبيعي أن هذا الحشد من الكتب لا يتعرض للنواحي الفنية في التصنيع وتنظيم الأداء والمهارات والتقنيات المتبعة، فلهذا المجال كتب متخصصة أخرى لأرباب الصناعات والقائمين على الخدمات.

فكرت في هذا الحشد من كتب أنظمة الجودة والبيئة والصحة والسلامة فوجدتها تستوعب نشاطات وفعاليات ملايين من البشر تعمل في كل قطاعات المجتمع، ولا يكاد يتصور المرء أن من يخرج من بيته كل صباح ليؤدي عمله أياً كان نوعه ومجاله إلا ويتصل بعلاقة ما بهذه الأنظمة، اقتراحاً وتعديلاً في أعلى درجات المسؤولية الإدارية، أو تطبيقاً واستلهاماً في الدرجات الأدنى من السلَّم الإداري أو المهني. ومن ناحية أخرى فإن هذه الأنظمة لها ارتباط بأخلاقيات المهن وأصول ومجالات التعامل. ولهذه الأنظمة في كل مهنة وخدمة علاقة وثيقة بتصور الحق والخير والنفع والضرر والمصلحة ومفهوم المسؤولية والانتماء إلى المجتمع وبيئته المادية ومؤسساته. فليس هناك من إنسان في أي عمل أو موقع إلا ويضبط تصرفاته تصور عن هذا كله سواء كان ذلك التصور واعياً واضحاً أو خفياً يسري في حنايا الثقافة ومسارب المشاعر والالتزام السياسي أو الأخلاقي.

فالانتماء السياسي إلى حزب من الأحزاب يحدد بشكل كبير طبيعة التوجه الذي يعطي القدرة على تحليل الأمور وتفسيرها واتخاذ موقف تجاهها سواء في مسائل الجودة والمسؤولية القانونية والاجتماعية للشركات، أو في مسائل البيئة وحماية الصحة وتدابير السلامة ومشاريع القوانين المتعلقة بها، سواء على مستوى عضو الهيئات التشريعية أو الناخب العادي أو الموظف المسؤول في أية إدارة أو مؤسسة. ففي كل القضايا التي تتعلق بالإنتاج وتوزيع الثروة أو التوازنات بين حماية البيئة والمصالح الاقتصادية وكذلك التوازنات بين تدابير السلامة ومصالح الشركات… كل هذا يتعلق بالرؤية الكلية التي يتصورها الحزب للتقدم والمصلحة الوطنية والعدل والمساواة والحرية وغير ذلك من القيم والمبادئ، من الناحية النظرية على الأقل.

فكَّرت في هذا كله وما يعنيه بالنسبة لاستقرار الأمور وازدياد الفعالية وانضباط العلاقات وحاولت النظر إلى مسلم اليوم وأبيّن موضعه من هذا كله.  يعيش المسلم في هذا العصر وهو يعلم علم اليقين أن الإسلام هو نظام حياة وأن تعاليم الإسلام شاملة تستوعب الحياة بكل أحوالها وفعالياتها ونشاطاتها وتنظيماتها، حتى إذا حاول أن يعيش هذا التصور أصابه التمزق فليس معه الدليل والمعيار الذي يقيِّم به أمور أعماله المهنية التفصيلية من ضبط للجودة أو حفظ البيئة أو تدابير الصحة والسلامة، اللهم إلا بعض التوجيهات الأخلاقية العامة التي غالباً ما تتراجع لتكون في الظل عند غياب الضوابط ولا يبقى حقيقة سوى المصلحة الفردية وروح المنافسة وزيادة الربح.

وانتقلت بي الذاكرة إلى التاريخ وما عرفته الحضارة الإسلامية من مؤسسة الحسبة حيث كان المحتسب يضبط أمور الجودة ويفرض تدابير منع الغش والاحتكار والغرر، وكذلك كان في الأسواق رؤساء ومشايخ للمهن والصناعات والخدمات يقومون بفرض نوع من المعيارية يتحاكم إليها الناس في مداولاتهم ومبادلاتهم. وكان هؤلاء هم الذين يتولون منح الترخيص للسماح بمزاولة المهن بعد التأكد من معرفة طالبي الترخيص بأصول مزاولة المهنة ومقاييس العدل ورفع الغشّ والغرر فيها. وتذكرت فصولاً درستها في كتب الفقه عن أمور تتعلق بالمصالح العامة من مثل إخراج الميازيب إلى الطرقات وما يعتبر عدواناً على حقوق المارة أو الجوار، وأمور أخرى تعكس بساطة الحياة وعفوية تمثّل القيم والضوابط الأخلاقية. فالمسلم الذي كان يعيش في ظل الحضارة الإسلامية كان يتلقى الثقافة ويمارس المهنة ويعيش في مجتمع كل ما فيه يحمله على الالتزام بروح الدين وتحقيق مثله في العدل وإتقان العمل وتحقيق الكفايات ورفع الضرر والظلم والعدوان.

أما المسلم الذي يعيش هذا العصر فهو يعلم أن الإسلام هو نظام حياة وأن تعاليمه شاملة تستوعب الحياة بكل أحوالها وفعالياتها ونشاطاتها وتنظيماتها وتعقيداتها، حتى إذا حاول أن يعيش هذا التصور أصابه التمزق فليس معه الدليل والمعيار الذي يقيِّم به أخلاقية أمور عمله وصوابها في تحقيق المصلحة ورفع الفساد سواء في ضبط الجودة أو حفظ البيئة أو تدابير حفظ السلامة ورعاية الصحة. وعند غياب الضوابط لا يبقى سوى المصلحة الفردية الأنانية وروح المنافسة المادية وزيادة الربح. فليس هناك شيخ مهنة أو محتسب وليس هناك حد أدنى من ضوابط شرعية عملية ترقى في ارتباطها بالواقع لتكون قادرة على مزاحمة برامج الأحزاب وخبرتها في توجيه إدارة المجتمع والتأثير على سياسة المؤسسات فيه.

لقد تعقدت أمور الحياة وتشابكت المصالح فلم يعد ممكناً تحري العدل والمصلحة العامة الراجحة ورفع الضرر بعفوية وبساطة. وأصبح كل أمر يحتاج إلى خبرة وممارسة ومعرفة وحذق قبل تشكيل رأى أو ترجيح أمر من الأمور. فمعرفة مقادير النفايات التي تضر بالبيئة ولا تستطيع الدورة الطبيعية أن تزيل أثرها المتراكم، ومعرفة ما يضر بالصحة ويسبب العاهات من أساليب العمل والإنتاج. ومعرفة ما يمكن اعتباره تفريطاً وإهمالاً في ممارسة المهنة عند وقوع الحوادث التي ينتج عنها أضرار في الأرواح أو الأبدان أو الممتلكات… كل هذا أصبح ضرورياً في ممارسة أية مهنة بالإضافة إلى معرفة ضوابطها الأخلاقية التي ترفع الإثم والحرج والضوابط القانونية التي تحفظ الحقوق وترفع الخلاف والتناحر.

وسيكون من التعسف والظلم أن نطالب علماء الشريعة بإصدار شيء موازٍ لأنظمة الجودة والبيئة والصحة والسلامة لمئات من المهن والخدمات والحِرَف والصناعات حيث يجد المرء أياً كانت مهنته ومجال عمله الضوابط الشرعية التي تحقق الخير والعدل وتمنع الفساد والظلم وتقيم المصالح وتقيم حركة المبادلات والمعاملات باستقامة واستقرار.

وفي خِضمِّ هذه الأزمة يلجأ أكثر الناس إلى حصر الدين بالشعائر والإحسان والصدقات ويُخرجون قضايا العمل والإنتاج والإدارة والبيئة والسلامة من ساحة التدين ويعطون المقاليد فيها للدولة وما تسنّه من قوانين. ولو شارك المتدينون الذين لا يمتلكون الرؤية الكلية للإسلام ولا توجهاته الأخلاقية في تقنين ورسم بعض السياسات لما امتلكوا المعيار والميزان، ولغالباً ما ينتهي الأمر بنقل ونسخ واستعارة القوانين والتشريعات التي تسري فيها روح الثقافات الأخرى وتغيب إمكانية تمثيل الشريعة وإبراز قيمها وأصولها في تزكية الحياة ونشر العدل وإقامة المصالح.

وفي هذه الحال يجد المسلم نفسه على مفترق طريق، فإما أن يتحاشى مناقشة هذه القضية أصلاً اعتماداً على أن ما تقرره القوانين والتشريعات الرسمية فيه الكفاية في تحقيق المصالح والعدل، ولا يخفى ما يحمله هذا التوجه من السلبية واختزال لمعنى الدين، وإما أن يفكر بطريقة أخرى يكون فيها قادراً على المساهمة والمشاركة في صياغة القوانين والتشريعات عند تمكنه من ذلك، وقادراً من جهة أخرى على امتلاك الحسّ الأخلاقي الذي يحمي القوانين من الحرفية والشكلية ويحقق دوام المصالح ورفع الفساد وتحقيق العدل قدر المستطاع.

إن الطريقة التي نأمل أن يكون فيها المخرج من هذه الأزمة ليعود الإسلام إلى دوره في تزكية الحياة ونشر الرحمة تتمثل في منهجية المقاصد والتي تهتم بالكليات والأساسيات والمفاهيم المرجعية، وتفتح المجال واسعاً للاجتهاد والتجديد في تنزيل هذه الكليات والأساسيات في واقع كل مهنة وحرفة وخدمة، وابتكار الوسائل الفنية والتنظيمية التي تكفل تحقيق المصالح ورعاية المقاصد بانسجام مع الواقع المادي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبيئة والزمان والمكان. 

إن كليات الدين وأساسيات الشريعة والمفاهيم المرجعية والعقدية هي موضع اتفاق بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وغالباً ما يقع الخلاف في وسائل تحقيق وتنزيل القيم والمفاهيم. وفي أكثر الأحيان يمكن إعادة الخلاف إلى تباين في فهم الواقع ودراية حقيقة ما يجري فيه. فإذا بدأنا بتقرير الكليات والأساسيات وشملت دعوة الاجتهاد والتجديد كل مسلم ليدلي بدلوه في المساهمة في فهم الواقع وحقيقة ما يجري فيه فيما يتعلق بمهنته وعمله والكفاية التي يتولاها من أمور الأمة فإننا بهذا قد أعدنا الدين وهدايته إلى المكان الطبيعي من حياة الفرد والأمة.

وعندما تبدأ الأمة هذا التوجه يتحرك كل مسلم مهما كان نصيبه من العلم والثقافة على محورين: الأول منهما يتمثل في محاولة فهم الكليات والأساسيات وذلك عبر تلقٍ وحوار دائم مع علماء الشريعة ومصادر التشريع، ويتمثل الثاني منهما في محاولة إتقان وفهم واقع المهنة والحرفة والكفاية التي يقوم على تأمينها في الأمة. ومن خلال هذين المحورين يحاول كل مسلم بالتشاور مع زملاء مهنته وشركاء خبرته أن يبحث عن وسائل تنزيل الكليات والأساسيات وطرق تحقيق المصلحة العامة ورفع الفساد.

فإذا علم المرء أن من كليات الشريعة رفع الغرر والغشِّ والخداع مثلاً، فليس هناك مَن هو أقدر على معرفة وسائل تحقيق هذه الكلية الشرعية في واقع أية مهنة ممن يزاول هذه المهنة ويتعاطى مداخلها ومخارجها كلَّ يوم، ابتداءً من البائع البسيط ومروراً بالتاجر والصانع والإداري والعامل والعالم إلى آخر هذا الطيف الواسع من المهن والحرف والخدمات والصناعات. وإذا علم المرء أن من المقاصد الشرعية للعقود والمبادلات الوضوح والابتعاد عن كل جهالة تؤدي إلى الخلاف، تحرّى من وسائل الضبط والتوثيق ما يتناسب مع واقع مهنته وما يثق بفعاليته في توضيح الأمور وإزالة الإيهام.

إن هذا التوجه يعيد الأمور إلى نصابها في تصور الإسلام رسالةً خاتمة تقرر المبادئ والقيم والكليات الأساسية وتترك الباب مفتوحاً لتجدد الوسائل وتغير الأساليب. ومتى استقرت هذه الحقيقة غدا تاريخ المجتمعات المسلمة منذ عصر الرسالة إلى اليوم محاولات نستلهمها ونضعها في سياقها من الزمان والمكان لنفهم كيف حاول المسلمون عبر العصور تمثل قيم الدين ومبادئه، فيغدو التاريخ مثالاً ونموذجاً تطبيقياً وليس بديلاً عن القيم نحاول أن نعيده ونعيشه مرة أخرى كما هو بتفصيلاته ووسائله بكل ما تحمله هذه المحاولة من عنت وتؤدي إليه من إحباط.

إن هذا التوجه يعيد الثقة إلى المسلم بأنه المسؤول عما استرعاه الله من كفايات ومهارات وخبرات وأنه المكلف أصالة عن إقامة وتمثيل القيم في مجاله وليس هناك من ينوب عنه في هذا كائناً من كان.

إن هذا التوجه ينقذنا من منهجية الحفظ للألفاظ والترديد للعبارات ويدفعنا إلى الفهم والإبداع والحركة والاختبار والاختيار للطرق والوسائل والأساليب. فالاطمئنان إلى أن واجبنا هو الحفظ والترديد يوجهنا إلى الكسل ويزهدنا في التفكير والإبداع.

إن هذا التوجه يرفع الحرج عن علماء الشريعة ويعفيهم من الظن أن عليهم أن يقرروا التفاصيل ويعالجوا كل المسائل فيحملهم ذلك على التكلف والتنطع والقول فيما لا يحسنون. فالأمور قد أصبحت على درجة من التوسع والتعقيد لا يمكن معه تناولها إلا من أصحاب الخبرة والممارسة والدراية. أما المبادئ والقيم والكليات والأساسيات والضوابط فهي مجال علماء الشريعة يستلهمونها من النصوص والتراث والتجربة التاريخية لمجتمعات المسلمين. وتبقى قضية التنزيل بكل ما تحتاج إليه مجال سجال وحوار وتشاور وتعاون بين طبقات الأمة وقادة الرأي والخبرة فيها في كل مجالات النظر والعمل والمهن والحرف والخدمات وجميع وجوه الارتفاق والمصالح.

إن هذا التوجه في الانطلاق من المقاصد والكليات لتحديد الوسائل وترتيب الأولويات يعطي أصحاب الفكر والناشطين من أهل الحركة بصيرة واضحة لمعرفة نقاط الاتفاق ومجالات الافتراق والتمايز بعيداً عن مجرد الاعتراض لتأكيد الحزبيات والعصبيات التي تستهلك الطاقات وتدفع بالأمة إلى التشرذم والتفرق.

وعند ذلك تعود ثقة الأمة بدينها ويتمكن المسلم من أداء دوره في تزكية الحياة وترقية أحوال الأمة سواء كان في أعلى درجات المسؤولية الاجتماعية والسياسية أو في قضايا التنزيل والتطبيق حيث يكون قادراً على استلهام روح القانون ومقاصد التشريعات وقادراً على التحاور وإبداء الرأي والنصح عندما يلاحظ ما يند عن تحقيق المصلحة على الوجه المقبول.

2003